موعظة كبش
))ضَجّتِ الأرض والسماءُ من ظُلمكم وَعُتُوِّكُم يا بني آدم، فآن لي أن أستريح ((
تلك كانت آخر كلمات جاد بها صاحبي الذي فارقني حين أسلم روحه، وقد أتبعني بنظرات ما زالت تُلاحقني بمغزاها الكبير حتى الآن.
نعم! ما زالت كلماته تَرِنُّ في أذني وتعمل عملها في نفسي، وصحبتي له ما استتَمّت ساعة! نعم ما استتمت ساعة! ولو كنتَ معي حين لقائه لشعرت بها تَدَفَّق من سويداء قلبه، مُخلصة مِن مَحض تجربته، وهو الذي خَبَر الناس فى مواضع شتى، وعرف الكثير من شؤونهم وأحوالهم!.
تعالوا أطلعكم على شيء مما ناجاني به صاحبي هذا... الكبّش! لا تظننَّ أنني أمتدح رجلاً من الرجال الأشداء، أو شهماً من ذوي الغَيرة الصادقة، كما تقول العرب: هو كبش؛ إن أرادوا أن يمتدحوا رجلا أو يُثنوا على خِلاله! لا، لا! إنني مُحدثكم عن كبش حقيقي له قرنان عَجيبان من أُمَّةِ الغنم المباركة التي خلقها الله!.
وهاكم القصة:
كان اللقاء عندما شاء الله تعالى أن أُكلّف بذبح خروف في أواخر رمضان المبارك الذي انصرم لِيفَرَّقَ لحمه على مُحتاجين منكوبين ومساكين مُكروبين، واشترط الموكِّل أن يكون كَبشه المذبوح أفضل مَا أرى من الأغنام، وَبَذلَ حُرَّ ماله ما يشتري به اثنين لا واحداً!
وفيما أنا أتفقد قطيعاً في سُوقها وقعت عيناي على كبش لا كالكباش يلوب يَمنة ويَسرة، وكأنه على موعدٍ معي! قلت للقيِّم: ما رأيك؟ قال: هذا، وأشار إلى صاحبي، فقلت _دون تلبث_: هاته! كان صاحبي يُهرَع أمامي دون دفع، وكأنه على مَوعد اشتهاه، وتشوق إلى لقياه.
وأضجعوا صاحبي في مُؤخرة سيارتي، وقد عَلِمَ أنها آخر رحلة له في حياته، وولى رَبُّ الغنم بعد أخذ الثَّمَن ودسِّه في جيبه!.
وَعُدتُ خَالياً بكبشي وأنا أحسُّ بِحرّ أنفاسه، فداخلتني رهبة وَتَرَقب، وكان يُخَيلُ إليَّ أنه يَنظر إليَّ نظر حصيفٍ خبير، فسكنتُ على حذر؛ فقطع عليَّ سكوني، وأقلقني تحديقه فيَّ، وأهاجَني، فقرأت في عينيه شيئاً لا أحسن وصفه أو التعبير عنه، وخِلته يُحادثني، فكان مما وَعيت عنه:
- هكذا دأبكم يا بني آدم!.
* ففوجئت بخطابه المبين، ولكن ثبتّ وقدرت على المحاورة ذاهلاً عما حولي، فَرَدَدْتُ قائلاً: أي دأب تعني يا صاحبي؟.
_ قال: تُغْرَوْنَ بشهوتكم ولو كان فيها إزهاق الأرواح وإفناء الأمم من أمثالنا، فنحن أمة كسائر الأمم ممن خلق الله!.
* قلت: عجباً لكم! ألم يبح الله لنا ذبحكم وأكلكم من خالص أموالنا التي رزقنا!؟.
- قال: أجل! لقد أحلَّ الله لكم دماءنا حتى في الأشهر الحرم؛ هدياً بالغ الكعبة، وذبحكم لنا طاعة تتقربون بها إلى ربنا وربكم! نعم! أباح الله لكم التمتع بلحومنا وشحومنا، والتنعم برغد العيش على دفء أصوافنا، ولين مسِّ جُلودنا، ولكن!.
* قُلت: ولكن ماذا؟!.
- قال: هل تأدبتم مع هذا الإله الذي أباحنا لكم وحلَّل لحومنا طعمة لكم؟.
هل تأدبتم مع هذا الوَهَّاب الذي لو شاء أن يُحرِّمنا عليكم لفعل، ولصرتم مُجرمين لو امتدت شِفَاركم إلى حلوقنا؟! هل تأدبتم مع هذا الرَزَّاق؟ أم أخذتم ما تشتهون مما أباح، وتركتم ما تكرهون مما حَرَّم؟!.
* قلت: زدني بَياناً رحمك الله!.
- قال الكبش - بعد تنهد - : عجباً لأمركم يا بني آدم!
