مميز
EN عربي
الكاتب: الشيخ محمد ياسر القضماني
التاريخ: 15/04/2020

امرأة لا كالنساء !

مقالات مقالات في التاريخ والتراجم

كان يوماً باكياً مشهوداً، يوم خرجنا فيه ذاهلين مشيّعين وقد علانا الحزنُ، وجلَّلَنا الأسى لرحيل امرأةٍ فذَّة من نساء دمشقَ الشَّام، تفرّدت بخِلالٍ قلَّ أن يتَّصف بها رجال!!


نعم! ربَّ امرأة هي خير من ألفِ رجل!



تلك هي الأستاذة الدَّاعية الفانية في ربّها، العاشقة لنبيّها، الغَيورة على دينها الصّالحة القانتة



سميرة الزّايد - عليها رحمات الله -.



******



إذا ذُكرت الهمّةُ في القرب، وشؤون الطّاعة ذكرت الآنسة سميرة!



ويحدثونك عن صيامٍ دامت عليه سبعَ سنين، وأنعِم بقربةٍ تؤهّلها لدخول الجنان من باب الرّيّان!



وحرصٍ على قيام اللّيل لا ينقطع في كل الأحوال، وهذا حال أهل الكمال والنّوال.



ودوامٍ على إحياء ما بين الصّبح والشّروق ولا يؤتاه إلا أرباب الهممِ العليّة، المُعتَلين للدَّرجات على ممرّ السّاعات.



ولزوم الوظائف الشَّرعية الشَّريفة وعدم التخلّف إلى أن صارت في أواخر العمر الزاهر تغسل كُلاها ثلاث مرات كلّ أسبوع.



ومن رفيع كلامها في هذا الشّأن: {من تحمَّل مُرَّ المجاهدة ذاقَ طَعم الوصال!}.



******



إذا ذُكر القرآن العظيم ذكرت الآنسة سميرة!



فتعاهدها للقرآن هَجّيراها في الغدايا والآصال!



وذُكر أنها تقرأ دون سآمة كلّ يوم أطول سورة في القرآن، وتَسألُ من لقِيتْ عن حالهم مع القرآن، وحرصهم على الفرقان لتستحثَّهم دائماً للتنزّه في رياضه، والحلول في بساتينه.



******



وإذا ذُكرت الأخلاق السّنيَّة والشَّمائل المرضية ذكرت الآنسة سميرة!



فحدّث عن كرمها ولا حرج!



وعن صراحتها في قول الحقّ؛ وهذا من شِيم الأكابر.



وعن تشديدها على نفسها؛ وهذا من شِيم السّلف الصّالح.



وعن زهدها وعدم الخوض في ذكر الدّنيا وشهوات أهلها!



وإذا ذُكرت العناية بالأنفاس ذُكرت الآنسة سميرة!



فحرصها على عدم تضييع ثانيةٍ دون نفع - كما حدّث عنها قراباتها ومن خالطها -مشهورٌ!



وحدِّث لذلك عن قلّة الكلام والطعام والمنام ولا حرج، وهذا مشهور في كتب التراجم عمّا مضى من صلحاء وأخيار العلماء العالمين!



وهذا حال كلّ من عرف حرمة الوقت؛ فإنه يضِّنُّ بالثّانية فضلاً عن السّاعة أو اليوم!



ولسان حال كلّ واحدٍ من هؤلاء المعظّمين لحرمة السّاعات يقول لكلّ من يريد أن يأخذ منه ساعة للغوٍ من القول أو العمل - أمسك الشمس!!



هل يقدر أحدٌ على إمساك الفلك عن دورانه؟!



لا، فلنُجِلَّ الأوقات في كلّ الحالات!



وإذا ذُكرت الغيرة على الحرمات ذُكرت الآنسة سميرة!



فكلّ من خالط هذه المباركة رأى حرصها على غَيبة المسلمين والمسلمات، الأحياء والأموات وهذا لَعمري من أجلِّ الخلال التي يتصف بها سادة الرّجال!



هذا خلقٌ مصطفويٌّ وشأنٌ نبويٌّ!



 .(2) ألم يرد في الشّمائل أن مجلسه- صلى الله عليه وسلم- كان لا تُؤبَنُ فيه الحُرُم (1) ولا تُنثَى فَلتَاتُه


ومن غَيرتها: سؤالها الدائم عن البنات، وأحوالهنّ وخروجهنّ وترددهنّ، وملابسهنّ إلى غير ذلك.



وفي شأنها الخاصّ اشتُهرت بعنايتها بشأن المَحرم للسّفر، وهذا خلقُ المؤمنة الصّائنة للعرض، الوقّافة عند الحدود!



