مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 28/12/2021

شؤون وأحوال اتفقت للشيخين البوطي والعتر رحمهما الله تعالى

مقالات

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على سيد السادات سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد .. 


حدثتكم في الأسبوع الماضي عن أهمية الارتباط بالأكابر والمرجعيات، الذين يمثلون سلسلة مباركة، الحلقة الأولى فتتمثل بمنبع الخيرات وعين الفضائل والمبرات سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وأما حلقتها الأخيرة فتتمثل في علماء ربانيين انتهت إليهم السلسلة ولما تنتهي بهم، الذين كانت الشام تذخر بهم في القرن الماضي، ومن هذه حلقة السلسلة الأخيرة برزت ثلة كان لهم قدم السبق في تأسيس هذه الكلية، وخط مناهجها، وكان لهم الفضل في علو شأنها، وترسيخ قواعدها.


كما أدركنا في المحاضرة الماضية سر الاصطفاء الذي اختصكم الله عز وجل به عندما انتسبتم إلى مدرسة هؤلاء الأكابر، فبتم تمثلون جزءاً من حلقة جديدة من السلسلة، تحملون الأمانة لمن بعدكم كما حملها من قبلكم، فأنت نلت شرف التبعية بخير البرية من خلال نسبتك إلى هذه الدوحة المباركة، ولنعلم أن الدين محفوظ بنا وبغيرنا، لكن إما أن تنال شرف الانتساب إلى دائرتهم أو أن تخرج نفسك من دوحتهم.


وقلت لكم: لا يليق بمسلم يفخر بنسبته إلى خير البرية، أن تكون صلته مع الأكابر الذين كانوا سبب الوصول وصلة الموصول منبتة. لأن خلق الوفاء يستوجب علينا أن نتعرف على أحوالهم وشؤونهم. أن نتعرف على شيء من شيمهم وأخلاقهم، أن نقتفي أثرهم، لنجعل من سيرتهم نبراساً نستضيء بها في حياتنا، وننهض به من كبوتنا، ونجعل من محبتهم شفيعاً لنا بين يدي الله عز وجل. لأن محبتهم سعادة، وملازمتهم سيادة.


لا يليق بطالب علم أن يتنكر لهم وهو يجلس على مائدتِهم، ويقرأ عباراتِهم، ويدرس مناهجَهم.


لذا نلتقي مرة أخرى لنتحدث عن بعض شؤونهم وأحوالهم، ولكن حديثي سيقتصر على رجلين منهم، أما الأول فهو أسوتي وصاحب الفضل في حياتي جدي العلامة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، وأما الآخر فهو سيدي وشيخي وسندي بعد جدي المحدث الدكتور نور الدين عتر رحمهما الله تعالى وطيب ثراهما.


ولعل فيكم من يسأل وما السر في تخصيص المحاضرة عنهما سوية؟ والسر هو ما قد شرفني الله عز وجل به في سني حياتهما الأخيرة من ملازمة تامة، وكلاهما له علي من الفضل ما أعجز عن وصفه، إذ قبلاني في ملازمتهما بالوصف الذي قبلاني فيه، فكان ما كان من تفضلات وعنايات وأنظار، فجزاهما الله تعالى عني خير الجزاء، وما زال أثر هذا الفضل يرافقني، وأتقلب فيه حتى بعد انتقالهما، وأسأل الله تعالى يديمها وأن يجعل محبتي لهما شفيعاً لي يوم ألقاه.


ولو أردت أن استقصي لكم ما أعرفه من أحوالهما وما علمته من شؤونهما، لاستوجب ذلك منى سلسلةَ محاضرات لا محاضرة واحدة. فكان توجيه الدكتور حسان حفظه الله هو أن نقتصر ونستعرض أهم ما اتفق لهما من أحوال وشؤون مما يهم طالب العلم وطالبة العلم. لذا سأسعى جهد الإمكان للملمة أبرز ما اتفقا عليه. وأنقلها لكم باختصار وجهد الإمكان، عسى أن ننتفع بكل شان وبكل حال.


