شكر القهار تحصين للنعم من الزوال
أسابيعٌ عصيبة وأيامٌ شديدة مرت على أرجاء المعمورة، قد خيمت بظلها الثقيل على الأنام، فلم يسلم من أوارها بسطاءُ الناس ومستضعفيهم ولا طغاةُ العالم ومتجبريهم؛ إذ توقفت عجلة الحياة في العديد من البلدان، وحسبكم ما حصل من انقطاع عن الجمعة والجماعات، وما جرى من تعطل المصالح والأعمال؛ الكل ذاق من لوعتها ... لقد تجلى اسمُ الله عز وجل القهار على أباطرة الأرض، وعلى جامعي الثروات وعلى أرباب النفوذ وأصحاب القرار، فخضعوا جميعاً مذعنين صاغرين لسلطان الله عز وجل وقهره، واحتجروا أنفسهم ضمن أقبية وسرادقات معقمة، واعتذروا عن الاستقبال وامتنعوا على الترحال، كل ذلك خوفاً من هذا الداء العضال، والقضية باختصار: خوف من الموت وحرص على الحياة.
أسابيع قليلة كانت كفيلةً بأن يوقن المؤمن، ويؤمن الكافر، ويتنبه الغافل، ويتيقظ السادر، وتعيد العاصي إلى حظيرة العبودية لرب الأرباب سبحانه وتعالى .. فهل وجدنا من معتبر؟
هل تفكرنا في قدرة القادر الذي قلب - بين عشية وضحاها - نظام العالم رأساً على عقب، بل هل تفكرنا بالوسيلة التي قهر الله بها عباده؟
والوسيلة كما تعلمون مخلوق تافه من مخلوقات الله عز وجل، حتى إنه لهوانه لا يرى بالعين المجردة.
واليوم .. وبعد أن بدأت الغمة تنجلي، ومن أماراتها افتتاح المساجد في الجمعات، كم من دروس ينبغي أن نتأملها، وكم من عبر ينبغي أن نقتطفها، كل حدث سمعناه أو رأيناه ينبغي أن يزيدنا إيماناً بالله، ويقيناً بوحدانية الله، ويقيناً بقدرة الله، وبالتالي ينبغي أن يزيدنا عودة وأوبة إلى محراب العبودية لله عز وجل، بل يقتضي منا توبة بعد شرود، وذكراً لله بعد غفلة، ونحن في أيام عظيمة جليلة، هي أيام العودة إلى الله، والتوجه إلى محراب الله عز وجل. فما نحن فاعلون؟!
لقد حمى الله عز وجل بلدنا هذا بكلاءة خاصة وعناية متميزة، من أن يتفشى فيه الوباء، وسيرفع عنه وعن أهله قريباً البأساء؛ لا بتخطيط بشر ولا بحذاقة عقول، وإنما بمحض فضل منه سبحانه. وحاشا أن تقف الإمكانات والإجراءات في وجه قضاء الله، ولو أن الله عز وجل رفع حمايته ورعايته لهذه البلدة لاجتاحنا الوباء كما اجتاح غيرنا، كيف لا وقد رأينا كيف وقفت دول تسمي نفسها كبرى وعظمى عاجزةً أمام الوباء .. فلنذعن صاغرين لهذه الحقيقة، فلا تسوقنا هذه النعمة إلى تبجح أو اعتداد، ولننسب الفضل لصاحب الفضل سبحانه وتعالى الذي لطف بنا.
هذه الحقيقة ينبغي أن نعيشها بكل ذرة من أحاسيسنا، فتلهج ألسنتنا وقلوبنا له شكراً في كل أحوالنا، واللئيم هو من يقابل صاحب النعمة بالنكران، ويقابل بالإساءة صاحب الإحسان، فكيف ينبغي أن يكون حالنا ونحن اليوم مثقلين بنعم من الله عز وجل تقتضي منا الحمد والشكر، ولو أننا سجدنا لله عز وجل على جمر الغضا مدى الدهر شكراً له لما وفيناه حمدا، ولا أديناه شكرا. ونحن نعلم أن النعم لا تدوم إلا بالشكر.
لذا فإن أول ما ينبغي أن نسارع إليه، بعد أن فتح الله عز وجل في وجوهنا أبواب بيوته، هو الشكر. فهو المانع سبحانه وتعالى عندما منعنا من الولوج إليها، وحاشا أن يخرج قرار من أولي الأمر عن إرادته ومشيئته، وهو الذي أذن اليوم إذ ألهمهم إعادة فتحها بعد أن تجلت لهم دلائل رعايته سبحانه وكلاءته لهذه البلدة، فالحمد له والشكر له.
والشكر ليس عملية لسانية تقوم على تكرار عبارات: نشكر الله نحمد الله .. شكر الله عز وجل سلوك يصدقه اللسان، وأفعال تعكس حقيقة ما في الجنان. وليس من الشكر أن نعود إلى ما كنا عليه من غفلة وتقصير، بل الشكر أن نصطلح مع الله، فنضاعف الجهود فيما تبقى لنا من هذا الشهر المبارك، فمن كان مقصراً في صلاته فليزدد تمسكاً بهذه الفريضة، ومن كان مقصراً في تلاوته للقرآن فليضاعف من همته ونشاطه، ومن كان مقصراً في حقوق إخوانه وذوي رحمه فليستدرك تقصيره، ومن يعكف على معصية تستنزل سخط الله عز وجل فليقلع عنها .. لأن شكر الله اللساني مع العكوف على عصيانه ليس بشكر.
شكر الله سبحانه وتعالى ليس مجرد عباراتٍ ماتت معانيها على الشفاه، مثل هذا الشكر لا قيمة له ولا يقدم ولا يؤخر عند الله شروى نقير؛ شكر الله عز وجل تبنى عليه التزامات، شكر الله يكون باستخدام نعمه في طاعته لا في معصيته، نعمة البصر السمع اللسان المال وغير هذه النعم نشكر الله عز وجل عليها عندما نستعملها فيما يرضيه لا فيما يسخطه، كما أن استخدام نعمه في عصيانه نوع من التحدي الذي يتناقص مع الشكر. ولو أنك نظرت إلى من يطبقُ الشكر بهذا المعنى لرأيت أنهم قلة. وصدق الله إذ قال: (وقليل من عبادي الشكور).
واليوم .. كم من أناس يعكفون مع أهلهم في كل أمسية من هذه الليالي المباركة ليتابعوا مسلسلات تافهة ومناظر محرمة تُبث لهم على الشاشات، فيبددوا أجورهم الذي اكتسبوها في بياض النهار، وكم من المسلمين اليوم من يغفل عن صلاة الفجر، وكم من المسلمين اليوم من يستغل حاجة إخوانه ويرفع عليهم الأسعار في سبيل أن يملأ جيبه بالمزيد من المال السحت ... فأين مثل هذه الأعمال المشينة في ميزان الله من دعوى الشكر؟
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من القليل الذين قال الله عنهم: (وقليل من عبادي الشكور).