مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور بديع السيد اللحام
التاريخ: 06/05/2021

شهر رمضان في السياق التاريخي والقرآني

مقالات

الحمدُ لله وكفى وسلامٌ على من اصطَفى، وبعدُ:


فإنَّ استجلاء الحِكمةِ من وراءِ أَوامِرِ اللهِ تعالى التي تعبَّد سبْحانَه الـمُكلَّفين من عِبادِه بها تقتضي من الدَّارسِ أن يتدبَّر السِّياق التي وردَت فيه تلك الأَوامر، وذلك من ناحيتينِ:


الناحيةِ الأولى: السِّياق التَّاريخي.


الناحيةِ الثانية: السِّياق القرآنيِّ.


وعبادَةُ الصَّومِ التي أُمرْنا بها في شهرِ رَمضانَ لا تَخرجُ عن هذا، فلو تأمَّلنا تاريخَ الأَمرِ بالصَّوم، ثم عدْنا فتدبَّرنا الآيات الآمرة به مُلاحِظيْن السِّباقَ والسِّياقَ لوقَفنا على حِكمٍ جليلةٍ وفوائدَ عظيمةٍ لهذا الرُّكن من أَركانِ الإسلامِ.


أولاً - في السِّياقِ التَّاريخيِّ


فُرِضَ الصَّوم في السَّنةِ الثَّانيةِ للهجرة، وهي السَّنةُ ذاتُها التي شُرِعَ فيها القِتالُ لِصدِّ الاعتداءِ الذي فرضَته طبيعةُ المرحلةِ التي كان يمرُّ بها المسلِمونَ، ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحج: 39-40] عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: كَانَت أَوَّل آيَةِ نزَلتْ فِي الْقِتَالِ ﴿أذن للَّذين يُقَاتلُون﴾([1])، وعَنِ ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لما خرجَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مَكَّة قَالَ أَبُو بكر: أَخرجُوا نَبِيّهم، إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، لَيَهْلِكَنَّ الْقَوْمُ، فَنزَلتْ: ﴿أُذن للَّذين يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا﴾، قَالَ أَبُو بكر: فَعَلِمْتُ أَنَّه سَيكون قتالٌ([2]).


وبالفعلِ فقدَ حصلَ أوّلُ صِدام مسلَّحٍ يَقودُه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في مواجهَة الجاهليَّة القُرشيَّة في منتَصفِ شهرِ رَمضانَ من السَّنةِ الثَّانيةِ للهجرةِ الـمُباركةِ، وذلِك في موقعةِ بدرٍ الكُبرى، في اليوم الذي سماه المولى في كتابه العزيز بـ(يوم الفرقان) الذي فُرِّق به بين الحقِّ والباطِلِ.


