مميز
EN عربي
الكاتب: الباحثة نبيلة القوصي
التاريخ: 23/01/2011

الصحابيّ الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه

أعيان الشام

عُوَيْمرُ بنُ عامرٍ الأنصاريُّ الخزرجيُّ


أبو الدرداء الأنصاري، 32 هجري - 652 ميلادي


المدفون بمقبرة الباب الصغير، مسجده ومقره عند قلعة دمشق


هذه سيرة من حياة أحد الصحابة، والذي كان مشهوراً بالعقل والحكمة، موصوفاً بالزُّهد والعبادة، أسلم وشَهِدَ أُحُداً وما بعدها، وأخذ القرآن عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان من كتَّاب الوحي. رحل في عهد عمر إلى الشام يعلِّم الناس القرآن، وهو أوَّل مَنْ سَنَّ حلْقات تحفيظ القرآن، وجاء في بعض الروايات أنهم عدُّوا مَنْ في حَلْقَته، فإذا هم يزيدون على ألفٍ وستمائة قارئٍ يعلِّمهم القرآن، ثم استُعمل على القضاء؛ فكان أوَّل قاضٍ لدمشق، وجاء الناس يهنئونه؛ فقال: "أتهنِّئوني بالقضاء، وقد جُعِلْتُ على رأس مَهْواةٍ مَزَلَّتُها أبعدُ من عَدَنَ أَبَيْنَ. ولو علم الناس ما في القضاء لأخذوه بالدُّوَل؛ رغبةً عنه وكراهيةً له، ولو يعلم الناس ما في الأذان لأخذوه بالدُّوَل؛ رغبةً فيه وحرصاً عليه".


اسمه وكنيته:


إنه  أبو الدَّرْداء عُوَيْمرُ بنُ زيد بن قيس بن أمية بن مالك بن عامرٍ بن عدي بن كعب بن الحارث ، الأنصاريُّ الخزرجيُّ، كانت له أقوالٌ أكَّدت أن كلامَه كلامُ حكيم، قال رضيَ الله عنه: "كنتُ تاجراً قبل أن يُبْعَث النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فلما بُعِثَ محمَّدٌ؛ زاولتُ التجارة والعبادة؛ فلم تجتمعا؛ فأخذتُ العبادة وتركتُ التجارة". فهو رضيَ الله عنه لما رأى أن التجارة تزاحم العبادة، ورأى من نفسه عدم القدرة على جمعهما؛ أقبل على الأفضل.


أمه محبة بنت واقد بن عمرو بن الإطنابه بن ثعلبة بن كعب، وله ولد اسمه بلال.


كان آخر الأنصار إسلاماً، وزوجاته أم الدرداء الكبرى وهي الزوجة الأولى لأبي الدرداء، وتسمى خيرة بنت أبي حدرد، ولها صحبة ورواية عن النبي، ويقال إنها ماتت قبل أبي الدرداء.


وأم الدرداء الصغرى: اسمها هجيمة بنت حُيي الوصَّابية، من قبيلة من حمير، وحينما توفي عنها زوجها أبو الدرداء - رضي الله عنه- تقدم لخطبتها معاوية - رضي الله عنه - فأبت أن تتزوجه رغم ما ستكون فيه من نعمة ومال، ولكنها آثرت أن تموت وهي على ذمة أبي الدرداء حتى تلحق به يوم القيامة، وقد ذكرت في ذلك حديثاً سمعته منه في هذا الشأن، فقد قال ميمون بن مهران: "خطب معاوية أمَّ الدرداء فأبت أن تتزوجَه، وقالت: سمعت أبا الدرداء يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم : (المرأة في آخر أزواجها)، أو قال: "لآخر أزواجها"، أو كما قال.. ولست أريد بأبي الدرداء بدلاً"، وهكذا كان وفاؤها لزوجها بعد مماته، وحبها له قد دفعها إلى الرغبة في أن تكون زوجته في الآخرة كما حظيت بشرف زواجه منه في الدنيا.


