بين منطق الربّانيّين ومنطق الحركيين
في الذّكرى العاشرة لاستشهاد العلامة البوطي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأزكى الصلاة والتسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد. فهذه عشر سنوات مضت على استشهاد أستاذنا الأجل العلامة الشهيد السعيد البوطي رحمه الله تعالى ورضي عنه.
عشر سنوات شداد مرّت على أهل سورية، كل يوم منها كأنه سنة على أهلها؛ لما يحمله من اللأواء والشّدّة .. عشر سنوات عجاف مرّت ولا تزال تمر على بلدنا الحبيب وأهله ثقيلة حزينة .. وقد كان نزرٌ منها كفيلًا بأن يذر البلاد بلاقع لولا وعد الله تعالى ولطفه وكفالته بالشام وأهلها.
عشر سنوات مرّت على شهادة إمام أهل الشام .. كل يوم مرّ منها يؤكّد على صحة اجتهاده وصواب موقفه في الفتنة التي اندلع نارها وشبّ أوارها في سورية .. كل يوم يمرّ يكشف عن نفاذ بصيرة الأستاذ الشهيد وعلى عمق درايته بما كان يحوكه أكابر مجرمي العالم من مؤامرة خبيثة حاقدة على بلادنا وأهلها، ويكشف عن مدى سذاجة الذين صفّقوا للفتنة حين أطلّت برأسها .. أولئك الذين كانوا يعدّون أنفسهم بصراء بوضع العالم حذّاقًا في السياسة، وكانوا ينعتون الأستاذ الشهيد بالسّذاجة .. ثم جاءت الأيام لتكشف عن الحقيقة، فأضاء الصبح لذي عينين.
لقد انقسم الناس تجاه الأزمة التي حلّت ببلدنا إلى قسمين .. سائر مع الفتنة جرفه تيارها، ومحذّر منها محاول لدرئها.
وقد أوهم خطباء الفتنة والفضائيات المغرضة أنّ أستاذنا الشهيد كان يقف وحده في وجه إجماع الأمة .. ولو صحّ كلامهم لما كان فيه ما يعيب الشهيد – وهل يعيب المجتهد أن ينفرد برأيه ما دام له مستنده العلمي في اجتهاده؟! - ولكن الحقيقة أنّ أستاذنا لم يكن وحيدًا في موقفه هذا، بل كان يمثّل صوت العلماء الراسخين والربّانيّين العارفين .. وقد رضي أن يكون لسانهم الناطق باسمهم والمعبّر عن رأيهم، وأن يحمل عنهم مع علمه بما قد يكلّفه ذلك .. ولكن ماذا يفعل إذا كان القدر قد اختاره لذلك؟.
وإنّ من المفيد جدًّا أن نعلم سبب هذا الاختلاف بين الفريقين ليكون درسًا لنا وللأجيال اللاحقة في قادمات الأيام.
إن سبب التباين بين هذين الموقفين والتناقض في الرّأي يرجع إلى الاختلاف في المنطلق والأساس الذي كان يصدر عنه كل فريق قبل الفتنة وأثناءها.
لقد تعامل الأستاذ الشهيد ومن معه من العلماء مع الأزمة بعقول وقلوب تشبعت بمعاني كلام الله وسنة رسوله المصطفى عليه الصلاة والسلام و مناهج العلماء الربّانيّين .. جعلوا من ذلك كلّه منظارًا ينظرون إلى الواقع من خلاله، ليعرفوا و يفهموا حقيقة ما يجري فيه .. أمّا الفئة الأخرى فقد انطلقت من الواقع وتعقيداته ثم جعلت من ذلك منظارًا سلطته على نصوص الكتاب والسنة، ففسّرتها بما يتّفق مع الأساس الذي انطلقت منه .. وكل عاقل يدرك مدى الاختلاف الكبير الذي لا بدّ أن يكون بين الرؤيتين .. فشتّان بين من ينطلق من الحق الأبلج والصدق الخالص المتمثّل في نصوص الوحي الذي يصحح للإنسان نظرته ومفاهيمه ويوجّه آماله وتطلّعاته، ويمدّه بالبصيرة النفّاذة التي تخترق ظواهر الأشياء وتتجاوز القشور الظاهرة إلى الأعماق لينفذ إلى الحقيقة التي لا لبس فيها؛ وبين من ينطلق من الواقع ومجريات الأحداث وما تبثّه الفضائيات، ثم يحاول أن يفسّر نصوص الوحي في ضوء نظرته تلك .. إن من انتهج هذا النهج فقد أبعد النجعة وتنكّب عن الجادّة؛ ذلك أن تعقيدات الواقع وتشابك الأحداث واضطراب الأفكار وتزاحم المصالح وتضاربها؛ كلّ ذلك كقيل بأن يعكّر عليه صفاء الرؤية وسداد الفكرة، ومن ثمّ فمن الطبيعي أن يجلّل معاني الوحي بأوهام الواقع وما فيه من التلبيس والتدليس والغش والخداع، إلى درجة أن يعمى عن رؤية الواضحات ويتيه عن البدهيات والمسلّمات.
وحتى لا يكون كلامنا نظريًّا بحتًا فإنّنا سنذكر بعض التطبيقات العملية لكل من النظرتين، ليظهر ما بينهما من الفرق العظيم.
فمثلاً؛ حين بدأت شرارة الأزمة قال العلامة الشهيد إن هذا طريق شقاء، وإن هناك مخطّطًا رهيبًا للقضاء على سورية وجعلها فريسة .. لتأتي بعد ذلك مرحلة النهش .. في حين أن الطرف الآخر كان يعيش في الأوهام وينسج الأحلام الوردية، وينظّر لمرحلة ما بعد نجاح ما يسمّونه بـ(الثورة).
