مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 07/10/2022

ماذا فَقَدَ من وَجَدَك!؟

مقالات

نِعَمُ الله عز وجل على عباده كثيرة، لكن أجلّها نعمة (الإيمان). ولولا ذلك لما قال في محكم كتابه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً).


بنعمة الإيمان، عرفتُ الله عز وجل إلهاً خالقاً، وتعرفتُ على ذاتي عبداً ضعيفاً، وأبصرت موطئ قدمي في هذه الحياة، فأدركت قصة خَلقي وسر وجودي، وعلمت أن الدنيا بوابة بين يدي لقاه، إنه ربي خلقني ورزقني وتفضل علي؛ شهدت عظمته في مخلوقاته، وعاينت لطفه وحلمه في نعمه التي غمرني بها من فرقي إلى أخمص قدمي، رغم كثرة ذنوبي وجراءتي..


وما أنا إلا هباءة تافهة في مملكته المترامية، لولا نعمة الإيمان. بها اكتسبت قيمتي، وبانتسابي إليه شعرت بعبوديتي، ومن خلالها بتُّ أناجيه وأخاطبه، فيسمع كلامي ويرى مكاني، فيقبل علي - كما أقبل عليه - بكيفية تليق بذاته العلية، ويباهي بي ملائكته.. وهو من .. وأنا من؟! هو الرب وأنا العبد، وهو الخالق وأنا المخلوق.


فكيف بي وهذه حالي، وحال إنسان هائم على وجهه، يمضي حياته على غير هدى؛ دخل إلى الدنيا وخرج منها وما عرف ربه، ولم يذق لذة مناجاته، ولم يستشعر متعة السجود بين يديه، يمضي حياته اليوم على غير هدى، ويموت على ضلالة.


بل كيف لا أحبه ولا أشتاق إليه، وقد كان حبه لي سابقاً على حبي له. ولولا حبه لي لما حبّب إلّي الإيمان وزيّنه في قلبي. ولولا حبه لي، لما أشعرني بعظيم هذا الفضل والامتنان، ولما ألهمني هذا العرفان. فكيف أغفل عن حمده وشكره! وقد أنار بنعمة الإيمان بصيرتي.


فيا من آمن بالله عز وجل رباً، وتمسك بأهداب دينه ولباب شريعته، ثق بأنك من أحباب الله عز وجل بشهادة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ألم يقل فيما رواه الحاكم في مستدركه وأحمد في مسنده: (إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه).


فشتان بين أقوام اختصهم الله، فأدخلهم في دائرة (يحبهم ويحبونه)، وأقوام لم يذوقوا طعم الإيمان وهم الذين (لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها).


يا من آمن بالله عز وجل، افرح بفضل الله عليك ولا تأسف على ما فاتك من الدنيا وملذاتها، فإن من آمن بالله عز وجل استحوذ على منبع الكمالات وتاج الخيرات. وصدق سيدي ابن عطاء الله إذ يقول: (ماذا فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟)


قلب ذاق طعم الإيمان لا بد وأنه استشعر عظيم ما وجد، ووصل إلى منبع السعادة والرشد، فلا ينشغل بالسواقي والأغيار، عن حب الواحد القهار؛ فإن (من عرف الله عاش، ومن مال إلى الدنيا طاش، والأحمق يغدو ويروح في لاش، والعاقل عن محبوبه فتاش) كما قال سيدي سري السقطي.


فاحذر أن تكون ممن يدعي محبة الله، ثم يحسد الناس على ما آتاهم الله من لعاعة الدنيا وملذاتها، فوالله الذي لا إله إلا هو، إن لذة معرفته لا توازيها متع الدنيا ولا نعيم الآخرة ولا حتى جنة المأوى.


أترى سعادة المحب بالنعمة أم بالمنعم؟ بالهدية أم بمرسلها؟ بالجنة أم برب الجنة وخالقها؟!


أما اللئيم فيفرح بالنعمة وينسى المنعم، ويفرح بالهدية ويتنكر لمرسلها، ويمعن في معصية خالق الجنة ويمني نفسه بها.


ووالله ما فرحنا بنعمة الإيمان إلا لأنها دليل على محبته، ولا فرحنا بالجنة إلا لأنها دليل على رضاه.


وآية هذا الذي أقول: أترضى أن يقال لك يوم القيامة: إن الله ساخط عليك، لن تراه ولن ينظر إليك، ادخل جنته وانهب من نعيمها ما تشاء، لكن لا تخاطبه بدعاء ولا ترفع يديك إليه برجاء، فلن يستمع إليك ما دمت مطروداً من دائرة المحبوبين لديه ..


لعمري أهذه جنة نعيم أم جحيم مقيم؟!


إنما جنتي بانتسابي إليه، وبئس حال عبد طرد من دائرة المحبوبين لديه، فالسعد كل السعد لمن استحوذ على نعمة الإيمان، واستشعر عظيم الامتنان من الملك الديان عندما قال: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ).

تحميل