وبداية كما هو منهج سيدي الشيخ نور الدين ينبغي أن يحرر كل منا نيته، ويتخذ اهبته للانتفاع بأحوالهم، والارتباط بهم، ونرجو من الله أن يربطنا بهم وبشيوخهم، فإن للعالم شفاعة في أهله وأحبابه يوم القيامة، وحاشا أن يكون حظنا من هذه المحاضرة تزجية للوقت:


كلنا يعلم أن الرجلين كانا من عيون الأكابر الذين أسسوا هذه الكلية، كلنا يعلم دَورهما البارز في تأسيس هذا الصرح بمناهجه والنهوض بطلابه، وتثبيت دعائمه وفي الذود عن حياضه. فقد تأسست الكلية عام 1954، وعين جدي فيها عام 1965، كما عين أستاذنا الدكتور نور الدين عتر فيها عام 1967م.


واستمر عطائهما الثر ممتداً فيها لعقود طويلة دون كلل ولا ملل، فتخرج على أيديهما أجيال من المربين والمدرسين والعلماء، وبعد أن أحيلا إلى التقاعد، بقي القلب منهما متعلقاً بهذه بالكلية، واستمرا يلقيان المحاضرات بهمة عالية، وقد طعن كل منهما بالثمانين من العمر .. إلى أن لقيا الله عز وجل.


كلنا يعلم أن الجوانب التي اختلفا فيها وتباينت شخصيتهما فيها جوانب كثيرة، لكن ما اتفقا عليه أكثر.


نعم لقد نشأ كل منهما في بيئة مختلفة تماماً عن بيئة الآخر، وفي مدرستين متباينتين تماماً، فهما مختلفين من حيث المشرب والمذهب، وكان كل منهما يستقي من منهل عذب صاف يختلف عن منهل الآخر.


أما جدي فقد وصل إلى الشام طفلاً وحيداً لوالديه مهاجراً من بلاد الأكراد، ثم ترعرع بكنف والده يتيماً حيث توفيت أمه وهو يافع. فكان والدهُ العارف بالله الشيخ ملا رمضان البوطي معلمَه ومربيه الأوحد، الذي غرس في قلبه علماً وحالاً منذ صغره، (..) ثم لاحقاً التحق بمدرسة الشيخ حسن حبنكه، الذي كان له عليه من التأثير ما لا يخفى على القاصي والداني، ثم بعد ذلك التحق بالأزهر.


وأما سيدي الدكتور نور الدين فقد نشأ في حلب وترعرع في حجر والدين صالحين، مع إخوته وأخواته، ضمن أسرة ميسورة الحال تعمل بالتجارة. وبعد وفاة جده الشيخ محمد نجيب سراج الدين بات ينهل العلم والحال من خاله سيدي الشيخ عبد الله سراج الدين رحمهم الله تعالى أجمعين، إلى أن التحق بالأزهر.


فهما إذاً مدرستان أثمرتا قامتين علميتين ربانيتين متشابهتين من حيث المظهر ومن حيث المخبر، من حيث المظهر ومن حيث الجوهر، الهيبة الربانية تعلوهما، ووقار العلم يزين جباههما، وهدف واحد يشدهما؛ فكلاهما نذر نفسه لخدمة هذا الدين، ولخدمة سنة سيد المرسلين.


قد ستر كل منهما الجانب الرباني من شخصيته بمظهر الأكاديمي المتفرغ لتدريس طلاب الجامعة، يلبس كل منهما لباساً أشبه بالرسمي، تعلوه عمامة أزهرية، لكن سخاء الدمعة كان يفضح ما ينطوي القلبان عليه من نور الورد والوارد، مما أشرت لكم إليه في المحاضرة الماضية.