ومن المعلوم ضرورةً أنَّ الحروبَ كما تستلزمُ الإِعدادَ النَّفسيَّ والمعنويَّ فإنَّها تستلزمُ الإِعدادَ المادي، في تجهيزِ السِّلاحِ والعَتادِ والمؤنِ، وبالتَّالي فإنَّ هذا يعني أنَّ إِنْفاقَ المالِ كانَ ضروريّاً لبَقاءِ المجتمعِ المسلمِ النَّاشئِ، وأنَّ الإِنفاقَ لن يَقْتصِرَ على مجرَّدِ دَفعِ صَدقاتٍ تسدُّ حاجةَ السَّائلينَ أَو الفقراءِ، بلْ لا بُدَّ منْ بذلٍ لا حدودَ له ضمن إِمْكاناتٍ ماديَّةٍ ضعيفةٍ، عبَّر عنه كتابُ اللهِ بقولِه عزَّ وجلَّ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9]، وبذا فإِنَّنا نجدُ أنَّ الجوُّ في تلك المرحلَة الزَّمنيَّة كانَ جوّاً مَشْحُوناً بالتَّضحيةِ والجهادِ بالنَّفسِ والمالِ، في مثلِ هذا الظَّرفِ فُرِضَ الصَّومُ، وجُعلَ عِبادةً أَساسيَّةً منْ عباداتِ الدِّين الجديدِ، ووضِعَ في مَكانِه منْ هذا النَّظامِ العامِّ المشتِملِ على البذلِ والتَّضحيَةِ في سبيلِ اللهِ دِفاعاً عن الدِّينِ وحِفاظاً على الهويَّة، بما يستلزمُه من إِنفاقٍ وبذلٍ للمالٍ من أُناسٍ كانوا للتوِّ قد هَجروا وطنَهم تاركيْنَ كلَّ ما يَملِكونَ منْ متاعِ الدُّنيا ورائهم ظِهريَّا، ليكونَ تَمريناً للنَّفسِ وتَدريباً وتربيةً لها وتَرويضاً، لا لمجرَّد الزُّهدِ في طيِّباتِ الحياةِ الدُّنيا ومشتَهياتِها التي فُطِرَ الإِنسانُ عليها وحُبِّبتْ إِليهِ، إذ إنَّ الإِسلام لم يأْتِ لكبحِ ما حبَّبه اللهُ للإِنسانِ، بل إنَّ مقاصِد التَّشريع اقتضت تَنظيمَ تلك الشَّهواتِ والطِّيباتِ لا الإِنسلاخَ عنها بالكليَّةِ، بل وضعَها في سياقها الذي يَجعَلُ من السَّعي لطلَبِ المالِ ومن ثمَّ إِنفاقه في الوجوهِ التي حثَّتنا نُصوصِ التَّشريعِ عليها سبَباً لِعمارَةِ ما استُخلفنا عليه، ودَفعاً لمن يريدُ أن يستأثرَ به ليوظِّفه في الفَساد والإِفسادِ، ومن ثمَّ لم يرضَ الإِسلامُ الفهمَ المغلوطَ للزُّهدِ ذلك الفهم المتمثِّل بالتَّخلي عن السَّعي في الأْرضِ وعِمارتها، يؤكِّد هذا المعنى ما وردَ من أَنَّ أَحدَ الصَّحابة حدَّثته نفسُه أنْ يُقيمَ في غارٍ مُترهِّباً، فمنعَه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من ذلك مبيِّناً له أنَّه لم يُرسَل بذلك، فَعنْ أَبِي أُمامَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنا مَعَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَريَّةٍ مِنْ سَراياهُ، قالَ: فَمَرَّ رَجُلٌ بِغارٍ فِيهِ شَيءٌ مِنْ ماءٍ، قالَ: فَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِأَنْ يُقيمَ فِي ذَلِكَ الغارِ، فَيَقوتهُ ما كانَ فيهِ مِنْ ماءٍ، وَيُصِيبُ مَا حَوْلَهُ مِنَ البَقْلِ، وَيَتَخَلَّى مِنَ الدُّنيا، ثُمَّ قالَ: لَوْ أَنِّي أَتَيْتُ نَبيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فإِنْ أَذِنَ لي فَعَلْتُ، وإِلَّا لَمْ أَفْعَلْ. فأَتاهُ فَقالَ: يَا نَبيَّ اللهِ، إِنِّي مَرَرْتُ بِغارٍ فِيهِ ما يَقوتُني مِنَ الماءِ وَالبَقْلِ، فَحَدَّثَتْنِي نَفْسي بأَنْ أُقيمَ فيهِ وَأَتَخَلَّى مِنَ الدُّنيا؟ فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «... بُعِثْتُ بِالحَنيفيَّةِ السَّمْحَةِ، والَّذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَغَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنيا وَما فيها، وَلَمُقامُ أَحَدِكُمْ فِي الصَّفِّ - أي صَّفِّ القِتالِ في سَبيلِ اللهِ - خَيْرٌ مِنْ صَلاتِهِ ستِّينَ سَنَةً»([3]).


