مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 13/09/2021

حرب المعنويات

مقالات

حرب تدور رحاها اليوم، الغاية منها تثبيط الهمم عن النهوض، وترسيخ الإحباط في النفوس. تتمثل في كلمات نسمعها، ومنشورات نقرؤها، وعناوين سوداوية - تدور حول بلدنا - تحمل دلالة انهزامية قد تأصلت في نفس المتكلم أو الكاتب، وترسِّخ مشاعر سلبية في نفس القارئ والسامع.


ولو تأملت ملياً لوجدت أن هذه الكلمات والعبارات صدى نفوس مشؤومة، وألسنة لا تجيد الحديث إلا عن الصعوبات والشدائد. يبثها أناس جنّدوا أنفسهم على صفحات ومواقع تدار من الخارج، جعلوا من آلام المكلومين ومصائبهم مادة تندِّر لهم، يستثمرون الآلام لصب مزيد من نار الإحباط واليأس، من خلال بث الشائعات، وتسليط الضوء على الثغرات، والشماتة بالعثرات..


فالحذر الحذر.. لأن يحمل عدوك سلاحه ويشهره في وجهك أمر خطير، لكن الأخطر منه أن تتسلل إلى النفوس مثل هذه المشاعر، فإنها أشد وطأة من طعنة تتلقاها من عدو يعلن عن عداوته لك.


أما الانتقاد البنّاء النابع من مشاعر صادقة وغَيرة محرقة، المشفوع بجهود مبذولة وأعمال مبرورة فإنه يدخل على القلب برداً وسلاماً رغم ما فيه من قسوة وتجريح، وهو مقبول من شريك الظروف والمنغصات والمتاعب، وأنعم به من شريك مهما كان متسخِّطاً، لأني أرى شواهد صدقه التي تتمثل في ثباته ورسوخه.


 لكن الحديث ذاته تجده سمجاً على النفس، ثقيلاً على القلب، تنبذه الآذان عندما يصدر ممن كنت تراه أسداً هصوراً وهو يسعى في خراب بلده بحماقته، ولما فشل في مهمته يمم وجهه شطر الغرباء، وبدّل جلده كالحرباء، وغدا حملاً وديعاً يتمسح بهم كالهر، ويبحث عن عزه الضائع هناك. بالأمس كنت تسمع عن عنتريته، ولما صار هناك صرت تسمع عن وداعته وخوره؟!


ولا غرو، فإن لهم في أسلافهم أسوة، الذين استغلوا المنابر أداة تحريض للجهاد ضد الحكّام، ولما حمي الوطيس واشتد أوار الفتنة، لملموا ما خف وزنه وغلا ثمنه وفروا بأهلهم وأولادهم، واليوم تراهم هناك يجاهدون لجمع مزيد من المال من خلال مشاريع تجارية ومطاعم شامية ولقم هنية ..


ينظّر وينتقد - وهو متوسد أريكته - أرصدة وفيرة، وأرائك وثيرة، ومشاريع مربحة .. وعيون تهمي دموع التماسيح على مصائب خلّفها لأهله وبلده، ويشفع حديثه السوداوي بالمثاليات وعبارات الشوق للوطن والغيرة عليه.


والسطحي ربما يؤخذ بكلامه، لكنك لو قرأت ما تحت السطور بتمعن، لوجدت أنها تنم عن نفوس سقيمة، تنظر إلى الشام بعيون حمراء شامتة، وابتسامة صفرواية خفية؛ تسخّطاً على الله عز وجل إذ خيب مسعاهم ولم تسقط سورية فريسة بين أنيابهم.


أما الذين وفقهم الله عز وجل للثبات رغم كل العصوبات والمنغصات، فهنيئاً لهم.


هنيئاً لمن يعمل اليوم بصمت، يعلّم الصغار في المساجد، ويخفف عن الناس من البرحاء، ويتفقد أحوال المحتاجين والمعوزين، يبذل وسعه في إصلاح ما فسد، وتقويم ما اعوج، ويسعى للنهوض ببلده. فهؤلاء هم أهل الشام وناسها؛ هؤلاء هم أهل الكرامة الذين حدثنا عنهم سيدي الشيخ شكري اللحفي رحمه الله عندما سئل عن الخروج من الشام فقال: (كانت الاستقامة عين الكرامة واليوم الإقامة عين الكرامة)، ويُنقل عن سيدي الشيخ أديب كلاس رحمه الله: (الشام في آخر الزمان كسفينة سيدنا نوح).


أسأل الله تعالى لي ولكم الثبات، وأن يستعملنا ولا يستبدلنا. ويجعلنا من أهل الكرامة، فإن الله عز وجل يقول: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم). 

تحميل