- كلاهما بحر زلال من العلم والتربية والسلوك يحار المتحدث من أين يغترف، كلاهما يمثل التصوف بأبهى صوره وتعدد مشاربه. وكلهم من رسول الله ملتمسٌ ... غَرْفًا مِنَ البَحْرِ أوْ رَشْفًا مِنَ الدِّيَمِ.


- وعلى الرغم من اختلاف النشأة والمشرب والمذهب، إلا أن أول ما لفت نظري في نشأتهما الأولى هو أن الفتنة التي تعرضا لها واحدة، وذلك عندما سلك بهما والداهما طريق العلم الشرعي، وتعرضا لما تعرض له بعضكم من اللوم والعتب على اختياره لهذا السبيل، ولكن الله عز وجل عصم الأبناء بسر صلاح الآباء، وأسأل الله تعالى أن يعصمكم أيضاً ويثبتكم.


وأنقل لكم شيئاً مما ذكره جدي في كتابه هذا والدي عن هذه الفتنة، وفي طوايا كلامه دروسٌ كثيرة ما ينبغي أن يتجاوزها طالب العلم دون تمعن. يقول جدي: (أقبل إلي والدي ذات يوم ينصحني ويحدثني عن آماله التي يعلقها علي .. وقال لي فيما قال: اعلم يا بني أنني لو عرفت أن الطريق الموصل إلى الله يكمن في كسح القمامة، لجعلت منك زبالاً، ولكني نظرت فوجدت أن الطريق الموصل إلى الله هو العلمُ به وبدينه، فمن أجل ذلك قررت أن أسلك بك هذا الطريق. ثم شدد علي أن لا أجعل قصدي من دراسة هذا العلم أي شهادة أو وظيفة .. وأخذ علي مـا يشبه العهد، أن اقنع بأي رزق يسوقه الله إلي وبأي عمل كريم يقيمني الله فيه..).


وأما بالنسبة لسيدي الدكتور نور فقد حدثني قائلاً: حرص والدي على تنشئة أولاده النشأة الصالحة وسلك بأبناءه الأربعة طريق طلب العلم الشرعي، وواجه والدي على ذلك اللوم والعتب على ما ورط به أبناءه حسب قول اللائمين، وصار تجار السوق ينصحونه ليخرج أبنائه من المدرسة الشرعية ويبقيهم معه في المحل يعلمهم التجارة، لأن طريق العلم الشرعي مآله أخيراً الفقر، وطلاب العلم الشرعي لا مستقبل لهم؛ كما تسمعون اليوم.


ومما أثار عجبي وأنا أستمع لسيدي الدكتور نور ذلك اليوم، أن الكلام المثبط الذي كان يسمعه من أضرابه وإخوانه هو ذاته وبحرفه الذي كان جدي يسمعه من قبيل: غداً ستكون مغسلاً للموتى، ستغدو عندما تكبر مؤذناً في الجنائز وما أشبه هذا الكلام.


وحدثني جدي أيضاً عن أصدقاءه الذين تركوا سبيل العلم الشرعي واتجهوا إلى الأعمال التجارية في سوق الجمعة – عندما كانوا يقابلونه وهو يغدو صباحاً أو يعود رواحاً يقولون له: إن طاعة والدك سيزجك في مزيد من الفقر وسيجعلك عالة على الناس، ويحرك بعضهم النقود المعدنية في جيبه ليسمعه رنينها، في الوقت الذي كانت جيوب جدي خاوية من أي مال. ويقولون له: ألم تتعلم ما يكفيك لمعرفة دينك والقيام بوظائفه؟ فلماذا تضيع عمرَك؟!..


والتاريخ يعيد نفسه والمثبطون مازالوا يؤدون دورهم إلى اليوم، والموفق من ثبته الله عز وجل.


