مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 05/06/2021

سر العبادة

مقالات

سر العبادة في معناها لا في مبناها، ومبناها هو ما يتراءى للعيان من حركات ومظهر، ويتحقق بتوافر أركان العبادة وشروطها. وأما معناها فهو ما تنطوي عليه العبادة من فحوى وجوهر؛ ويمثله مشاعر العبودية لله عز وجل.


فلا عبرة بما يبث وينشر من صور للراكعين الساجدين، ولا بما يتبدى منك أو من غيرك للناظرين. لأن المعول عليه الجوهر لا المظهر، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: )إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم( وفي رواية: )ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم(.


ومشاعر العبودية هي التي تجعل القلب منكسراً لله، متذللاً على أعتابه، وهي التي تثمر في القلب محبة الله وتعظيمه، وهي التي تعصم القلب عن كثير من الشواغل والغفلات، وهي التي تجعل العابد يتقلب بين جناحي الخوف والرجاء؛ لسان حاله يقول: إن قبلتني وعبادتي فبفضلك، وإن طردتني فبعدلك.


فإن كان مكثراً من العبادات، لكنه يمارس عبادتَه وقلبه خالٍ عن معنى الانكسار لله، فإن طاعاته تبقى قاصرة لا توصله إلى الله، بل ستكون نهبة للتشتت والشرود.


لسانه يلهج بالدعاء، لكن لسانه في واد وقلبه وعقله في واد آخر. يصلي لكن الكسل قد أخذ من مجامع نفسه، يزكي لكنه لا يتورع عن دفع رديء المال وما كسد من بضاعته، وهكذا شأنه في سائر عباداته. ثم بعد ذلك تراه يمتن على الله عز وجل بطاعاته - مستكثراً أو متفاخراً .. يشعر بركيعاته القليلة، بصيامه، بزكاته، بحجه.. أنه قد غدا من الصالحين الواصلين، قد ضمن الجنة بل تربع في أعاليها ..


هذا حال من يمارس عبادته مفصولة عن مشاعر عبوديته.


أما من استشعر معنى العبودية لله عز وجل فإنه يرى نفسه مقصراً مهما قدم ومهما بذل .. ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل باكياً حتى تتورم قدماه، فإن قيل له في ذلك قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؛ يجد نفسه مقصراً لم يؤد شيئاً من حقوق الربوبية لله؛ وعبدٌ قد أخذت العبودية بمجامع قلبه أنى له أن يتفاخر بعبادته، أو أن يشرد عن ربه، أو أن يؤديها رفعاً للعتب كما نقول.


إن مشاعر العبودية عند سيد العابدين وإمام المتقين صلى الله عليه وسلم هي التي جعلته لا يعتد بشي من عبادته، وأكد هذا المعنى بقوله: (لن يَدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة).


من هنا ندرك قانوناً حتمياً لا شذوذ فيه: كلما غاضت مشاعر العبودية من قلوب العابدين كلما غابت معها آثار العبادة من سلوكهم.


وإذا نظرنا في المسلمين، نجد أن أكثر المسلمين في واد وإسلامهم في واد آخر؛ نمعن النظر فلا نجد للعبادة أثراً تبدى على سلوكهم، قد بات الإسلام غريباً بين أهله ورحمه، أسماءٌ إسلامية.. مظاهر إسلامية.. مساجد عامرة.. مصاحف فاخرة، لكن ذلك كله مظاهر وأُطُر تكسى بها عباداتنا، أما الجوهر فمفقود.


والمفروض أن تجد المصلي عابداً لله في بيته، عابداً لله في سوقه ومتجره، عابداً في معمله، عابداً في وظيفته، عابداً في تعامله مع إخوانه، عابداً في تربية أولاده وبناته. لأن العبودية - لو توافرت - حال يصطبغ به المسلم، وينعكس على علاقته مع أهله وإخوانه ومجتمعه خلقاً وورعاً وسمواً.


فلنتلمس مكامن العبودية من قلوبنا ومكانتها من نفوسنا، ولنجعل منها رقيباً على سلوكنا، كابحاً لنا عن تجاوزاتنا، عسى أن يكرمنا الله عز وجل فيجعلها لنا شفيعاً بين يدي تقصيرنا.

تحميل