الزُّهد ثلاثة
قال أحمد بن حنبل: الزهد على ثلاثة أوجه: ترك الحرام، وهو زهد العوامّ.
والثاني: ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخَوَاصِّ.
والثالث: ترك ما يشغل العبد عن الله تعالى، وهو زهد العارفين. {1}
****
كان الناس وسيبقون درجات عند الله، لا يستوون في أي شأن كان؛ لا في أمور الدين ولا في أمور الدنيا.
وأمرُ الزهد من الأمور التي يتفاوت فيها الناس.
فلا يُغتفر لعامَّة المسلمين القسم الأول؛ فإنهم يجب عليهم وجوباً محتَّماً أن يزهدوا بالحرام، وأن يرغبوا عنه، ويتناءوا منه؛ إذ ليس من الإسلام في شيء أن يتجرَّأ أحد على حدٍّ من حدود الله، أو يركب معصية، أو يخالط إثماً - وهو مؤمن.
وبعض العامَّة - مع هذا - يستصعبون السَّهل، فلا يحصِّل واحدهم أدنى درجات الزهد، وهو ترك الحرام، فينتهكه غير عابئ، ويتعدَّى عليه غير هيَّاب.
وقد بدأ الإمام الرباني أبو عبد الله أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - بأسهل الزهد وأهونه ثم ترقَّى إلى القسم الثاني الذي لا يقدر عليه إلا الخاصَّة من الناس إنه ترك ما فَضَل من الحلال، وهو الذي لا بأس به حَذَراً مما به بأس !
إن جُلَّ الناس ما تجرؤوا على الحرام إلا بعد أن بالغوا بالتوسع بالمباحات، فهذه النفس مُغْرقة في الشهوات، مُوَلَّعة في السَّكرات الصَّارفات عن الحقِّ والجِدِّ.
وإذا لم يكن كابح لهذه النفس عن جماحها وتهوُّكها في اللَّذاذات المُرْديات في مآل الأمر - فلسوف تزجُّه، وتدعُّه في المحرمات دعَّاً.
وإذا لم يكن عند المرء القدرة على ترك ما فضل من حلال، فلا بد أن نفسه ستنهزم إِنْ لُوِّح لها بشهوة آثمة، أو بعَرَض زائل وستبيع دينها من أَجْل نَيْله، والتمتع بأَسْره !
ووالله ما سبق مَنْ سبق إلا بالإعراض عن الفضول كلِّه؛ وفضولُ الحلال كثير منه: فضول الطعام، وفضول المنام، وفضول الكلام .
نعم ! كثيرٌ من الناس يخفُّون للطاعات، ويسارعون للخيرات؛ ولكنهم يتفاوتون أمام هذه القضية فيسَّاقَطُ كثيرون.
والمُسْرفون على أنفسهم كثيرون، والقادرون على كَظْم الفضول نادرون في كل زمان ومكان.
أَنْ تَرْضَخَ لجائع شيئاً من الطيبات التي أكرمك الله بها، ولو بحرمانك في بعض الأوقات - شيء عظيم، والأعظم منه أن لا ترى لك حقاً في فاضل من الحلال أي حلال.
والزهد هذا بترك الفاضل من الحلال الطيب من مأكل ومشرب وملبس وغيره، اعتبره الإمام أحمد - رحمة الله عليه - زهد الخواصِّ .
غير أن الأرقى من ذلك الماضي كلِّه، هو زهد الأكابر من الخلق وهم العارفون بحقٍّ، الذين حازوا جوهر الحقيقة، وما غابوا عن المراد من خَلْقهم وقصة وجودهم .
فكلُّ ما في هذه الأكوان مربوب لله تعالى، والتعلق بأي شيء سيشغل عن الله، وسيصرف عن الواجب الذي أُنيط بالأعناق، وذلَّت له الرِّقاب.
ومن هنا عاش العارفون بربهم بقلوب ملآى بمحبة الله، وتعظيم الله، ومهابة الله، والرجاء بما أعدَّ الله من النعيم، والمخافة من أهوال الجحيم.
كانت بواطنهم مع الحق، وظواهرهم مع الخَلْق.
ليس العارف بحق هو الذي يعرف التسبُّبَ والكدح في طرائق الكسب، والتقلُّب في فجاج الأرض متاجرة، أو السياحة في معرفة طبائع الخَلْق والبلاد، إلى غير ذلك من أنواع المعارف، لا !!
العارف بحق هو الذي أَعَدَّ للمقام بين يدي الله يوم العرض عليه !
العارف بحق هو الذي لم يَغْفل عن ذكر ربه؛ فلم يُر إلا حيث أَمَرَ المَلِك، ولم يُفقد إلا حيث نهى الملك.
العارف بحق هو الزاهد بالأكوان الفارُّ إلى مكوِّنها، الزاهد بالخلائق المُؤْثر للخالق، الراغب بالمُوْجد عن الموجودات، وبالباقي عن الهالكات، وبالدائم عن الزائلات.
حقاً إن الزهد الحقيقي لا الزهد بأَكْلَة أو شربة أو كساء - مهما كان نفيساً تستحيله النفوس وتهشُّ له - إنما الزهد الحقيقي بالزهد بأي شيء يشغلني عن رب كل شيء، وواهب كل شيء، ومَصْدر كل شيء، والقائم على كل شيء، ومَنْ كان به كل شيء!
وإذا ذاق هذا العارف لذة الاشتغال بالله أو لذة الإعراض عمَّا يصرف عنه، استهان بعد ذلك بلَذَاذَاتِ الناس، وشهوات الخلائق !
فكم مِنْ فرق بين هذا العامِّي الذي غايةُ جهده أن يزهد بالحرام المحظور، وبين هذا العارف الذي لا تشغله الطيبات ولا الكائنات عن رب البريَّات ؟!
وهل تنال هذه الرتبة إلا بالمجاهدات والتضحيات، والمثابرة على الطاعات والقربات ؟!
فبان أَنَّ أكرمَ الصفات وأسنى العطيات لا تنال إلا بالبذل والتضحيات في ذات الله تعالى !
فلنعم هذا البذل، ولنعم الباذلون !
[1] الرسالة القشيرية ٢٩٧/١ دار الكتب الحديثة - القاهرة ١٩٦٦م تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود ومحمود بن الشريف.