ودارت السنوات سريعاً، وها نحن نشهد اليوم كيف أعزهم الله ورفع ذكرهم بين عباده، ورأينا كيف أغناهما الله، ووسع عليهم رزقه، وسر العز والغنى والجاه والرفعة وعلو الشأن والخير كله في بركة طلب العلم الشرعي. وقد كان سيدي الشيخ نور يؤكد لي هذا المعنى ويكرر كلام الإمام الشافعي: إن الله تكفل لطالب العلم بالعيش الهني.


وماذا بعد؟


في أحد الأيام سألني جدي عن رجل مسن أعرفه في الحي قد أقعدته الأمراض المزمنة عن القدوم إلى المسجد، وكان يقيم بسطة أمام باب بيته يستدر منها رزقاً بسيطاً. فذكرت له من حاله ما أعلم. فأخذ جدي ما يشبه الوجد وبكى .. وناولني مالاً مجزياً وأمرني أن أبلغه ذاك الرجل الذي رق لحاله. وبعد عودتي إلى البيت حدثني - وقد انتابه حال من الشهود وهو يشكر الله عز وجل - عن شيء من مظاهر نعم الله عز وجل عليه، كيف أغناه بعد فقر، وأكرمه بعد غنى، والمهم أنه أخبرني بأن الحاج فلان هذا كان صديقه أيام صباه، وكان من عائلة ميسورة، وهو بذاته ممن كان ينصحه ليثنيه عن نهج طلب العلم الشرعي، بل كان ممن يحرك النقود المعدنية في جيبه ليغريه برنينها. ودارت الأيام، وصار جدي هو من يتصدق عليه.


وحسبنا في هذه القصة عبرة، فإن الرزاق الذي اتكلوا عليه بالأمس فرزقهم هو الذي سيرزقك.


- كلاهما كان محل نظر عارف، قد سلك على يد مرب رباني، بكاء عالم، متفان، يعد بركة وقته إن في حلب أو في الشام، نعم فلقد كان لكل منهما مرجعية ربانية، يتزود بدعائه، ويستنير بمشورته، يشاوره في كل صغيرة وكبيرة، ولا يبت بأمر قبل الرجوع إلى مرجعيته. وصدق من قال: إن لم تكن عارفاً فكن في قلب عارف.


- ما رأيت كسخائهما وخاصة لأرحامهما. أما سيدي الشيخ نور فقد آتاه الله عز وجل في سنوات حياته الأخيرة فراسة يستشعر بها معاناة أرحامه عندما يصيب أحدَهم الفقر والعوز. فيقول لابنته الدكتورة راوية التي حازت من ألحاظه ما حازت وكان لها النصيب الأكبر من خدمته وخدمة والدتها التي أسأل الله تعالى أن يبارك بحياتها .. بنت سيدي الشيخ عبد الله، فأنعم بها وبأمها وأبيها سلالة آل البيت الطاهر. نعم يقول لها على سبيل المثال: ارسلي لابن عمك فلان مبلغ كذا .. وفعلاً يكون في ذلك الوقت أحوج ما يكون لهذا المال. وقصص سخائه كثيرة اكتفي بهذه.


وأما جدي .. فقد كان من المكثرين للصدقات عموماً، وحريصاً على صدقة الفجر، بحيث تصل للفقير قبل شروق الشمس، وكان من دأبه وخاصة آخر حياته أن يتصدق بما فضل وزاد عن حاجته، وفي آخر شهر له في هذه الدنيا أعطاني ما فضل من ثيابه. وقال لي: هذه زيادة عندي أخشى أن يحاسبني الله تعالى عليها، ابحث عن المستحقين ممن يلبس هذا النوع من الثياب وأعطهم إياها، وقال لي: يفضل أن يكون طالب علم. كما وزع كُلَّ ما كان يدخره من مال قبل أسبوع من استشهاده. حتى أن زوجته استقرضت مني بلغة من مال بعد استشهاده، فقد رحل إلى الله عز وجل وليس في بيته مال مدخر، كل ما كان يملكه من مال ساعة رحيله إلى الله عز وجل 75 ليرة سورية، كانت في جيبه لحظة استشهاده.


