مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 21/03/2014

خطبة الدكتور توفيق: أثر العلم والتقوى في الخروج من هذه الفتنة


أثر العلم والتقوى في الخروج من هذه الفتنة
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد: فيقول الله تعالى في كتابه الكريم في أول آية أنزلها على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ # خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ # اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ # الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ # عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ( ويقول سبحانه:)يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ( ويقول جلَّ شأنه )هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ( روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يرد الله به خيراً يفقه في الدين، وإنما أنا قاسم ويعطي الله، ولا يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة" أو قال: "حتى يأتي أمر الله" وروى ابن حجر في المطالب العالية عن عبد الله بن مسعودرضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" والمسلم هنا كل من اتصف بالإسلام ذكراً كان أو أنثى، وروى الدارمي وغيره بإسناده عن علي رضي الله عنه أنه قال: "يا حملة العلم اعملوا به، فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق عمله علمه، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يجلسون حلقاً فيباهي بعضهم بعضا، حتى إن أحدهم ليغضب على جليسه حين يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله عزَّ وجل" وروى الحاكم على شرط الشيخين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة".
أيها المسلمون: هذه الأمة أمة خاطبها الله عزَّ وجل أول ما خاطبها، يكلفها بالعلم ويدفع بها إلى سلوك سبيل المعرفة والتعلم، من خلال النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال له (اقرأ)، ورمز إلى كل رموز العلم من القلم والعلم والقراءة، تنويهاً بأهمية العلم، وأهمية العلم لا يشك فيها عاقل عرف حقيقة هذا الدين وأدرك مبادئه، فالعلم مفتاح تصحيح العقيدة والعبادة والمعاملة، والعلم سبيل الحضارة وحسن التعامل مع الكون ونظام الحياة، فمن لم يكن على علم ضلَّ في عقيدته، وأفسد عبادته، وأبطل معاملته. لذلك كان طلبه فريضة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لا يمكن أن تصح عقيدتنا إلا بالعلم، والعقيدة شرط الإيمان وشرط الإسلام، ولكي تصح عقيدتك لابد أن تتعلمها، فما لا يتم واجب تصحيح العقيدة إلا به فهو واجب، أي أن التعلم واجب علينا، وكذلك بالنسبة للصلاة لا يمكن أن تؤدي صلاتك على الوجه الصحيح إلا بالتعلم والتفقه؛ وإلا فإنك قد تصلي ولا تعلم أن صلاتك باطلة، بعضهم كان يذهب إلى الحج مرات ولسنوات، وكان يرتكب مفسدات ومبطلات للحج وهو لا يدري؛ لأنه لم يتعلم ولم يتفقه، وبدلاً من أن يعود مأجوراً عاد مأزورا، عاد بالوزر وبالبطلان وبفساد العمل، ومن لم يكن على علم لم يحسن التعامل مع نعم الله، ولم يحسن التعامل مع الآخرين في المعاملات المادية أو المعاملات الاجتماعية، لم يدرك واجبه وحقه تجاه نفسه، وتجاه زوجه وتجاه والديه وتجاه أرحامه. فلا بد من التعلم لتصحيح التعامل أيضاً، ولابد من الإشارة بأن ما أصبنا به في السنوات الأخيرة إنما أصبنا به، لغياب العلم، ولأن مساحة الجهل التي كانت سائدة استغلها البعض فحرضوا الأمة على وقوع في أمور مخالفة لشرع الله باسم شرع الله، ومخالفة ومناقضة لدين الله وباسم دين الله. كل ذلك بسبب غياب العلم، ولو أن ثمة ضوابط علمية لتصرفاتنا ومواقفنا وأقوالنا وأفعالنا؛ لكنا بمنأى عن كثير من الأخطاء التي أودت بنا إلى الحالة المأساوية التي نعاني منها.