قل لي بالله عليك: ما تقول في هذا الذي يذبحني مُتمتعاً برخصة الله له في حَزّ رَقبتي بسكين، وسلخ جلدي، وَبَقر بطني، وتكسير عظامي، وتقطيع لحمي، وتذويب شحمي، ثم يَأتِي هو بعّينه فيضعني على مائدة عشيقته التي تعشقها، ويصفُّ بِجِواري - وأنا بين مشوي ومقلي ومسلوق - كؤوس الخمرة المحرمة لتمنحه ابتسامة أو التفاتة؟!.
مَا تقول في هؤلاء الذين يُجهزون على حياتي مُتمتعين برخصة الله لهم؛ لِيتَقَوَّوا بي في ليلة حمراء على عُهر وفجور، أو سلب ونهب؟!.
أرأيت إلى هذا الذي يُؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض؟!.
* قلت: صدقت!.
- ثم أردف قائلاً - وقد احمرَّت منه الحَدَقُ واهتاج صوفه -: تقولون أباحنا الله لكم؟! حَسَناً، ألم يُرشدكم النبي الكريم الرحيم صلى الله عليه وآله وسلم إلى آداب تُحتذى في حقنا، وتقتفى إزاءنا، ما اتبعتموها إلا قليلاً ؟!.
* قلت: ما تعني ؟!.
- قال بلهجة الساخر -: ما تعني؟ أنتم تُحسنون بقر بطوننا، واستخراج أمعائنا، وَلَّفها في بطونكم بَعد أن تتأنقوا في حشوها أرزاً ولوزاً وما فَضَلَ من وقتكم شيءٌ لَتعرِفوا فيه الأدب معنا، حتى في الساعة الأخيرة التي نفارقكم فيها غير آسفين على صُحبتكم ؟!.
* ويتلعثم لساني، وتبدو عليَّ آثار الخجل، فيبادرني مُحتداً:
إن غنماً كثيراً من الضأن والمعز مِن إخوتي وأخواتي وأرحامي وجيراني وممن لا أحصي من أصدقائي زهقت أرواحهم دون تأدب مع تلك السنن النبوية والآداب المرعية السَّنيَّة! نعم لقد سيقُوا للذبح بقسوة وغلظة، يدعُّون دعّاً كما يدعُّ أهل النار إلى جهنم! وفوق هذا قضوا جائعين عطاشاً ما عُرض عليهم قبل إراقة دمهم الزكي طعام ولا شراب، فمضوا غير شاكرين ولاراضين، وأكثرهم لم يسامح!.
ولقد حزّت رُؤوس كثير من أصحابنا الأغنام بشفارٍ منكم لم تُحَدّ وسكاكين مثلومة، فذاقوا الموت أشكالاً وألواناً دون رأفة أو رحمة! أَؤنبّؤكم بآلم ما يكون في حقِّنا نحن أمَّة الغنم؟!
* قلت - بأسىً وتألم ظاهرين-: ماهو خفف الله عنكم؟
- قال: آلم ما يكون في حقنا نحن أمة الغنم أن تذبح الشاة منَّا بجوار أختها، فتراها مُتَشَحِّطَة بدمها، تتلبط به، فنذوق الموت مَرَّات من قبل الممات!.
أقسمنا عليكم بالله إلا نحَّيتُم وُجوهنا عند الذَّبح عَن ضَحايا أهلنا وأحبابنا، لا نهلك قبل الهلاك؛ ارحمونا! ألم أقل لكم أنتم لا تعرفون إلا حشو بُطونكم بلحمنا الحلال!؟.
أحرام عليكم الأدب، معنا وقد دُعيتم له وندبتم إليه ؟!.
* قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، والله لو سمع الناس كلامك لندموا على ما فعلوا!.
- كان يتدفق في حديثه كالسيل الجارف، ثم تنهد مُطلقاً زفرة حارّة، والتفت قائلاً: اسمع!.
* قلت: ماذا؟
- قال: أنتم تعرفون القبلة؟!.
* قلت: وكيف لا أعرفها!.
- قال: لِمَ لَمْ توَجِّهُونا إليها في سَاعتنا الأخيرة؛ وقد ندبتم لذلك؟!
إنَّ سخالاً لنا لا يُحصَون كثرةً رَقدوا رقدتهم الأخيرة لغير القبلة! ألا تتقون الله فينا، لنسلم أرواحنا على السٌنّة؟! أنتم لا تعرفون! هذا من أشق المصائب علينا وأكبر النوازل بنا! ثم انبرى بحدة ظاهرة قائلاً: التفت إليَّ !.
* قلت: _ مُشفقاً _: مَاذا ؟!.
- قال: اسمع منِّي: لئن لم يكن لنا _ نحن أمة الغنم _ من فضلٍ عليكم إلا أنَّ أحد أجدادنا وهو الكبش العظيم الذي افتدى الله به جَدَّ النبي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم لكفى به فضلاً!!