- الأوراد، لكل منهما منهجه في الأذكار والأوراد التي كانا يلازمها، نعم لكل منهما أوراده الخاصة، لكن هناك قواسم مشتركة وثوابت متفق عليها لا بد من الإشارة إليها، وأهم هذه الثوابت وردٌ يومي من تلاوة القرآن لا محيد عنه ولا محيص. وحصة وفيرة من الصلاة على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن لكل منهما خلوةً مع الله عز وجل في جوف الليل، واستغفار بالأسحار.


كلاهما كان يوصي الناس - وطالب العلم على وجه الخصوص - بأن يكون له ورد يومي، وخاصة من تلاوة كتاب الله عز وجل، والصلاة على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما سمعت من جدي رحمه الله يقول: "إذا عز المرشد فاتخذ من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرشداً، وهذا يتم لك بالإكثار من الصلاة عليه، عليه الصلاة والسلام".


أما سيدي الدكتور نور الدين فقد كان ينبه طلاب العلم إلى ضرورة التوازن. ولم يكن يشجع طالب العلم على استنفاد وقته في الأذكار والأوراد على حساب الطلب والتحصيل، لأن طلب العلم عبادة بحد ذاته إن صلحت النية. ويقول: "ورد طالب العلم علمه"، لكن دون التهاون بالثوابت من الأوراد التي أشرت إليها، حتى ولو كان يوم الامتحان.


وهنا ألفت نظركم إلى اختلاف لاحظته في موقفهما من مسألة حفظ كتاب الله تعالى. أذكره للأهمية:


أما جدي، فكان لا يشجع على حفظ كتاب الله عز وجل، ويحذر من إثم نسيانه بعد حفظه، لأن إثم النسيان أكبر إثماً من لم يحفظ أصلاً. لكنه في ذات الوقت يحث على حفظ ما لا بد منه كالمنجيات السبع، ثم تلقي كتاب الله عز وجل مشافهة وإتقانه تلاوة، ثم يشدد على المواظبة على تلاوة القرآن. وقد أكد في أكثر من محفل أنه لا يحفظ كتاب الله تعالى إلا أنه يجد نفسه مستحضراً له، مسترسلاً في تلاوة آياته غيباً ببركة إكثاره من تلاوة كتاب الله، فقد مرت حقبة من حياته كان يختم كتاب الله كل ثلاثة أيام، فهو عملياً حفظه دون أن يتكلف حفظه.


وأما سيدي الدكتور نور فقد كان حافظاً لكتاب الله، ويشجع على حفظه، والمنهج الذي كان ينصح به لكي لا يتفلت من الذهن، أن يواظب طالب العلم على المراجعة، ويحضر ما حفظ من آيات ويقرأه في صلاته.


- كلاهما كان يحمل هم الأمة، ولذا تجد كلاً منهما واسع الأفق، يتميز بشمول الرؤية، لا يحصر فكره واهتمامه في أسرته أو كليته أو في مسجده أو حيه أو جماعته أو بلده فحسب، بل يهتم لأمر الإسلام والمسلمين من مشرق الأرض إلى غربها. ويتمتع بوعي ثاقب، يتتبع مكائد الأعداء الفكرية على مستوى العالم، وكتبهما تغص بالشواهد.


فكل منهما استل قلمه ولسانه للذود عن حياض هذا الدين من شبه الكائدين، في وقت لم يكن السبيل للوصول للمعلومات ميسراً، في وقت لم يعرفوا فيه الحاسب، ولا غوغل ولا غيرها.


نعم كلاهما كان يحمل هم أمة، وكلاهما تصدى للفئات المتطرفة، وللفئات الإلحادية الضالة التي نشطت في فترة من الفترات، لكن كل حسب طريقته منهجه. وكلاهما كتب حول الشبهات التي تثار حول حقوق المرأة المسلمة.