كان العلامة الشهيد ينادي بأعلى صوته: إنّ ملفّ سورية بيد الفيلسوف اليهودي الفرنسي برنارد ليفي، وكان يحذّر منه .. بينما رضي الطرف الآخر أن يجتمع تحت إشرافه .. حتى لقد اجتمع (الثائرون!!) مع الصهاينة الذين يحتلّون فلسطين !!! .. وقد أقرّ بذلك شخصية حركية بارزة .. أقرّ بذلك في برنامج (في العمق) .. ولقد حاول التهرّب من الاعتراف بذلك، ولكن المذيع أحرجه وأحكم عليه الخناق فلم يجد سبيلاً إلى الإنكار .. وحسبك هذا دليلاً أبلج وأنصع من ضوء النهار على شرود هؤلاء عن بدهيات الدين ومسلّمات الواقع .. هل يمكن أن يصل قلة الوعي والجهل ببدهيات الدّين بمسلم يقرأ كتاب ربّه إلى أن يثق بالصهاينة وباليهود؛ وهو يسمع الله تعالى يقول: (لتجدنّ أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود)؟!. أليس موقفهم هذا خيانة لله ورسوله وللمؤمنين؟!.
ترى هل بقيت خطوط حمراء بعد لم يتجاوزها هؤلاء، و هل بقيت لهم أدنى شرعية ليتكلموا باسم الدّين أو باسم أحد من المسلمين .. ثم هل يعذر من لا يزال مخدوعًا بهم إلى الآن ؟!.
والعجيب أنّك كنت تسمع بعض هؤلاء يقول إنّه ليس هناك إنسان اسمه برناد ليفي، وما هو إلا شخصية خيالية أقنع النّظام السوري الدكتور البوطي بوجودها وبدورها في الأزمة السورية .. وقد تجد فيهم من يحاول أن يتلطّف في التعبير قيقول: الدكتور البوطي (قلبه طيب) يصدّق ما يقال له .. يقصدون بذلك أنّه ساذج وأن كل أحد يستطيع أن يخدعه.
ثم ظهر للدنيا كلّها أنّ العلامة الشهيد كان على علم بما يجري، وأنّ ملف سورية كان حقًّا بيد وكيل الشيطان ونذير الشؤم؛ الذي إذا ظهر في أرض كان علامة على فتنة تستعر وتدوم .. والعجيب أن برنارد ليفي هذا كان في أوكرانيا قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية بأيام قلائل.
في الوقت الذي كان الشهيد البوطي يحذّر من المخطّط الماكر والخبيث والمؤامرة القذرة التي تدار على سورية وأهلها؛ وجدنا من وجوه الطرف الآخر من يستجدي أمريكا، ويستدرّ عطفها على أحلامه .. ولا أدري أأبكي من هذا الكلام البكاء المرّ أم أضحك منه بملء بطني ضحك الحزن والخيبة من أن يكون لأمثال هؤلاء قول يسمع؛ فضلاً عن أن يكونوا في موقف الموجّه لجمهرة من الحركيّين ... هل هناك من يجهل أنّ أمريكا ليس لها قلب، وأنّها لا تعرف الله في سياساتها، وأنّها سبب المصائب والفتن والحروب والأهوال في كثير من بقاع الأرض؟!.
حين كان الشهيد البوطي رحمه الله تعالى يحذّر من الفتنة ويقول إنها ستغرق البلد في بحر من الدّم، ويقول: لن يسألني الله تعالى عن دم إنسان، ولن أكون سببًا لإراقة قطرة دم واحدة، ويسعى لإخماد نار الفتنة وحقن الدماء ولو كلّفه ذلك حياته؛ كنت تسمع من الطرف الآخر من يقول: إنه لا بد من إزاحة النظام الحاكم في سورية، ولو ضُحّيّ بالملايين من أفراد الشعب السوري في سبيل ذلك فلا ضير!!!.. ولعمري لا أدري أيّ منطق هذا المنطق الذي تبرأ منه الإنسانية؛ ويستعيذ بالله منه حتى من لا يتديّن بدين؛ فضلاً عن أن يكون منطق عالم مسلم؟!! .. إنّه منطق أولئك الذين يعيشون في بحبوحة من العيش الأميري الرغيد، ولا يصيبه ولا أحدًا من أولاده أقلّ رشاش من الأهوال التي تصبّ على الشعب السوري المسكين من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه .. وما دام أنّ الواحد منهم لا يعكّر عليه صفو عيشه شيء؛ فلماذا لا تبلغ به روحه الثائرة وحماسه الثوري إلى درجة القبول بالتضحية بنصف السوريّين، وماذا عليه لو دخل الموت كل بيت بيت في سورية.
ولكن إذا كانت الزّوابع والعجاج تحول دون رؤية الأمور على حقيقتها حين تثور، فقد شاء الله تعالى أن لا تدوم، وأن تنقشع عن قريب لتظهر الحقيقة ويستفيق المخدوع، ليحيى من حيّ عن بيّنة ويهلك من هلك عن بينة .. فقد انقشع الغبار وظهرت الحقيقة.
ثم جاءت الخاتمة الفريدة للعلامة البوطي رحمه الله بمثابة شهادة من لسان الغيب على صدقه وصواب موقفه، ودرسًا بليغًا لكلّ مسلم صادق ليعرف العالم القدوة الذي ينبغي أن يراجع وأن يستهدى برأيه في الملمّات.
أسأل الله تعالى أن يتقبّل إمامنا العلامة البوطي في الشهداء وأن يبوئه منازل الصدّيقين المقرّبين المهديين، وأن يكرم أمتنا بأمثاله من العلماء الصادقين المستبصرين.