مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور مازن المبارك
التاريخ: 01/07/2023

رسالة إلى المسلمين المغتربين

مقالات

بسم الله الرحمن الرحيم


له الحمد وبه أستعين؛ والصلاة والسلام على رسوله الأمين القائل: «برئت ذمتي من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين»{1}.


والبراءة من الشيء لغةٌ تعني الابتعاد والتخلي عنه.


وذلك يعني أنه صلى الله عليه وسلم يبرأ أن يكون من أمته؛ أو أن ينال شفاعته مَن يقيم في بلاد الكافرين.


وأيٍّ مسلم يقبل أو يليق على نفسه أن يتخلَّ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي نتلهف إلى قربه ونرجو شفاعته؟ وربنا يقول: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ).


ومعنى ذلك أن الإقامة في البلاد الأجنبية منهي عنها إلا إذا كانت لغرض الدراسة ومتابعة التخصص، أو للعلاج، والمداواة، أو لغير ذلك من الأغراض المشروعة.


وأما الإقامة التي يراد منها البقاء الدائم والعيش المستمر للعمل والكسب فهي غير مشروعة بل منهي عنها، ومن ذهب أو هاجر ليقيم فهو مخالف شرعاً؛ وليس قليلاً أن يبرأ منه رسول الله صل الله عليه وسلم وأن يحرمه النسب إلى أمته؛ ويحرمه شفاعته؛ وهو مخالف لأمر الله الذي أمرنا أن نطيع رسوله: (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ).


ولقد أصبحت الهجرة إلى البلاد الأجنبية (موضة) يتّبع الناس فيها بعضهم بعضاً كباراً وشباباً؛ أفراداً وعائلات!


لقد أصبح عدد المهاجرين الذين يقيمون في البلاد الأوربية والأمريكية وغيرهما مئات الألوف مِن أطباء ومهندسين وغيرهم من المثقفين والصناعيين ... ونقل كثير من الناس عائلاتهم وأولادهم إلى بلد أجنبي كالسويد وكندا وألمانيا وفرنسا وأميركا فرحين بما آتاهم الله من فضله!! غافلين عن مخالفتهم توجيهات دينهم وأوامر ربهم ونبيهم!!


لقد سألت واحدًا منهم عن سبب انتقاله مع أسرته من سورية إلى كندا فقال لي: (هذه البلاد ماعاد ينعاش فيها).


فقلت له: لماذا؟ أليس لتخلّفها؟ فقال: نعم.


فقلت: وكيف تنهض إذا أصبح مئات الألوف من أطبائها وعلمائها ورجالها وشبابها متخلّين عنها يفرّغونها ليملأها غيرهم! وهل يترك الأب بيته إذا مرض من فيه؟!


إن غيابكم وهجرتكم سبب من أهم أسباب التخلّف الذي تعيشه بلادكم، وإن الله قد أنعم عليكم بما أنعم؛ مِن علم أو تخصص أو مهنة أو عمل؛ وكان عليكم أن تشكروا، والشكر ليس باللسان ولا بالصلاة و لا بالعبادة، ولكنه بالعمل.. (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) لم يقل: (قولوا)» بل قال: (اعْمَلُوا)، وعمل الشكر يعني أن تستخدم ما أنعم ربك به عليك فيما أنعم به من أجله.. فإذا أنعم على الطبيب بالعلم فليداوي مرضى المسلمين؛ لكنه يداوي أعداء ربه بنعمه!! أفهذا شكركم لربكم؟ تتركون الشعب المسلم يئن ويمرض وأنتم ترعون صحة أعدائه!!


إن المخالفة عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم خطيرة، (ويحذركم الله نفسه)، ويريد أن يحب المسلم لأخيه ما يحبه لنفسه، لا أن يفر المسلم من أخيه المريض أو المتعب أو الفقير، ليرعى الكافر ويعيش عيش الأغنياء متولياً عن الزحف، وعن الكدح والرعاية للأهل في أرض الوطن.


إن الإقامة الدائمة والعمل المستمر في البلاد الأجنبية أمر غير شرعي وغير مقبول من جوانب كثيرة وطنية واجتماعية.. فكيف إذا كان المقيم رب أسرة فيها أولاد يتعودون على العيش في بلد أجنبي يصعب عليهم بعد ذلك العودة إلى وطنهم المتخلف!!


وقد عرفت خمسة زملاء اغتربوا وكان بعضهم يأمل في العودة لكن الأجل سبق الأمل، وبقي أولاده حيث كانوا يعيشون مع أبيهم؛ وتزوجت بناتهم أزواجاً من غير دينهن!!


