ما بين شتاء وصيف عزاء وعبر
مضى فصل الشتاء بما حمله من خير عظيم وغيث عميم، وبما حمله أيضاً من معاناة للفقراء والمحتاجين، وتبعه فصل الربيع الذي مر سريعاً كما هي عادته، وها نحن اليوم نلج حر الصيف .. فسبحان من جعل مع كل شدة فرجاً، ومع كل عسر يسراً؛ ليعتبر المعتبرون وليدرك المدركون حقيقة هذه الدنيا. وصدق من قال: دوام الحال من فرط المحال.
وما بين شتاء وصيف يُخرج الله سبحانه وتعالى الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويحيي الأرض بعد موتها .. فيبدل جدب الأرض اخضراراً، لتزهو بألوانها وفاكهتها وثمارها، فتتمتع يا أيها الإنسان بلذة الطعم وجمال الألوان، وإياك أن تحجب بالصور والأشكال عن مبدعها ومصورها، (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها)،
مضى فصل الشتاء وغدت أتعابه ذكرى، وستستمر هذه المتاعب تلاحقك تترى .. إنها جولةٌ تواجهك بتحدياتها في كل عام وستعقبها جولات لمن يكتب الله تعالى له الحياة. وصدق سيدي ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى إذ قال: "لا تستغرب وقوع الأكدار ما دمت في هذه الدار". واعلم أن فصل الصيف هو الآخر لم يأت إليك ليبقى، بل قريباً سيرحل كما رحل الربيع ومن قبله الشتاء، وكأن كل فصل من هذه الفصول يهمس في أذنيك ويقول: لا تركن إلى نعيم زائل، فإني عما قريب راحل.
إن توارد الفصول الدائب المستمر يمثل حقيقة الحياة الدنيا بما فيها من منح ومحن، وبما فيها من عسر ويسر، وبما فيها من شدة ورخاء، (وتلك الأيام نداولها بين الناس). وقريباً ستنقضي الحياة كما تنقضي الفصول .. فهل من معتبر؟!
تأمل قوله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا) ولاحظ كيف يُصور الله سبحانه وتعالى هذه الحياة على أنها ظلٌ زائل، ويُشبه هذا الظل بالنبات الذي يخضرّ على وجه الأرض في فصل الربيع من كل عام، وما هي إلا ساعات أو أيام وإذا بهذه النضرة المتألقة قد تراجعت إلى ذبول، ثم تنظر إلى هذا الذبول، وإذا به قد عاد كما قال الله سبحانه وتعالى: (هشيماً تذروه الرياح) ذات اليمين وذات الشمال.
ظاهرةٌ نراها بأبصارنا ولها دلالة جلية ينبغي أن تنعكس على بصائرنا، فننتقل من هذا المشهد إلى حقيقة الدنيا التي نتقلب في شؤونها ونتيه في غمارها، ذلك لأن الله عز وجل شاء أن تكون هذه الحياة الدنيا جسراً إلى مقر. فهل من معتبر؟!
ثم إن عبرة أخرى جعلها الله عز وجل في هذه الفصول، عندما حمّل كل فصل مغانم ومغارم، مظاهر شدة ورخاء في كل آن، مزج خيرات هذه الفصول بما فيها من أسباب سعادة بالمصائب والشرور؛ ففرحك بهطول الغيث مع ما في فصل الشتاء من تحمل مشاق البرد القارس، وفرحك بفاكهة الصيف مع ما فيه من الحر اللاهب، وهكذا هي حال الحياة الدنيا بكل مجالاتها ومستوياتها، جعل نعيمها ممزوجاً بكثير من الشرور، وجعل مبهجاتها ممزوجة بكثير من المنغصات، وجعل حلوها مقترناً بكثير من المر؛ حتى لا تتعلق بها، ولا تركن إليها أو تسعد بشيء فيها، وحتى تبقى على ذكر من أنك اليوم تمر من بوابة الدنيا إلى حياة أبدية لا كدر فيها ولا شقاء. فتعيش مع قول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ).
فإذا نادى منادي الرحيل أن قد حانت ساعة الانتقال إلى الله تكون قد بلوت سيرة هذه الحياة؛ كيف لا وقد رأيت أنه ما من لقمةٍ تزدردها وتتمتع بها إلا ومن قبلها أو من ورائها أو معها غصة تعاني منها، عندئذ ترحل من الدنيا غير متعلقٍ بشيء فيها، تنتقل للقاء الله وأنت تعلم أنك راحل من الغصص والمكدِّرات إلى النعيم الصافي؛ حيث لا جوع ولا عطش ولا تعب ولا نصب ولا برد ولا حر ..
فصول العام الأربعة التي نتقلب بها أو تتقلب بنا .. نموذج مصغر عن هذه الحياة، فكم شهدت هذه الفصول أناساً من أمثالكم هم اليوم تحت التراب قابعون، ولو أتيح لهم أن يحدثوكم عما يجول في خواطرهم لسمعتم منهم حديثاً عجباً، عن الندم الذي يفري بهم، وعن الأمنيات التي يرجون تحقيقها فيعودوا ولو لساعة فيصلحوا من أعمالهم. وصدق سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذ قال: "الأموات محبوسون في قبورهم، نادمون على ما فرطوا، والأحياء في الدنيا يقتتلون على ما ندم عليه أهل القبور!، فلا هؤلاء إلى هؤلاء يرجعون، ولا هؤلاء بهؤلاء معتبرون". فهل من معتبر؟!
اللهم اكشف عن بصائرنا الحقائق، حتى لا نكون عنك من الغافلين، واجعلنا على ميعادٍ مع رحمتك، حتى نكون ممن يسعد بلقاك .. آمين