مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 15/07/2022

من مفاسد الأعياد

مقالات

سلسلة من المفاسد والمنكرات، تتسع وتمتد مع قدوم الأعياد؛ فتتحول الطاعة إلى معصية، وتنقلب الحسنة إلى سيئة. وتفسد لذة التجليات على قلوب العباد في مثل هذه المناسبات التي سنّها لنا رب العباد جل شأنه.


لذا ينبغي أن نكون منها على حذر، ومن عقابيلها على وجل. وهي كثيرة يضيق المقام عن حصرها وذكرها، لكن ينبغي أن ننوه إلى أهمها:


وأول هذه المفاسد، ما يحصل من اختلاط بحجة أداء واجب زيارة الأقارب وصلة الأرحام، فبمناسبة العيد تحصل اللقاءات، فيدخل الرجال على النساء، ويجلس في مجلس يضم بنات العمومة أو بنات الخؤولة، أو في مجلس يعم زوجة الأخ. وهي بدورها لن تتوانى عن الجلوس في مجلس يعم أبناء العمومة أو زوج الأخ، فيتجاذبون أطراف الحديث ويجري ما يجري من مباسطات ... كل ذلك بحجة أن: (صلة الأرحام من واجبات الأعياد)، وبهذه الحجة يغدو المؤمن مأزوراً لا مأجوراً.


لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال فيما اتفق عليه الشيخان: (إياكم والدخول على النساء). فقال رجل: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: (الْحَمو الْمَوْت). وِالْحَمْوِ: هم أَقَارِب الزَّوْج وأقارب الزوجة.


ويقول الإمام النووي في بيان معنى (الْحَمو الْمَوْت): "مَعْنَاهُ أَنَّ الْخَوْف مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ غَيْره، وَالشَّرّ يُتَوَقَّع مِنْهُ .. لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْوُصُول إِلَى الْمَرْأَة وَالْخَلْوَة مِنْ غَيْر أَنْ يُنْكِر عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيّ. وَعَادَة النَّاس الْمُسَاهَلَة فِيهِ، فَهَذَا هُوَ الْمَوْت، وَهُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيّ".


وفعلاً .. كم حصل من دمار أسر نتيجة الاختلاط، وكم خربت بيوت نتيجة مخالفة أمر الله عز وجل عندما قال: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا).


ومن مفاسد الأعياد، ما تشهده الأماكن التي خصصت لإسعاد الصغار وإدخال البهجة في نفوسهم من مفاسد تربوية وتجاوزات أخلاقية .. في تلك الأماكن يجري ما يندى له الجبين، وتقشر له الأبدان، ويشعل نار الغيرة في النفوس على أعراض المسلمين، احتكاك غير مبرر بين الشبان والفتيات، ومراهقون ومراهقات قد اختل لديهم ميزان الأخلاق، فتنبو عنهم تصرفات مخلة. وفوق هذا وذاك أغان هابطة تدوي بالأرجاء تفسد الفطرة الإنسانية وتعكر الذوق السليم.


وليت شعري ما مصدر التلازم بين فرحة الصغار وهذه الأصوات المنكرة، التي تفسد الفطرة السليمة والذوق الإنساني الرفيع؟!.


ومن المفاسد التي تزداد اتساعاً في الأعياد، الثياب العجيبة والملابس المخزية الفاضحة، التي لا تليق بذوي المروءات؛ تصف الأجساد وتكشف العورات، ما بين ضيق ومخرق وممزق وكاشف للنحر وقصير ... ملابس تزري بلابسها ولابستها، ويخجل ذوو المروءة من النظر إليها ناهيك عن اقتنائها، ومع ذلك فقد ارتضاها مسلمون ومسلمات، فهم اليوم يتلقفونها لأولادهم وبناتهم ويقولون لأهل الكفر والفجور: مرحباً بما عندكم مما يسخط الله ورسوله من تفاهات ونفايات.


ترى .. من الذي ضحك على العقول، حتى حصل هذا التحول المريع بل التشوه الفظيع في ضوابط الحشمة والحياء، أين الناصحون والناصحات؟ أين المربون والمربيات؟


ومن مفاسد الأعياد، هذا الجهاز الذي أدمنته النفوس وتعلقت به العيون، وبات في جيب كل شاب وفتاة، صغير وكبير، غني وفقير، رغم ثمنه الباهظ، ومتطلباته المادية التي لا تنتهي.


وأول مفاسده في الأعياد، هذا الشرخ الذي أحدثه بين الأرحام وبين الإخوان والخلان. فإلى الأمس القريب كانت الأعياد فرصة لوصل ما انقطع من صلات، يتواصل الناس ويتراحموا،‏ ويجتمع الشمل بعد افتراق، فتتجدد مشاعر الود فيما بينهم‏،‏ وتمتد شبكة التراحم والتواصل بعد فتور‏.


كانت الأعياد فرصة لتتآلف القلوب وتبش الوجوه وتتقد مشاعر الحب بين العيون، من خلال تبادل الزيارات بين الأرحام، وتفقد أحوالهم، وإصلاح ذات بينهم عند وقوع المشاحنات، من خلال مشاركتهم الأفراح والأتراح، بتوقير كبيرهم والعطف على صغيرهم، بمد يد العون للمحتاج منهم، بتبادل الهدايا معهم، بالإحسان إليهم وإيصال ما أمكن من الخير لهم، ودفع ما أمكن من الشر عنهم..


هكذا كان يترجم واجب الصلة بين الأرحام وبين الإخوان والخلان في الأعياد، لكن مع انتشار هذا الجهاز، مسخ واجب التواصل بين الأرحام والتزاور بين الإخوان، وتحوّل إلى قوالب، تتمثل في رسائل قصيرة مسبوكة جاهزة خالية عن العواطف والمشاعر الصادقة مشفوعة بوجه تعبيري يغطي مشاعري الكامنة، تتخير من شئت من قائمة الأسماء وترسلها لهم عبر زر الإرسال، دون تفريق بين رحم وأخ وصديق عافية.


وهكذا مسخ واجب الصلة والتواصل الذي ارتضاه لنا الله، حتى بلغ الحضيض. 


وإذا كان هذا حال الكثيرين اليوم، فما موقع كلام المصطفى عليه الصلاة والسلام من حياتنا إذ يقول فيما يرويه البخاري: (ليس الواصل بالمُكَافِئِ ، ولكنَّ الواصل الذي إذا قَطعت رحِمه وصَلَها). هل كان يعني بالمواصلة هذه القوالب الجاهزة التي حدثتكم عنها؟! أم أن المقصود الإحسان إلى المسيء، وزيارة الجافي، ومد يد العون للمضطر والمحتاج، وغض الطرف عن الباغض والحاقد منهم!


والعجيب في الأمر، أن تغني مثل هذه الرسائل الجوفاء عن واجب التواصل والتزاور لإخوة ورحم لا يفصلك عنهم سوى بضعة مئات من الأمتار. والله عز وجل يهدد ويتوعد قائلاً: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ).


والأعجب من هذا وذاك، إن حصل لقاء بين الأرحام أو بين الإخوان والخلان، تجد أن هذا الجهاز بما فيه من خيرات وموبقات قد بات على الغالب محور كل جلسة واجتماع وتربع على عرش المجلس فهو صلة الوصل فيما بينهم وسيد اللقاء. لم تعد تتلاقى منهم العيون، ولا تبش فيما بينهم الوجوه، بل إليه تشرئب العيون والأعناق.


وحسبكم حجة علينا قول الله سبحانه وتعالى: (لَّا خَيْرَ فِى كَثِيرٍۢ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ).

تحميل