- كلاهما كان جمّاعاً لا مفرقاً، مبشراً لا منفراً، بناءً لا هداماً، لا يقنط عاصياً، ولا يبخس جهداً، يسعى لتأليف القلوب، لا يلغي الآخرين، وكلاهما يمد يده للجميع، ولذا باتا مرجعية يأنس لها الجميع، لم يستأثر أحدهما بجماعة ولا بفئة ولا بحزب، ولا يسمح أن تستأثر به أي جماعة أو فئة أو حزب، لأن ساحة عمله تشمل كل المسلمين، وكل المسلمين محسوبين عليه، والشرف والسؤدد لمن انتسب إليهما. والكل اليوم ينسب نفسه لهما، يقول شيخنا فلان وشيخنا فلان.


وهذا المنهج النبوي يختلف تماماً عن نهج بعض الأغرار من طلبة علم هذا الزمان أصحاب عقول صغيرة وأفق ضيق، الذي يسعى لإلغاء الآخرين ولو على حساب هدم الكيانات وتدمير المرجعيات، وكأنه وفئته وشيخه على هداية قد تربعوا في أعالي الجنان والآخرين على ضلال.


- كلاهما لم يقتصر في عمله وهمومه على النهوض بكلية الشريعة، بل فرّغ وقتاً مجزياً لعامة الناس، وفي سبيل ذلك برزت نشاطاتهما المسجدية، ودروسهما في مساجد دمشق كانت عامرة، أبواب دروسهم مفتّحة، لا تقتصر على فئة دون فئة، لا حجر على من يحضر ومن لا يحضر، ولا أين يحضر ولا عند من يحضر ولا من هو الذي يحضر، واستمرا على هذه الحال لسنوات طويلة، وانتقل جدي رحمه الله كما تعلمون على كرسي درسه في مسجد الإيمان مع ثلة من طلابه.


كانا يريان أن تعليم الناس الخير أوسعُ باب للوصول إلى الله، وأبرز سمة للتمثل بالوراثة المحمدية، والدعوة إلى الله عز وجل لا تنحصر عندهم في الأعمال المبرورة التي يؤديها الأستاذ والدكتور في المؤسسات التعليمة الشرعية، لأن هذا العمل مما يتقاضى عليه مرتباً، بل إن الدعوة إلى الله عز وجل تستوجب بذلاً في المال والجهد والوقت، لا ينتظر الداعية عليه أجراً إلا من الله عز وجل. وهذا ما أشار به جدي الشيخ ملا رمضان البوطي لابنه عندما شاوره في أمر إقامة درسين أسبوعياً في مسجد السنجقدار. وذلك عام 1970م


- كلاهما كان يتحاشى الأعمال الإدارية مما يحتاج إلى تفرغ واستنزاف للوقت، لأن هموم التدريس والتأليف كانت من أولويات أعمالهما.


- وكلاهما كانا يبتعد عما يساق إليه من مناصب. وذلك بحسب المنهج الذي رسم لهما من شيخيهما.


- وعلى الرغم من التباين البين في الاختصاص الأكاديمي الذي كان يتميز به كل منهما، فجدي رحمه الله كان اختصاصه الأكاديمي في أصول الفقه، والدكتور نور في علوم الحديث، لكن ما خفي عن الكثيرين، هو أن أصل اختصاص الدكتور نور الدين العلمي في الفقه وأصوله، وكانت رغبته جامحة في الاستمرار بهذا الاختصاص، لكن براً بوالده تحول عن اختصاص الفقه إلى اختصاص علوم الحديث، فهو فقيهٌ قبل أن يكون محدثاً. لكنه برع في علوم الحديث حتى بات محدث الشام، وبرع في التفسير والفقه والأدب واللغة حتى بات بها إماماً.