* طربتُ من قوله معجباً وأنا أبتسم، فلحظت بريق عينيه وهو مُختال بِذلك، وأتبع:
- ألم يقل الله عن النبي الكريم اسماعيل صلوات الله وسلامه عليه: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)؟! قُل، من ضحَّى بروحه من أجل بقائه صلاحاً لكم ورحمة بكم؟!.
إنَّ مَناقبنا كثيرة ومن أَجَلّهَا أنَّ صفوة البشر ونقاوة الناس _ وهم الأنبياء والمرسلون _ كانوا يَرْعَونَنَا ويَرَتضُون صُحبتنا، نَقِيلُ حَيثُ يقيلون، ونرحل حيث يُرتحلون، ونَحُلُّ حيث يَحُلُّون، لا نَزِيغُ عَنهم ولا نشرد، وكم من أناس زاغت عنهم وشردت! لقد أخذوا منَّا رَحمةٌ لكم، وقَبَسُوا حنكةً وسياسةً في رعايتكم، فَلَنَا فضلٌ عليكم لا تُنكرونه، وآخرُ الكرام صحبة لبعض أجدادنا رسُولُ الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حيث رعاهم على قراريط لأهل مكة، وكلُّهم شهود، واسألوا الحَجُوْنَ يُخبركم بوطء أقدامنا وَتَرَدُّد أجدادنا الكرام مع خير الأنام صلى الله عليه وآله وسلم؟!.
ثم رفع رأسه قائلاً: ومن أفخم مناقبنا أن النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم أوصى باتخاذنا أم المؤمْنين أم هانىء حيث قال: (اتخذي غنماً: فإن فيها بركة)[1]!
* قلت: إي والله! فيكم بركة وأيُّ بركة، فمنافعكم كثيرة كثيرة، كالنخل من الشجر، حتى الفِرسَن في قوائمكم يُهدى ويُتحف به.
- ثم كان أعجب العجب في كلام هذا الصاحب العُجاب أن قال لي: ومن كرامة الله لنا أن ستَرَ عوراتِنا نحن الضأن، فلا يظهر منَّا قُبُل ولا دُبر! أمَّا أنتم عجبتُ لكم، ففيكم من يتباهى بكشف العورات وإظهار السوءات من الشباب والبنات!.
وهنا خفضتُ رأسي حياءً من قوله، وَكيف أنكر أو أَردّ عليه؟! واخجلتاه! بهيمة تفحم آدميّاً !.
- ثم قال: اسْتَحيِيتَ مني؟! مَاذا نقول لكم؟ إِنَّنا لا نعجب الآن من تَعَدِّي بعضكم على كثير مِنّا دُونْ أدب، فلقد رَأَينَاكُم تزهقون آلافَ آلافِ الأرواح منكم من بني آدم، وتتلذذون بتمثيلهم وسحق عظامهم بما لم يُصنع معنا نحن العجماوات ولا ما يُدانيه!! إن فتنكم العظيمة وبلاياكم السُّود رقَّقت مُصَابنا بسوء صَنيعكم بنا وبخاصة ساعة الذبح!!.
* وها هنا ما عادت تحملني رجلاي لشدة الأسف وعِظم المصاب بنا؛ فَعَاوَدتُ الاسترجاع، وتمنيت أني ما لَقِيتهُ وما لقيني، ولاكان توكيل بذبح ضأن ولا معز!.
- وحانت التفاتة من الكبشِ فقال بلهجة المشفق: اسمع! ستكثر فيكم الفتن، وستتعاظم الدّواهي حتى نكون نحن خير مالكم تتَّبعون به شعَفَ الجبال ومواقع القطر؛ كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم! فإذا كُنّا خير مَالكُم في حالك الأيام القادمات - وما أظن أوان قدومها إلا قد أظلَّ - أفلا ترعون حقنا قبل بُلوغها؟.
* قلت: حنانيك! ماذا أصنع بك، أين أذهب، كيف أجرؤ الآن على ذبحك وسلخ جلدك بعد هذا الحديث؟ وماذا أقول لوكيلي؟ ليته ما كانت وكالة!
_ قال صاحبى _ مُبتسماً _: لا عليك، أسلمني لشِفَار هذا الجزار، فقد أَدَّيتُ النُّصح، وأبلغتُ في الموعظة، وإنَّه لمن أحلى أيامنا وأَهنئها على قلوبنا _ نحن معشر الغنم _ يوم نذبح فيه لله، ونؤكل للتقوي على طاعته! وأما أنت فممَّن يَضَعُنَا حَيث يَشاءُ ربُّنا!.
فكان أن صَفّ قوائمه واستسلم للجزار، وقال ما صَدَّرتُ به موعظته _ وهو يُسرِّح الطَّرف في الأفق _ : ضَجّتِ الأرض والسماءُ من ظُلمكم وَعُتُوِّكُم يا بني آدم، فآن لي أن أستريح!!!.
[1] أخرجه ابن ماجة فى سننه، عن أم هانىء رضي الله عنها، باب اتخاذ الماشية.