*******



وإذا ذُكرت الدّعوة وهمُّ البلاغ عن الله تعالى ذُكرت الآنسة سميرة!



ومن شجون ذلك ومواقفه المعبّرة؛ أنها تعلّقت مرّة بأستار الكعبة بعد أشواقٍ للخلّاق ونبيّ الخلّاق فقالت والهةً: ربّي سخّر لي كلّ لحظةٍ لمرضاتك، سخّر كلّ خليَّة من بدني لخدمةِ دينك!



وأُثر عنها أنّها قالت:



ضع كلَّك على الدَّعوة واخدُم الدّين حتى آخرَ نَفَس!



وهذا من رفيعِ تلك العبارات المعبّرات عن خدمتها لدينِها وملّتها!



*******



وإذا ذُكرت السّيرة المطهّرة لشؤون الحبيبِ الأعظم -صلى الله عليه وآله وسلم-ذُكرت الآنسة سميرة!



وماذا نقول عن عناية هذه المتَبحّرة في شؤون سيرة سيَدنا رسول الله -عليه الصّلاة والسلام-



فقد أفنت في ذلك حياتها، حتى غدت أشهَرَ امرأةٍ عُنيت بالسّيرة النبويّة في هذا العصر، وكتابها الجامع في هذا أشهر وأكبر كتاب أُلّف في هذا العصر في ستة مجلدات.



وقد وَصَف العلاّمة الشّيخ الدّكتور محمد سعيد رمضان البوطيّ الشّهيد - رحمه الله - هذا الكتاب بأنّه عمل فريد من نوعه، لم يُسبق به بعد وجدير به أن يسمَّى حقاً الجامع في السّيرة النبويَّة.



ووصفه بالإنجاز العظيم والجهد المبارك الكبير وإنّه لجهد قلَّما يستطيع أن يستقلَّ وينهض به فرد واحد!



وقد ذَكَرت الأستاذة صاحبة هذه الكرامة النبويّة بنفسها -رحمها الله تعالى- أنّ مدّة إنجاز هذا الكتاب الفعليّة ثلاثةَ عشرَ عاماً على مرحلتين : الأولى من عام 1977 – 1987م والثانية من عام 1988-1991م



وشَكَرت الدّكتور سعيد -رحمة الله عليه- وأنه كان له الفضل الأكبر في رسم منهج العمل، وكان من ورائه والرَّاعي له.



أقول: قال لي أحد قراباتها - رحمة الله عليها - عندما دُعيتْ لأخذ الجائزة على هذا الكتاب عام 2000 م في (بروناي)، كانت في غاية التّواضع وقد استُعجلت في بعض المواقف للحضور فلم تعجّل؛ وأعطت وضوءها حقَّه من الإتيان بالسُّنن المرعيَّة النبويَّة! فقلتُ في نفسي: هذا أمَارة ٌظاهرةٌ على عشقِ صاحب السّنَّة والسّيرة التي عرفَتها وأفنتْ في ذلك زهرة حياتها!



نعَم! ما نفْعُ أن أُدبّج المقالات وأصْدرَ الكتاب تلوَ الكتاب في شؤون السنّة والسّير ثم أهمل سنن صاحب السّنة، وهيآتِ عباداته ومعاشراته!؟؟



 ويتزيّن كثيرون بشروح الأحاديث، ويتأنّقون في معانيها، وأصولها اللّغوية، ونِكاتها البلاغيّة، ودقائق الكلام عن الرّجال الرّواة لذلك إلى غير ذلك ولكن لا نرى مَجلى لهذه الآثار والتّعلقات بالنّبيّ المختار وقد عاشت هذه المرأة الفذّة حياتها موصولة وموصّلة، ومرفوعةٌ ورافعة، وهاديةٌ ومهديّة، إلى أن فاضت روحها راضيةً مرضيَّة إن شاء الله تعالى.



نعم! رحَلت من اشتهرت بالسّيرة ونقاء السّريرة، ولكن ستبقى من مراجع الاهتداء بإمام الأتقياء، ونبيّ الأصفياء، فلتهنأ وليهنأ كلّ من سار على هديها؛ وبخاصّة من نسائنا وبناتنا، ولا نقول إلاّ ما يرضي ربّنا:



إنا لله وإنّا إليه راجعون



والحمد لله أولاً وآخراً ظاهراً وباطناً، وعلى كلّ حال.



                                                              دمشق الشَّام


                                           عشيّة السبت 17 من شعبانَ المبارك1441هـ



                                                    الموافق لـ 11/4/2020 م


   (1) الأَبنُ: العيب والحُرُم: جمع حُرْمة، أيّ أن المجلس مصونٌ عن الأقوال والأعمال السيّئة.


 (2) أي لا تشاع وتذكر سقطاته وهفواته.

تحميل