وأما جدي فأصل اختصاصه في أصول الفقه، لكنه برع في العلوم العقلية وعلم العقيدة، والأدب والبلاغة وعلوم اللغة، وله في كل فن مؤلفات، وبات رئيساً لقسم العقائد والأديان في كليتكم هذه لسنوات طويلة.


نعم كلاهما برع في اختصاصات متعدد، كلاهما ألف في علوم القرآن وعلم الحديث، وكلاهما ألف في الأدب والبلاغة، وكلاهما درس في كليات الآداب رغم اختصاص كل منهما المتباين. وكلاهما ألف في الفقه من جانب.


- كلاهما كان ممن يحب الصالحين من الأحياء والمنتقلين، من المتقدمين والمتأخرين، ويسعى لزيارتهم وللمشي إليهم وطلب التبرك بهم والدعاء منهم أو عندهم، سواء في مصر أو الشام أو في غيرهما من البلدان.


كلاهما كان يتردد على سيدي الشيخ شكري اللحفي والشيخ هاشم المجذوب كل على حده، وفي الذهن صور كثيرة. وكلاهما كان يرغب بالمواظبة على زيارة الشيخ رسلان الدمشقي والشيخ محي الدين بن عربي، والإمام النووي، والحافظ ابن عساكر والمحدث الشيخ بدر الدين الحسني، وغيرهم من الصالحين .. وما فتئ سيدي الشيخ نور يزور سيدنا دحية الكلبي رضي الله عنه في المزة، والشيخ رسلان الدمشقي رحمه الله تعالى ونفعنا به أيام مرضه إلى أن توفاه الله عز وجل، ودفن بجواره.


هذا الذي أذكره لكم، ولم ينقل لي وإنما عشته معهم، يؤكد المعنى الذي ذكرته لكم في المحاضرة الماضية، هو أهمية الصلة بالأكابر. فإياكم ان تقطعوا ما بينكم وبينهم.


- كلاهما يتسمان بزهد وورع قل نظيره، وفراسة وحذاقة قل مثيله، وتواضع ورقة وخشوع ندر وجوده.


- كلاهما كان سريع العبرة، مع رصانة في العلم وشدة في الأسلوب وقوة في الحجة والمنطق.


- كلاهما كان داعياً إلى الله بحاله ومقاله، يؤثر بالسامعين بهدير صوته وجمال مظهره.


- كلاهما كان خطيباً مفوهاً وأديباً بليغاً لا يشق له غبار.


- وكلاهما كان يحمل في ملامحه شخصية العالم الرباني، الذي يراقب الله في كل شؤونه وأعماله وفي حركاته وسكناته، صحيح أن كلاً منهما قد تفرد في المشرب والمذهب، لكنهما وكأنهما يستقيان من معين واحد. فكلاهما على سبيل المثال: ينهى عن الوقوف له في المسجد أو المحافل، بل وفي بيته، وكلاهما لا يسمح بتقبيل يده.


- كلاهما كان وفياً مع إخوانه ورفاق دربه، يعودهم إذا مرضوا، ويتفقد أحوالهم إذا غابوا.


- كلاهما كان ممن يحرص على تحصيل الفضيلة بتمامها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. فقد شهدت كيف كانا حريصين على الذهاب إلى المسجد ماشياً، رغم صعوبة الطريق بالنسبة لسنهما، ولم يكن الطريق سوياً ما بين بيتهما والمسجد. وكلاهما كان حريصاً على تطبيق الآداب والسنن النبوية ما استطاع إليها سبيلاً.


- كلاهما قد ناهزت مؤلفاته الخمسين كتاباً، وكلاهما ممن كتب الله عز وجل لكتبه القبول في الأرض.


- كلاهما حبب إلى قلبه السماع في أخريات حياته، فيأنس لأصوات المنشدين الذين كانوا ينشدون بين يدي الأكابر الذين سلكوا على أيديهم، يوم كان الإنشاد جزءاً لا يتجزأ من الإرشاد. ومن لم يصحب في حياته شيخاً عارفاً مكين، عد من المفلسين.