وزاد الأمر ابتلاءً بعد أن أصبحت الدولة تتولى مسؤولية التربية؛ وأصبحت تنتزع الأولاد وتبعدهم عن أهليهم؛ وتطلب إليهم أن يختاروا الجنس الذي يرغبون فيه أن يحسبوا منه: أذكراً تريد أم أنثى؟!! وبعد أن أصبح الآباء يخشون أن يقول ابنهم كلمة تؤذيهم وتودي بهم وتفصلهم عنه وتحرمهم منه!!


إن ابنك أو ابنتك اليوم أصبحت في تلك البلاد قادراً على أن يجعلك (مجرماً) في نظر الدولة المسؤولة عنه؛ وأن يجعلك (عاصياً) لأمر ربك إذا تركت رعايته لتلك الدولة التي تركت لها رعايته وتربيته!!


إنه يوالي غير المسلمين بتقديم المكاسب لهم سواء أكانت مادية أم فكرية أم اجتماعية أم غير ذلك مما يفيدهم ويقويهم؛ وكل ذلك بفضل مناهج التعليم في مدارسنا وهي مناهج بعيدة عن التنشئة الإسلامية وينفصل الطالب بعد الثانوية التي علمته جانباً من العبادات! ثم تركته لثقافات مختلفة وأفكار كثيرة باستثناء كليات الشريعة وهي تضم أعلى مما تضم كليات الآداب والحقوق والكليات الطبية والعلمية!!


وغير خاف أن بلادنا تحمل اسم البلاد الإسلامية وذلك يفرض أن تخرّج طلاباً يحملون الثقافة الإسلامية إلى جانب اختصاصاتهم الأخرى. وذلك غير متاح عندنا.. لأن التخصص العلمي يأخذ كل أوقات الدارسين!! وليس في مناهج كلياتنا العلمية ما يتيح لطلابها الاطلاع على شيء من الثقافة الإسلامية أو الفكر الإسلامي!! على حين أننا يجب أن نخرّج طبياً مسلماً ومهندساً مسلماً.. أي أن تكون الثقافة الإسلامية طابع الاختصاصات كلها، وكذلك تفعل الأمم ذات العقائد والايدلوجيات الخاصة كالشيوعية مثلاً.. لذلك نجد الطبيب الشيوعي والمهندس الشيوعي، وليس لازماً عندنا أن يكون طبيباً مسلماً أو مهندساً مسلماً؛ بل قد يكون شيوعياً أو شبه شيوعي، أو تجده (طبيباً) وكفى!!


الأمر ليس أمر صلاة أو صيام؛ ولا أمر عبادة؛ ولكنه أمر (الولاء) للأمة وللإسلام؛ فكثير من المسلمين من أطباء ومهندسين وغيرهم يصومون ويصلُون ويتعبدون؛ ولكنهم يقدمون علمهم وإنتاجهم للكفرة الذين طبّعوا حياتهم، فأصبحوا في عملهم وإنتاجهم يفيدونهم ولا يفيدون المسلمين، وقد طبّعوا عقولهم في مدارس صاغتهم وفصلتهم عن مجتمعهم وأصبحوا يعيشون حياة لا علاقة لها بدينهم وإن كانت تحتوي على صلاة وصيام!! ولكن نتائج قرائحها وعلومها تقدَّم لغير المسلمين..


لقد أصبح ذلك عادةً وعملاً لا علاقة له بالدين ولا بالتقوى ولكن بالولاء..!!


إنهم صاروا ينظرون إلى كثير من أمور الحياة نظرات بعيدة عن الكتاب والسٌّنة إنه إنسان له شخصيتان إحداهما تركع وتسجد لله والثانية تعمل لخدمة أعداء الله!!


إنه كذلك في الاقتصاد والإعلام والطب وغيره..!!


أيها الإخوة المغتربون:


الحياة قصيرة والآمال خدّاعة والنفوس أمّارة بالسوء، وأشد أعداء الإنسان نفسه، فجاهدوا أنفسكم؛ وإذا اختلفت أحكام عقولكم عن أحكام نفوسكم فإن الدّين هو الضابط للحكم.. وقد أمر المسلمون أن يؤمنوا وأن يعملوا الصالحات وأن يتواصوا بالحق وأن يتواصوا بالصبر.


ولم يؤمروا أن يفرّوا من الاحتمال والكدح وأمروا بالصبر والمصابرة.. وكل من لم يفعل ذلك فهو (فِي خُسْرٍ) وأعيذكم أن تكونوا من الخاسرين، قال بنا جل جلاله: (وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۝  إِلَّا ....) فليخطط كل منكم للعودة بالتدريج إن لم يستطع العودة السريعة، وأسأل الله لي ولكم الخير، والسّلام على مَن اتبع الهدى.


{1} رواه أبو داوود والترمذي والنسائي.

تحميل