وقد كانت أم الدراداء الصغرى إحدى عابدات الشام، والتي كان لها السبق في العبادة والصلاح، حتى قصدها الناس يتعلمون منها رقة القلب وخشوع الجوارح عند ذكر الله وقراءة القرآن، ولم تسمع أم الدرداء هذه من النبي- صلى الله عليه وسلم - ولكنها روَت عن زوجها أبي الدرداء حديثاً رواه عنها طلحة بن عبد الله بن كريز قال: حدثتني أم الدرداء قالت: حدثني سيدي- تعني زوجها أبا الدرداء- أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول: (من دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك الموكل به: ولك بمثل)، قال أبو بكر البرقاني: وهذه أم الدرداء الصغرى، التي روت هذا الحديث وليس لها صحبة ولا سماع من النبي- صلى الله عليه وسلم - وإنما هو من مسند أبي الدرداء.


 آخى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بينه وبين سلمان الفارسي، فزار سلمانُ أبا الدَّرْداء يوماً، فرأى أمَّ الدَّرْداء متبذِّلة؛ فقال لها: ما شأنُكِ؟ قالت: أخوكَ أبو الدَّرْداء ليس له حاجةٌ في الدنيا. فجاء أبو الدَّرْداء، فصنع له طعاماً، فقال له: كُلْ. قال: فإني صائمٌ. قال سلمان: ما أنا بآكلٍ حتى تأكل. قال: فأكل. فلمَّا كان الليل؛ ذهب أبو الدَّرْداء يقوم. قال: نَمْ. فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نَمْ. فلما كان من آخِر الليل قال سلمان: قُمِ الآنَ. فصَلَّيَا. فقال له سلمان: إن لربِّك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه. فأتى النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فذكر ذلك له؛ فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (صَدَقَ سلمان)؛ أخرجه البخاريُّ[10].


شهد اليرموك، وحضر حصار دمشق، ثم سكن حمص، ثم انتقله عمر بن الخطاب إلى دمشق، وولي قضائها، وكانت داره بدمشق بباب البريد، وهو الدار الذي يُعرف اليوم بدار العِزى . وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة .


روى عنه:


أنس بن مالك، فضالة بن عبيد، أبو أمامة، عبدالله بن عمرو، عبدالله بن عباس، أبو إدريس الخولاني، وامرأته أم الدرداء الصغرى، عطاء بن يسار، علقمة بن قيس، و غيرهم من الصحابة .


وأما عن علمه:


قال القاسمُ بن عبد الرَّحمن: "كان أبو الدَّرْداء منَ الذين أوتوا العلم"، وقال أبوذرٍّ لأبي الدَّرْداء: "ما حَمَلَتْ وَرْقاء، ولا أظلَّتْ خضراء - أعلم منكَ يا أبا الدَّرْداء"، ومن أجل علمه كان الناس محتاجين إليه، متزاحمين عنده، كما يُتزاحم على أبواب السلاطين. قال عبدالله بن سعيد: "رأيتُ أبا الدَّرْداء دخل مسجد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ومعه الأتباع مثل ما يكون مع السلطان، بين سائلٍ عن فريضة، وبين سائلٍ عن حساب، وبين سائلٍ عن شِعْر، وبين سائلٍ عن حديث، وبين سائلٍ عن معضلة". ثمَّ إنه كان مزكِّياً لعلمه، يعلِّم الناس ويُقرئهم، وما أقبل الناس عليه إلاَّ لعلمه، ولأنه كان عاملاً بعلمه، فلا يَعْلَم شيئًا إلا عمل به على الفور. قال ابن إسحاق: "كان الصحابة يقولون: أتْبَعُنا للعلم والعمل أبو الدَّرْداء".


لقد كان رضيَ الله عنه موصوفاً بالعقل والحكمة، حتى إن ابن عمر رضيَ الله عنهما يقول: "حدِّثونا عن العاقلَيْن؛ معاذٍ وأبي الدَّرْداء"، ولا أدلَّ على عقله وحكمته من أنه كان يُديم التفكُّر والاعتبار.