وكما هو شأن أرباب هذه الطبقة، عندما يدنو ميعاد رحيل أحدهم إلى الله، وتنادي به الأشواق لمنازل من يهوى، يعاف أحاديث الناس وشؤونَهم، ولا يجد أنسه إلا بما يذكره بمحبوبه الأول الذي قرب ميعاد الرحيل إليه. أما الدكتور نور فقد كان يأنس لسماع المنشدين الذين كانوا ينشدون بين يدي الشيخ عبد الله سراج الدين رحمه الله تعالى، كالحاج عبد القادر رديف والحاج عبد الوهاب الصباغ، فقد كان صوتهما من أشد ما يثير في نفسه كوامن الشوق والشجون.


وأما جدي فقد كان يأنس لسماع أصوات المنشدين الذين كانوا ينشدون بين يدي الشيخ حسن حبنكه كالحاج عزت الدهان عريجة، والشيخ خيرو ياسين .. والدموع كانت فضاحة لما يثور في صدريهما من مشاعر الشوق والحنين.


- ولما وقعت الفتنة الأخيرة في بلدنا، كلاهما كان يحذر من مخاطرها والخوض فيها، وأما سيدي الشيخ نور فقد اختار منهج العزلة، والنصح لمن جاء يستنصحه. إلا أن جدي رحمه الله أخذ على عاتقه الوقوف في وجه سفك الدماء، وفضح المتآمرين في المجامع وعلى المنابر، وكلاهما بسبب المنهج الذي اتبعاه ابتلاهما الله عز وجل بالمغرضين، مع تباين في الكم والكيف، وكم من حذق لسان قد حجب عن جوهر الولاية بقبح خبيئته، فتطاول وأساء، فخرج عن دائرة الانتفاع بسوء أدبه، وفضح لسوء طويته، ويتمنى اليوم لو عاد به الزمان ليستدرك ما فاته، وكما يقول سيدي ابن عطاء الله السكندري: "أولياء الله عرائس الله في أرضه والعرائس لا يراها المجرمون".


جلت حكمة الله كيف يعز أقواماً ويذل آخرين ويرفع أقواماً ويخفض آخرين .. فكلاهما قد رفع الله ذكرهما، وأما أحدهما فها هو ذا يرقد بجوار السلطان صلاح الدين الأيوبي، وأما الآخر فها هو ذا يرقد بجوار سيدي الشيخ رسلان الدمشقي.


وأخيراً .. فكما لاحظتم اقتصرت في هذه المحاضرة على ما اتفقا عليه، والحقيقة أن في كل حركاتهم وسكناتهم ما يفيد طالب العلم، وما منا من أحد إلا وهو بحاجة إلى كل جزئية من جزئيات حياتهم. رحلوا وكتب الله عز وجل في صحائف أعمالهم ما قدموا وآثارهم، وها نحن نتغنى بهم وبذكرهم وبذكر مناقبهم وشمائلهم، لكن من لنا من بعدهم؟


قامتان علميتان ربانيتان .. ببركة أنفاسهم كم رفع الله عز وجل من بلاء. محبتهم قربة، وحياتهم منهج، وأنفساهم ترياق، وأنظارهما كشف لحجاب، واتباعهم نور للبصيرة، بذكرهم تتنزل الرحمات، وبمحبتهم تنال الشفاعات.


فأسألك اللهم أن لا تجعل حظنا منهم رصفاً لكلام، ولا تغن بأوهام، ولا حباً لسمعة ولا رياء،  أن تنفعنا بهم، وتشفعهم فينا، وتحشرنا معهم تحت لواء حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم. نشهد أنهم دلونا عليك، وحببونا برسولك .. فاجزهم عنا وعن كل طالب انتفع بهم خير الجزاء، عن كل حرف خطاه، وعن كل حرف نطقاه في سبيل خدمة دينك.


 

تحميل