قد يقول البعض إن رموزاً علمية قامت وشاركت في هذا. أجل فلابد لسلامة التصرف من اجتماع أمرين: العلم والتقوى، وعلم بدون تقوى يودي بصاحبه أكثر من الجهل، هو أشد خطراً من الجهل، والعلم الذي كان للمباهاة وللمظاهر بلاء ومحنة أكثر منه نعمةً وخيراً، ألم يقل سيدنا علي رضي الله عنه في حديث لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآنف الذكر ولكنه له حكم المرفوع - وهذا أمر ترونه وتسمعون به وتشعرون به – عندما قال: "سيكون أقوام يحملون العلم، لا يجاوز تراقيهم - أي لم يصل إلى قلوبهم ولم يطهرها – تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملُهم علمَهم، يجلسون حِلَقاً فيباهي بعضهم بعضا، حتى إن أحدهم ليغضب على جليسه حين يجلس إلى غيره"، يتصور أن طالب العلم مِلكُه، الفئوية والعصبية للفئة وللجماعة، جهل مركب ومصيبة أصابت الأمة إضافة إلى الجهل. كنا نود لو أن هؤلاء الذين ينسبون إلى العلم أن يدللوا على مواقفهم بدليل شرعي يصح الاستدلال به ويحتج به في ميزان الشرع؛ إلا أن كلماتهم كانت جوفاء، لم تكن تضمن إلا التحريض على أمرٍ مخالف لمبادئ ديننا ومنافٍ لشريعتنا، نعم هذا البلد بلاد الشام أكرمها الله عزَّ وجل بعلماء متميزين قاموا بنشر العلم الشرعي بدأب وإخلاص، وقامت مؤسسات تعليمية تنهض بتعليم الناس من أهل البلاد ومن غيرها، ولعلكم تتذكرون قبل السنوات الثلاث العجاف كم كانت تعج منطقتنا بطلاب العلم من شتى أصقاع الأرض من مشرق الأرض إلى مغربها، وفدوا إلى هذا البلد لينهلوا من معين العلم الشرعي، فيها عشرات الألوف من طلاب العلم كانوا هنا في دمشق ينهلون من منابع العلم العذب الطيب التي كانت تنشر الهدى والخير في أرجاء الأرض، ضاقت صدور أعدائنا بأن تبقى دمشق وبلاد الشام منهلاً عذباً لطلاب العلم من شتى أصقاع الأرض، ينهلون من معينها ما يستطيعون أن ينشروا به الخير والهدى والرشاد في أرجاء الأرض. فضاقت صدورهم، وأوقدوها ناراً تستعر، حتى فرَّ من فرَّ وهرب من هرب، ولجأ إلى بلده لحرمانه من هذا العلم الذي كانت معاهد العلم في هذه البلدة تعج بها، أكثر من ست وخمسين معهداً شرعياً أقيمت خلال السنوات العشر الأخيرة، ضاقت صدورهم بذلك، واكتأبوا كيف يمكن للعلم أن ينتشر من هذه البلاد، كيف يمكن أن تصبح هذه البلاد معيناً ينهل منه طلاب العلم من شتى أصقاع الأرض يؤدون بذلك فريضة التعلم التي أشار إليها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكي يلبسوا ثوب الشرف الذي ألبسه الله تعالى لطلاب العلم عندما قال: )هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ( )يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ(، ولم يكتفوا بذلك. ضاقت صدورهم فجعلوا يسعون إلى محاربة هذه المناهل العذبة، فخسر كثير من طلاب العلم، أو الكثرة الكاثرة منهم معاهد العلم ومناهله في هذه البلاد؛ بل لقد استهدفوا العلماء المخلصين فاغتالوهم ليطفئوا بذلك شعاع الهدى، ومعين الخير في هذه البلدة يظنون أن الإسلام يتمثل في شخص. الإسلام تعهده الله بحفظه، الإسلام تعهد الله بصونه، ولئن ظن هؤلاء أنهم بذلك يسلبون الشام بركتها، هذه البلاد باركها الله ولن تستطيع قوة في الأرض أن تسلب هذه الأرض بركتها، ارتكبوا جرائم ما ارتكبت في تاريخ هذه الأمة على هذا النحو القذر الذي شهدناه، وبصورة عجيبة من النفاق والدجل، يغتالون الإسلام وباسم الإسلام، ويقتلون العلماء باسم الدين، ويمارسون جرائمهم باسم الهداية والدعوة، ويقرنون جرائمهم بـ (الله أكبر)، إنني لأسال الله عزَّ وجل أن يخمد أنفاس هؤلاء أو أن يهدي من أراد أن يهتدي منهم، لأنهم فتنة وقعت هذه البلاد في شرها وفي شركها، ولئن أصروا على ما هم عليه لينزلن الله