مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 31/10/2021

متى ستخضع منَّا الرقاب؟!

مقالات

ها هو ذا حرُّ الصيف قد اخترق فصل الشتاء، فلا مطر يهمي، وإنما شمس ساطعة في كبد السماء.


وما زال العاصي مستمراً في معصيته، والظالم مستمراً في ظلمه، ومقتنص الحقوق مستمراً في غيه، وقاطع الرحم مستمراً في قطيعته، ومانع الزكاة مستمراً في منعه، وآكل الربا مستمراً في خطيئته .. وفوق هذا وذاك تراه متكئاً على أريكته غير عابئ بمعصيته؛ يحدثك عن أسباب القحط ويفلسفها لك بطريقة فجّة، فمرَّة يعزي سبب القحط إلى ظاهرة الاحتباس الحراري، ومرة يعيدها إلى ما يسمى بالاضطراب المناخي، ومرة إلى ما تناهى إلى سمعه عن تمزق طبقة الأوزون؛ مما تسبب في تأخر المنخفض الذي يحمل المطر وتسبَّب في تلاشيه.


حديث ثقيل على القلب سمج على الآذان، كأنك تصغي إلى ملحد ساذج من أولئك الذين يعزون التدبير إلى الطبيعة، وإلى غضب الطبيعة.


ومن ذا الذي يرفع المنخفض ويخفض المرتفع؟ ومن ذا الذي يُعزُّ الذليل ويُذلُّ العزيز؟! كيف تسللت مفاهيم أهل الجحود إلى عقول المسلمين حتى تاهوا عن مسبب الأسباب، وانزلقت ألسنتهم إلى هذا الانحطاط؟! وبات أحدهم يفلسف المشكلة وأسبابها على طريقة الملحدين.


ولو أنه اختصر الطريق على نفسه، فشمَّ رائحة كفِّه، وأقرَّ بذنبه وتقصيره، لُكفي.


ووالله الذي لا إله غيره، إن سبب تأخر الغيث لا طبقة أوزون ولا احتباسٌ حراري ولا تغير مناخ، ولا حتى ما يُرتكب من معاصٍ وآثام، فكلنا ضعفاء وكلنا خطّاء، وإنما السبب هو الاستكبار على الله، والتعالي عن الرجوع إليه. السبب هو الاستخفاف بالمعصية ذاتها، وعدم المبالاة بحدود الله، ولا بالنُذر التي أحاطت بنا من كل جانب، ويوشك والله أن يوردنا هذا الحال موارد الهلاك.


فالله عز وجل هو الذي يبتلي بالقحط ويمنع الأمطار، وهو الذي لا يعجزه تمزق طبقة الأوزون ولا الاحتباس الحراري حتى يسقي الأرض الجدباء. بيده مقاليد الأمور، وهو خالق الغيوم ومسير السحاب (صنع الله الذي اتقن كل شيء). 


فيامن غفلت عن الله، ماذا تفيدك فلسفة الأسباب والتقعر في الكلام، لو استيقظت ذات يوم فتفتح صنبور الماء لتغسل وجهك أو لتعب شربة ماء، فتجد أن نعمة الماء قد تلاشت، فتتهافت مع الناس إلى الآبار لتجدها قد غاضت، فتتهافت معهم إلى الينابيع القريبة والبعيدة فتجدها قد بادت. ماذا يفيدك تحليل المشكلة وفلسفتها عندئذ؟!


ماذا تفيد فلسفة الأسباب إذا أصبحت فوجدت أن ما تفيض به الأسواق من خضار وثمار قد زوت كميتها، وغدت الأشجار المثمرة حطباً والنباتات هشيماً تأكلها النار؟!


في تلك اللحظة - وأسأل الله تعالى اللطف - سيدرك المؤمن والملحد على حد سواء، ألا ملجأ ولا ملاذ إلا الله؛ ستتلاشى اللغة التي يتحدث بها الناس، وستجدهم جميعاً خاضعين موقنين بأن الله هو من حبس قطر السماء، وهو وحده القادر على رفع البلاء.


فلماذا لا تخضع - من اليوم - لأمره الرقاب؟ ولماذا لا تخشع القلوب قبل أن يحيق بنا العذاب؟


ولئن أغاثنا الله عز وجل من قبل أن تخضع الرقاب، فلنعلم أن ذلك كرمى لعيون أطفال رضع لا ذنب لهم، وكرمى لعيون بهائم رتع لا معصية عليهم، وكرمى لعيون حفنة من شيوخ ركع بهم يرفع الله عنا البلاء.


فأسأل الله تعالى أن يعاملنا بلطفه لا بعدله، ويهبنا لسعة رحمته وصفحه، فيسقينا كرمى لعيون من لا جريرة عليهم.

تحميل