سُئلت أمُّ الدَّرْداء: "أيُّ عبادةِ أبي الدَّرْداء كانت أكثر؟ قالت: التفكُّر والاعتبار"، وكيف لا يكون دائم التفكر وهو القائل: "تفكُّر ساعةٍ خيرٌ من قيام ليلة"؟!


ومن حكمته رضيَ الله عنه ما رواه أبو قِلابة: "أنَّ أبا الدَّرْداء مرَّ على رجل قد أصاب ذنباً، وكانوا يسبُّونه؛ فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قَلِيبٍ؛ ألم تكونوا مُسْتَخْرِجِيه؟ قالوا: بلى. قال: فلا تسبُّوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم. قالوا: أفلا نُبْغِضُه؟ قال: إنما أبْغَضُ عمله، فإذا تركه فهو أخي".


وقال رضيَ الله عنه: "إني لآمركم بالمعروف وما أفعله، ولكن لعلَّ الله يأجرني فيه".


وكتب إلى خالد بن مسلم: "سلامٌ عليكَ، أمَّا بعد: فإنَّ العبد إذا عمل بمعصية الله أبغضه الله، فإذا أبغضه الله بغَّضه إلى عباده". ومن أقواله في العلم والتعلُّم قوله: "لنْ تكون عالماً حتى تكون متعلِّمًا، ولا تكون متعلِّماً حتى تكون بما علمت عاملاً، إن أخوف ما أخاف إذا وُقفتُ للحساب أن يُقال لي: ما عملت فيما علمت".


وخاطب الناس قائلاً: "ما لي أرى علماءَكم يذهبون، وجهَّالكم لا يتعلَّمون؟! تعلَّموا؛ فإن العالم والمتعلِّم شريكان في الأجر".


وجاءه رجلٌ فقال: أوصني: فقال: "اذكر الله في السَّرَّاء؛ يذكركَ في الضَّرَّاء، وإذا ذكرتَ الموتى فاجعل نفسكَ كأحدهم، وإذا أشرفتْ نفسُكَ على شيءٍ منَ الدنيا؛ فانظر إلى ما يصير".


ومن وصاياه رضيَ الله عنه قوله: "اعبد الله كأنك تراه، وعدَّ نفسكَ في الموتى، وإياك ودعوة المظلوم، واعلم أن قليلاً يغنيك خيرٌ من كثير يلهيك، وأن البِرَّ لا يبلى، وأن الإثم لا يُنسى".


ومن حِكَمه في المال والغنى قوله: "أهل الأموال يأكلون ونأكل، ويشربون ونشرب، ويلبسون ونلبس، ويركبون ونركب، ولهم فضولُ أموالٍ ينظرون إليها وننظر إليها معهم، وحسابها عليهم، ونحنٌ منها برآء".


كما قال: "الحمد لله الذي جعل الأغنياء يتمنُّون أنهم مثلنا عند الموت، ولا نتمنَّى أننا مثلهم حينئذٍ، ما أنصفنا إخوانُنا الأغنياء، يحبوننا على الدِّين ويعادوننا على الدُّنيا!."


وحكمته رضيَ الله عنه لم تقتصر على أمور الدين؛ بل إنه كان حكيماً في أمور الدنيا وتصريف الأموال، ومن ذلك قوله: "أعوذ بالله من تفرقة القلب. قيل: وما تفرقة القلب؟ قال: أن يُجْعَلَ لي في كل وادٍ مالٌ".


ينضُّم إلى هذا الفضل والحكمة: كثرة ذِكْرٍ وتسبيحٍ، وقد ذُكِرَ عنه أنه لا يَفْتُرُ منَ الذِّكْر، قيل له: "كم تسبِّح كلَّ يومٍ؟ قال: مائة ألفٍ، إلاَّ أن تخطئ الأصابع".


وكان يدعو لأصحابه كثيراً؛ قالت أمُّ الدَّرْداء: "كان لأبي الدَّرْداء ستون وثلاثمائة خليلٍ في الله، يدعو لهم في الصلاة، فقلت له في ذلك؛ فقال: إنه ليس رجلٌ يدعو لأخيه في الغيب، إلاَّ وَكَّلَ الله به مَلَكَيْن يقولان: ولك بمثل، أفلا أرغب أن تدعو لي الملائكة؟!".