تعالى بهم عقاباً عاجلاً وآجلاً، أما إن ارعووا، فالله سبحانه وتعالى يخاطبهم بقوله: )قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا( أقول: عن العلاقة بينه وبين ربهم إن ارعووا وتابوا إلى ربهم وعادوا إلى رشدهم فَلَيَتُوبَنَّ الله عليهم، أما إن أصروا فلينتظروا عذاباً من ربهم وبلاءً يرون فيه عواقب شرهم وفتنتهم، أقول: هذه الفتنة ستنصرف، وقد آذن انصرافها بإذن الله، وستعود بلاد الشام منهلاً عذباً للعلم، ومنارة شامخة لهذا الدين، وينبوعاً للحضارة بعون الله، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تكفل لي بالشام وأهله" ؟؟ ألم يقل "عليكم بالشام فإن الله تكفل لي بالشام وأهله" ؟؟ هذه البلدة هذه المنطقة تكفل الله بها لنبيه صلى الله عليه وسلم، وسوف نرى بفضل الله وعونه عناية الله وفضل الله بعد مرحلة من التأديب ذاقها أهل هذه البلاد. ستعود إن شاء الله تعالى منارة خير وهدى وإرشاد، ويكون بإذن الله تعالى مآل هذه البلدة أن تصبح منهلاً عذباً للعلم والمعرفة، ولعزة الإسلام وسؤدده، بإذن الله تعالى وبفضله وبعنايته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم .
من الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: كلنا قد ضاق صدره واشتد كربه ، وعانى من وطأة هذه الفتنة التي أحدقت بالبلاد وضربت فيها بيديها وقدميها على النحو الذي نرى وعلى النحو الذي يتألم له كل مؤمن، ولئن كنا نبحث عن سبيل للخلاص، فسبيل الخلاص يتمثل بأمور لعل في مقدمتها صدق التوبة إلى الله، وصدق الرجوع إليه، فما أصابنا بما أصابنا إلا بما كسبت أيدينا، والله سبحانه وتعالى يقول: )وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ(، والأمر الآخر هو أن نبحث عن مخرج في طريق الحوار والمصالحة، وأوجه هذا الكلام إلى كل أطياف هذه الأمة بغض النظر عن كونها موالية أو معارضة، أو في موقع الولاية أو في موقع الرعية، أقول: إن سبيل الخلاص من المحنة التي نحن فيها إنما هو في تحكيم العقل والشرع، وفي الحوار الإيجابي الذي من الممكن أن يزيل الكثير من الضبابية التي ضاعت فيها معالم الحق والصواب، والأمر يتطلب سعة صدر وحكمة وإخلاصاً من جميع الأطراف، والذين يأبون الحوار ويصرون على أن يتنكبوا طريقه، هم أعداء هذه الأمة وأعداء هذا الوطن، بماذا احتجوا فليحتجوا. النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء إلى العمرة من المدينة المنورة أبى أهل مكة أن يسمحوا له بأداء مناسك العمرة وصدوه عن بيت الله، فعقد بينه وبينهم صلح الحديبية، بعد ثلاثة عشر عاماً من المحاربة لله ولرسوله، والإصرار على اضطهاد المسلمين وقتلهم، والتآمر على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتبعوا ذلك سبع سنوات من حرب ضروس ضد الدعوة الإسلامية وضد النبي صلى الله عليه وسلم، محاولين بذلك وأد الدولة الإسلامية والدعوة الإسلامية، ومع ذلك حاور وصالح صلحاً يتعجب الكثير من أبناء يومنا هذا مما يمكن أن يوصف أنه تقديم تنازلات، من الذي صالح ؟ رسول الله، مع من ؟ مع مشركي قريش، فماذا ترتب على ذلك، ترتب على ذلك أن انتهت الفتنة، وعاد الأمن والسلام على كلا الفريقين، وبدت الرؤية واضحة، فجاء صناديد الشرك من قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلنون إسلامهم مختارين غير مضطرين، ولا مكرهين، خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهم الكثير؛ أتوا إلى المدينة المنورة يعلنون إسلامهم، هذا الذي ترتب على الصلح؛ ولكن منطق أهل الفتنة: لا للحوار.. لكي يستمر النزيف، ولكي يستمر الخراب ، ولكي يقتل الوطن والأمة. أما نحن فنقول، نعم للحوار ونعم للمصالحة، ونعم لوأد الفتنة ولعود


تشغيل

صوتي