ثانياً - في السياق القرآني


يقول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185]


هذه الآيات هي واسطةُ عقدِ سورةِ البقرةِ التي ذكرَ أَبو بكرِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أنَّه سَمِعَ بَعْضَ أَشْيَاخهِ يَقُولُ: «إِنَّ فِيهَا أَلْفُ أَمْرٍ ، وَأَلْفُ نَهْيٍ ، وَأَلْفُ حُكْمٍ ، وَأَلْفُ خَبَرٍ»([4]).


وقدْ سبَق هذه الآيات آياتٌ منها قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [البقرة: 168] ثم جاء بعدَها قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الـمُيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 172- 173] وهي آياتٌ - كما نرى - دالَّةٌ على أنَّ الأصل في حياةِ الإنسانِ إِباحةُ الطَّعامِ، وأنَّ الفطرَة السَّليمةَ تستدعي التَّنعُّمَ بالطِّيباتِ، وشكرَ المولى عليها، وعليه فإِنَّ الصَّومَ بتركِ الطَّعامِ والشَّرابِ وتركِ التَّنعُّم بما أَحلَّه الله من الطِّيباتِ ما هو إِلا استثناء من أَصلٍ لحِكمةٍ أَرادها الواهبُ المنعِمُ سبحانه وتعالى، يقتَضيها النظامُ الربَّانيُّ الذي رسمَ لنا حدودَه الكتابُ الكريمُ، كما أنَّ هذا الاستِثناءَ مقيَّدٌ في حدٍّ زمنيِّ ﴿أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ﴾، ولذلكَ كانَ صومُ الدَّهر مَكروهاً، ببيانٍ نبويٍّ صريحٍ، قال عليه الصَّلاة والسَّلام فيما أَخرجَه الشَّيخانِ([5]): «لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ» وفي روايةٍ لابن ماجَه([6]): «مَنْ صامَ الأَبَدَ، فَلا صامَ، وَلا أَفْطَرَ»، ومعنى (فَلا صام) أي ليسَ له ثوابُ الصِّيامِ على التَّمامِ، (ولا أَفْطرَ) لتحمُّله مشقَّة الجوعِ والعَطشِ؛ كلُّ ذلك مع قلَّة الأجرِ والثَّوابِ.


إذاً فعبادَة الصَّومِ إنَّما جاءَت في القُرآنِ ضِمنَ سياقِ نظامٍ مُتكاملٍ، وَتَزدادُ الصُّورةُ وضوحاً إِذا ما عُدنا إلى آيةِ البرِّ التي سبقَت آياتِ الصَّوم؛ وهي قوله تعالى ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الـمُشْرِقِ وَالـمُغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالـمُلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الـمُالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالـمُسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالـمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الـمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177] إِذ نجدُ أنَّ هذِه الآية وضَعتْ أَيدينا على قاعدةٍ عامةٍ في العِباداتِ، وهي أنَّها - أَعني العبادات - ليستَ مقصودةً لذاتِها، بل هي جزءٌ من نظامٍ عامٍّ، يقرِّرُ هذا النِّظامُ أنَّهُ لا قيمة للعبادةِ إِذا أُهملت بقيَّةُ أَجزاءِهِ أو عطِّلت؛ لقد حدَّدت هذه الآية حقيقَةَ البرِّ وبيَّنت أنَّ الصَّلاحَ والتَّقوى ليس مجرَّدَ إقامةٍ للشَّعائر، وأنَّ البرَّ ليس في التَّوجُّه إلى جهةٍ معيَّنةٍ فحسب، بل للبرِّ أَركانٌ متمثِّلةٌ بالإِيمانِ بالله، وبذلِ المالِ في وجوهٍ عديدة ذكرَها، وإقامَة الصَّلاةِ، والوفاءِ بالعهدِ، والصَّبرِ في كلِّ الأَحوالِ وخاصَّة في الشَّدة والحربِ، وقد خُتمَت بوصفِ الـمُستَجمِعينَ لهذِه الأَركانِ بالصِّدق والتَّقوى على سبيلِ الحصرِ وكأَنَّها نفت هذه الصِّفة عن غيرهم ممن يكتَفون بظاهرِ العِباداتِ.


