العارف بالله ملا رمضان البوطي
الاجتهاد من الرسول الكريم سيدنا محمد عليه وعلى آله أزكى الصلاة والسلام
الاجتهاد من الرسول الكريم سيدنا محمد عليه وعلى آله أزكى الصلاة والسلام
العارف بالله ملا رمضان البوطي
رأيت صباح هذا اليوم رؤيا عجيبة، لا أجرؤ أن أذكر تفاصيلها. ولكنها تتضمن دعوة إلى كتابة هذه الكلمات:
يستعظم بعض الناس القول بإمكان صدور الخطأ في الاجتهاد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفهمونه على غير المراد. لذا حرصنا على بيان مراد القائلين بذلك، وهم جمهور علماء الشريعة الإسلامية، فنقول:
بسم الله الرحمن الرحيم الموفق للصواب، حمداً لله وكفى، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المصطفى وآله وصحبه الأوفياء الشرفاء.
اعلم أنه لابد لنا قبل البيان والجواب، من عرض مقدمة، وهي أن الأنبياء والرسل المعصومون عن ارتكاب المعاصي، منزهون عن أن ينسب إليهم الخطأ في أي أمر، بحكم من قبل أي شخص من الناس.
كيف لا، وقد قال الله تعالى عن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى)[النجم:53/3] وقال (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله)[النساء:4/64] فكيف يعصي رسول الله ربه مع أمر الله لنا بطاعته؟ أم كيف يحق لنا أن نحكم بخطئه، مع أننا مأمورون بطاعته؟
ولكن إذا قلنا إن الحكم من قبل الناس بخطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أمر من الأمور باطل وغير جائز، فذلك لا يعني أنه غير جائز إن صدر من الله عز وجل في حق نبيه. بل إن ذلك غير ممنوع من الله عز وجل في حق من شاء من رسله وأنبيائه. فإن الله قضي بما شاء في حقهم، ويوجههم أو يعتب عليهم أو يخطئهم كما يريد، دون أن يثبت مثل ذلك الحق ولا شيء منه لعباده.
ومن هذا القبيل قول ابن حجر الهيتمي: يكره أن يقال عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: الرسول. بل ينبغي أن يقال (رسول الله ) ثم قال: فإن قلت: إن الله عز وجل قال (يا أيها الرسول)[المائدة:5/41] قلنا إن الله له أن يقول لنبيه ما يريد.
ونظيره أيضاً قول الفقهاء: لا يجوز القسم بغير الله، ثم قالوا فإن قيل: ولكن الله عز وجل قد أقسم بالتين والزيتون، وأشياء كثيرة أخرى، قلنا: إن الله له أن يقسم بأي شيء، ولا يجوز أن نقيس أنفسنا عليه في ذلك.
حاصل الكلام إذن، أننا مأمورون بتقديس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإثبات العصمة له، وأن ننزهه عن الخطأ الذي يكون برأي الناس واجتهادهم. فإن ذلك يتنافى مع ما هو ثابت من أمر الله لنا بطاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه ويقضي فيه.
كيف لا؟! وإن المجتهد من عامة الناس لا يجوز له الحكم بخطأ من يخالفه في اجتهاده إذا كان من أهل الاجتهاد، فإذا كان المجتهد لا يملك تخطئة مجتهد مثله، فكيف له أن يخطئ سيد المجتهدين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم بحر العلم وأنه يأخذ من ربه، وقد أدبه ربه فأحسن تأديبه. وعلومنا لا تبلغ قطرة من هذا البحر.
ولكن الله عز وجل، وقد علّم رسوله وأدّبه، له أن يخطئه وأن يعتب عليه وأن ينسب إليه ما يريد. فقد قال له عليه الصلاة والسلام {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }الأنفال67وقال له (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) [التوبة:9/43] وقال له {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ }الأحزاب37 وقد روى ابن جرير عن عائشة أنها قالت: ما نزلت آية أشد على رسول الله من هذه الآية، ولو كتم شيئاً مما أوحي إليه من كتاب الله تعالى لكتم هذه الآية.
واعلم أن هذه الآيات وما تضمنه من تخطئة أو عتب من الله عز وجل، لا تلحق أي نقص بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هي تأييد لنبوته ورسالته، لأنها لم تصدر إليه من البشر بل من الله عز وجل.
وبهذا الفهم يتم الجمع بين مذهبي الجمهور ومخالفيهم، إذا يلتقيان عند القدر المشترك الذي يدل عليه قوله تعالى (إن هو إلا وحي يوحى) [النجم:53/3] ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم عندما يخطئ في اجتهاده في علم الله وحكمه، إنما يكون خطؤه ذاك، بإلهام من الله لحكمة باهرة. ثم إن الوحي ينسخ ذلك الإلهام في الوقت المناسب، أي بعد أن يحقق ذلك الإبهام الحكمة المرادة منه، فالكل إذن بأمر الله عز وجل وتوفيقه، وهذا معنى قول العلماء: إن الوحي لا يمكن أن يقر رسول الله على الخطأ.
وهو من قبيل قول الله عز وجل (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا أتينا حكماً وعلماً) [الأنبياء:21/78] فقد أنبأنا الله أنه أطلع سيدنا سليمان وحده على الصواب في تلك الخصومة التي رفعت إلى سيدنا داود. ثم أنبأنا أنه آتى كلاً منهما حكماً وعلماً. أي فله عز وجل حكمة في أن يلهم داود الحكم الذي قضى به، وأن يلهم سليمان الصواب فيها، أي في الخصومة، ثم يوحي إلى داود أن يتحول إلى الحكم الذي قضى به سليمان، على نبينا وعليهما أزكى الصلاة والسلام.
ومن هنا يتبين لنا مراد جمهور العلماء في القول بإمكان صدور الخطأ الاجتهادي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فحاشاهم أن يدعوا أنه صلى الله عليه وسلم قد يخطئ بموجب حكم الناس ونظرهم، ولاريب أنهم بريئون من الحكم من عند أنفسهم بذلك.
انظر إلى ابن حجر الهيتمي –وهو من المتأخرين- كيف تأدب مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نبه إلى كراهية النطق بكلمة (الرسول) بل تقول (رسول الله) مع العلم بأن الله تعالى قال له: (يا أيها الرسول) إذ إن الله له بمقتضى ربوبيته أن يقول ذلك لرسوله أما نحن فلا يجوز أن نقيس أنفسنا عليه.
وأخيرا، فإن على المؤمن أن يحقق ويدقق في هذه المسألة وأمثالها، طبق موازين العلم وأن لا يسرع فينسب الخطأ إلى العلماء فيها، لاسيما وهم الجمهور، ذلك لأن التوفيق ممكن بين قولهم وبين قول القلة التي خالفتهم، كما قد رأيت الآن.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
المصدر : كتاب (هذا والدي) لـ الإمام الشهيد السعيد البوطي.