مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 06/04/2021

لا مكان لليأس

مقالات

حديث نبوي يحمل في طيه دفعاً معنوياً لكل محبط، ولكل مهموم، ولكل يائس. وهو الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها). 


من المعلوم أن الغرس يحتاج إلى زمن مديد من التعهد والرعاية ليشهد الغارس ثمار غرسه، ويحصل على نتيجة عمله، ومع ذلك فإن النبي ﷺ يوصينا قائلاً: حتى ولو كنت ممن سيشهد عياناً القيامة بأهوالها وهي تقوم.. إياك أن تلتفت، أتمم عملك، تابع مسيرتك، فإن الوقت أعجل من الالتفات والانشغال عما أنت فيه، اغرس فسيلتك حتى ولو كنت متيقناً أنك لن تشهد ثمار غرسك. فلا مكان لليأس والإحباط في ديننا.


واليوم منعت الشام دينارها ومديها، وأُجهد الناس من الشدة والحصار.. ولعلها - وليست هي بذاك - الأيام التي حدثنا عنها النبي ﷺ فيما رواه مسلم إذ قال: (مَنَعَتْ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا، وَمَنَعَتْ الشَّأْمُ مُدْيَهَا وَدِينَارَهَا، وَمَنَعَتْ مِصْرُ إِرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ).


وعلى فرض أننا نتقلب في هذه الأيام التي قصدها النبي ﷺ، ما ينبغي أن نشوش على الناس، ما ينبغي أن نثبط الهمم. إذ ما أدراك أنها ذات الأيام التي ورد ذكرها في هذا الحديث؟! فإن أهوالاً أشدُ ومصائب أطمُ وأعظم قد مرت على جبين الدهر، سواء أيام الصليبيين أو المغول والتتر أو من قَبلهم أو من بَعدهم.. كانت أشدَّ وطأة وأعظم بلاء وقسوة من الأيام التي نتقلب بها، ثم إن الأيام السوداء مضت وانجلت، وبتنا نقرأ عن تلك الحقوب وأهوالها في بطون الكتب. ومهما عظمت الشدائد واشتدت الصعوبات اليوم، فإنها لن تبلغ مبلغ تلك المحن التي شهدها أهل الشام في تلك الأيام.


وسواء أكنا نرزح تحت نير الحصار الذي حدثنا عنه النبي ﷺ أم لم نكن، ما ينبغي أن نستسلم، ما ينبغي أن نعجز ونيأس، ما ينبغي أن تتقاعس الهمم عن السعي، عن نفض غبار التخلف والتبعية والدعة، عن النهوض إلى سدة الحضارة والسيادة والريادة. لأننا أصحاب رسالة، لأننا أحفاد أولئك الأبطال الذين سادوا العالم ونشروا الأخلاق والقيم.


المسلم .. مهما اشتدت عليه الأهوال، وكثرت من حوله الشدائد والصعوبات يأبى الخنوع.


المسلم .. لا يخبو عزمه، ولا تفتر همته، ولا تهتز معنوياته، ولا تخور قوته.


المسلم .. لا يتأثر بالشائعات، ولا ينفعل مع المبالغات.


المسلم .. مؤثر غير متأثر، فاعل لا منفعل.


المسلم .. لا يجبن مع قول المرجفين، ولا يقعد مع المثبطين.


المسلم .. مهما اشتدت عليه الطامات لا يفقد توازنه، ولا تزعزعه أزمة، ولا تزحزحه شدة.


لأن المسلم كيّس فَطِن كما وصفه النبي ﷺ، لا يَخدع ولا يُخدع كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه: لست بالخب ولا الخب يخدعني.


لأن المسلم يتجلى معدِنه في الشدائد والمحن؛ كالذهب التبر بين ذرات التراب الأغبر، تتجلى صفاته ويبرز جوهره ومعدنه عندما يُعرّض لنار الشدائد والمحن الكاوية.


لأن الإسلام لا يؤمن إلا بالرجولة الناضجة، والعزائم الصادقة، والهمم الوثابة، والعقول الزكية، والقلوب الأبية.


لأن الإسلام لا يعرف الضعف والكسل، ويذم الشكاية حتى في المرض، ويحرم الجبن حتى في الحرب، وينهى عن الذل في السؤال.


ثم إن لهذا الدين إقبالاً وإدباراً كما قال النبي ﷺ فيما رواه الطبراني، وإقبال الدين إنما يكون بعزائم رجال تحمل على عاتقها ما تنوء عن حمله الجبال، فاختر لنفسك أن تكون مع أرباب الهمم، فتسجل لنفسك أثراً وبصمة في الحياة، وموقفاً عند الله عز وجل بعد الممات، فإن لم تكن لك بصمةٌ في الإقبال والنهوض، فلتكن في الشَّد من العزيمة والأزر، لا في التثبيط وكسب الوزر.  

تحميل