مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 28/12/2021

من معاني تقلب الأعوام

مقالات

في مثل هذه الأيام من كل عام يحتفل الكثيرون بمناسبة ولوجهم بعام جديد، ويتخذون لذلك أشكالاً وسبلاً متعددة؛ سهرات وحفلات وألوان وأضواء .. كلها سبل لا يبتغى بها رضى الله عز وجل، ولا تسترضي قلوب أي من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام.


وليس هذا شأن من أدرك أنه عبد قد ولج إلى الدنيا بلا اختيار وسينزع منها قريباً بالاضطرار.


ولو تأملت فيما تخفيه هذه المظاهر؛ لوجدت أنها غطاء لشؤم خفي يتربص بهم، وسعي لتناسي وحشة تلفُّ قلوبهم، وهروب إلى الأمام من الغصة التي تأخذ بغلاصمهم. ولتحسرت على أناس يغذون السير في غياهب نفق مظلم، تلفه جهالة بالمصير الذي إليه مآلهم، فبات أحدهم يغطي أساه، ويتناسى وحشته بتلك السهرات والأضواء.


إن تقلب الأعوام، يحمل في طيه معنى واحداً لا ثاني له، هو دنو الإنسان من قبره عاماً كاملاً. والإنسان الذي تمر عليه هذه المناسبة، ولا يلقي لهذا المعنى بالاً فهو - لا شك ولا ريب - من الغافلين، ولو أن المسكين أدرك بفكره الثاقب ما تحمله هذه المناسبة من نذر، لما انجرف في أتون مزيد من الغفلة، وبدلاً من إحياء ليلة رأس السنة بضجيج وصخب، ستجده مطرقاً رأسه، عازماً على أن يستزيد من الطاعات، ويضاعف من العبادات، يسأل الله تعالى المغفرة على ما مضى من زلات، ويبارك فيما بقي له في الحياة.


إن من أدرك معنى الحياة وما تحمله تقلبات الأعوام من معان ساميات، يبقى متقلباً ما بين خوف ورجاء؛ قد أرق فكره وقض مضجعه هذا السؤال: (على أي حال سيكون الختام؟).


لأن دخول عام جديد يقتضي من العاقل أن ينظر فيما قدم لحياته، وما ادخره لآخرته. يستوجب عليه أن يحاسب نفسه فيْمَ يزهق الساعات؟ وفيم يبدد دقائق العمر واللحظات؟


إن من يغز السير في سنوات العمر وقد فقه معنى الحياة، يعاف صبوة شبابه، ويستكين للمصير الذي دناه، ويزداد تعلقاً بالعفو والصفح الذي رجاه، لسان حاله يقول: "رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ".


لأنه أدرك أن قطار العمر لن ينتظره، إن كان صغير اليوم يوشك أن يكون من كبار آخرين، وإن كان من شباب اليوم يوشك أن يكون من رجال آخرين، حتى إذا نظر إلى المرآة ورأى الشيب قد غزا رأسه وفوديه لم يندم على ما فرط من ساعات، وما فاته من مبرات .. لأنه كان ممن يغتنم الدقائق واللحظات، ويسعى سعيه في الطاعات، كلما فرغ من طاعة انتصب لأخرى وهكذا .. حتى يأتيه اليقين.


والحسرة على من أخلد إلى الأرض واتبع هواه، اشتغل بالتفاهات، ثم مضى إلى قدره المحتوم بجعبة خاوية من المبرات، وقريباً قدره المحتوم سيلقاه.


 

تحميل