وهذا المعنى تؤيده آياتٌ كثيرةٌ في كتابِ اللهِ تعالى منها قوله تعالى: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج: 37] وقوله: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الـمُسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 19].


ثم جاءَت الآياتُ التي تلت آياتِ الصَّومِ لتؤكِّدَ المعنى ذاته من خلال الأَوامرِ والنَّواهي لتؤدي في مجموعِها إِلى بناءٍ نظامٍ اجتماعيٍّ مُتَماسكٍ.


فجاءَ النَّهي عن أَكلِ أَموالِ النَّاسِ بالباطلِ، ويندرجُ تحتَ هذا النَّهي أَنواعُ المظالِم الماليَّة: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188].


ثم جاءَ الأَمرُ بالقتالِ في سبيلِ اللهِ ردّاً للمُعتدينَ: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الـمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190] ودفعاً للفتنَة ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 193].


وتلى ذلك الأَمر بالإِنفاقِ في سبيلِ اللهِ: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الـمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195] وقد فسَّر الصَّحابةُ الكِرام الهَلاكَ هنا بالبُخلِ عن الإِنفاقِ في سبيلِ اللهِ وخاصَّة في دفعِ العَدوِّ ومقاتلَتِه.


تلكم هي الآياتُ التي جاءتْ آياتُ الصَّومِ في سياقها أَفادتْ في مجموعِها أنَّ الصَّومَ ينتظِم ضمن نظامٍ إِجتماعيٍّ يقضي باتِّخاذِ خِصالِ البرِّ سبيلاً للتَّعامل في الحياةِ، كما يقضي الامتناعَ عن الظُّلمِ في الأَمواِل، كما يأمرُ بالقِتالِ في سبيلِ اللهِ لصدِّ العدوانِ وحمايةِ الدِّينِ والمحافظةِ عليه، ويحثُّ على بذلِ المالِ في سبيلِ المصلحَة العامَّة، وهذا في مجموعِه يؤذِن بأنَّ من أَهدافِ الإِسلامِ الكُبرى تربيةُ النَّفس بالكفِّ عنِ الشَّهواتِ وإِمساكِها عن الملذَّاتِ - في حدودٍ حدَّدَها التَّنزيلُ المقدَّس - تَرويضاً لها وتأْهيلاً للتَّضحيَة بها في سبيلِ ما هو أَعظمُ منها أَلا وهو تَحقيقُ مقاصِد الشَّريعةِ المطهَّرة المتمثلَّة بحفظِ الدِّينِ والنَّفسِ والمالِ.


وبذا صار واضِحاً لدينا من خلالِ السياقَين التاَّريخي والقرآني مكانَة رمضان بوصفِهِ شهراً للصَّومِ في إِطار نظامِ الإسلام العام المتكامل الذي يتحقَّقُ فيه كمالُ الدِّينِ وإِتمامُ النِّعمة.


 


([1]) أَخرجَه عبد الرَّزَّاق في المصنَّف (9743).


([2]) أَخرجَه أحمد (1865) وَالتِّرمذيّ (2171) وَالنَّسائيّ (3085).


([3]) أحمد في المسند (22291) والطبراني في الكبير (7868).


([4]) ينظر: الإتقان في علوم القرآن (4/ 142).


([5]) البخاري في باب صوم الدَّهر، (1976)، ومسلم في باب النهي عن صومِ الدَّهر لمن تضرر... (1159).


([6]) سنن ابن ماجه باب ما جاء في صيام الدهر (1705).

تحميل