ومن عجيب اعتباره: أنه في انتصارات المسلمين، يعتبِر بما حلَّ بالعدوِّ قبل أن يفرح بالنَّصر. قال جُبَيْر بن نُفَيْر: "لما فُتحتْ قبرص؛ مُرَّ بالسَّبْيِّ على أبي الدَّرْداء؛ فبكى؛ فقلت له: تبكي في مثل هذا اليوم الذي أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: يا جُبيْر، بينا هذه الأمَّة قاهرةٌ ظاهرةٌ؛ إذْ عصوا الله فلقوا ما ترى، ما أهون العباد على الله إذا هم عصوه"، فلم تُنْسِهِ فرحة النصر الاعتبارَ بما حلَّ بالعدو لمَّا خالفوا أمر الله، ومَنْ مِنَ العباد يعتبِر في مواطن الفرح والسُّرور؟!


كان أبو الدَّرْداء رضيَ الله عنه يحبُّ البقاء في الدُّنيا؛ ليتزوَّد منَ الأعمال الصالحات للآخِرة؛ قال رضيَ الله عنه: "لولا ثلاثٌ ما أحببت البقاء: ساعةُ ظمأ الهواجر، والسُّجودُ في الليل، ومجالسةُ أقوامٍ ينتقون جيِّد الكلام كما يُنتقى أطايبُ التَّمر".


ولا زالتِ الحِكْمة على لسانه حتى في حال مرضه؛ فقد اشتكى مرَّةً؛ فدخل عليه أصحابه فقالوا: "يا أبا الدَّرْداء، ما تشتكي؟ قال: اشتكي ذنوبي. قالوا: فما تشتهي؟ قال: أشتهي الجنة. قالوا: أفلا ندعوا لك طبيباً؟ قال: هو الذي أضجعني".


وظلَّ رضيَ الله عنه يعظ الناس حتى في حال احتضاره وموته وقدومه على ربه، قالت أمُّ الدَّرْداء: "لما احتُضِرَ أبو الدَّرْداء جعل يقول: مَنْ يعملُ ليومي هذا؟ مَنْ يعملُ لمضجعي هذا؟".


وبكى عند موته؛ فقالت له أمُّ الدَّرْداء: "وأنت تبكي يا صاحب رسول الله؟ قال: نعم، وما لي لا أبكي، ولا أدري علام أهجم من ذنوبي". 


وفاته :


 توفِّيَ قبل مقتل عثمان رضيَ الله عنهما، ومعه شهادة بالإيمان من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقد قال للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يوماً: بلغني أنَّك تقول إن ناساً من أمتي سيكفرون بعد إيمانهم أيام الفتن، فقال المصطفى: (أجل يا أبا الدَّرْداء، ولستَ منهم)؛ أخرجه الطِّبرانيُّ.


وقيل أنه مات قبل مقتل عثمان بثلاث سنين، وقيل في آخر خلافة عثمان، وقيل سنة 34 هجري، ودُفن بالباب الصغير، رضي الله عنه.


ووثقت مديرية الآثار قبره في الباب الصغير، جنوب غرب قبر معاوية بن أبي سفيان، وذكرت أن لأبي الدرداء مسجد في قلعة دمشق وهو مقامه ومقره .


كانت هذه وقفات للاعتبار من سيرة هذا الإمام الحكيم.. من أيامه وحياته، وعلمه وعبادته، وأقواله وأفعاله.. سيرةٌ من أنصع السِّيَر في التاريخ، وصورةٌ من أجمل الصُّوَر؛ فهل لنا أن نعتبر ؟! 


المصادر و المراجع:


ـ تاريخ دمشق / ابن عساكر


ـ أسد الغابة / ابن الأثير


ـ الحوليات الأثرية / مديرية الآثار و المتاحف، مجلد 35 .