الوقود المفقود
تنظر إلى سلوكه فتجده غريقَ آثامه، تتأمل في شؤونه فتجده ضحية غرائزه وأهوائه، لا يتورع عن الغش وهو يعلم أنه حرام، لا يتورع عن الكذب وهو يعلم أنه إثم، لا يتورع عن ارتكاب الموبقات وهو يعلم أنه انحراف ...
عقله في رأسه ويعلم الحلال من الحرام، لكن لا عقله نفعه، ولا علمه أفاده.
إن سمع قال الله وقال رسول الله، أقبل بوجهه وقال بلسانه: سمعنا وأطعنا، لكنه سرعان ما يدبر، ويُيمِّمَ وجه قلبه شطر غفلاته.
ذلك لأن اليقين العقلي وحده لا يكفي دافعاً إلى الإذعان العملي؛ مالم يهيمن هذا اليقين على القلب.
ولو أن العقل البشري سما إلى الرتبة التي بوأه الله إياها، لعاتب العقلُ القلب على شروده، ولذكّره بالنعم التي أغدقها الله عز وجل عليه. ولخاطبه قائلاً: أليس الله هو الذي يطعمك ويسقيك؟ وهو الذي يعافيك من سائر الأسقام ويشفيك؟ وهو الذي يشرح صدرك ويرضيك؟ وهو الذي ينعم عليك ويحميك؟ وهو الذي سيميتك ثم سيحييك؟ وعليه سبحانه المعول يوم القيامة لينجيك؟ ... فلماذا تعصيه؟!
لو أن العقل ذكّر القلب بشيء من نعم الله عز وجل، من سمعٍ وبصر .. من ذوقٍ وشم .. من أجهزة متراكبة في جوف الجسم .. لو تعطلت إحداها لذلَّ صاحبنا على أبواب الأطباء، يستجدي منهم العلاج.
فلماذا لا نتفكر بنعمه التي غمرنا بها؟ وزيارة سريعة إلى مشفى أو إلى واحد من دور المسنين، أو إلى مكان يرعى فيه المعاقون، كفيلة لذي عقل ولب أن تجعله يتذكر نعم الله تعالى عليه، ومن ثم تجعله يحب الله عز وجل ويرقبه في نعمه. وما من إنسان أدرك مدى فضل الله عليه وتبين النعم التي تفد إليه، إلا واتجه قلبه بالحب إلى الله، لأن النفوس جبلت على حبِّ من أحسن إليها.
إنك إذا دمت على حال من التفكر والتدبر فترة، سيفيض قلبك حباً لله، وستكون عندئذٍ ممن قال الله عنهم: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾.
لو أن الإنسان بدلاً من أن يشغل عقله بسفاسف الأمور، خاطب قلبه وذكّره بهذه الحقائق، لتفجرت محبة الله عز وجل في قلبه، ولتحول إيمانه العقلي بوجود الجنة والنار إلى إذعان عملي، ولانبعث من القلب وقودٌ دافع يدفع صاحبه للسعي تنفيذاً لأمر الله، وتحكيماً لحلاله وحرامه، ولأدرك القلب أن الرزية ليست بغلاء ولا بفقر ولا بداء مستحكم عضال، إنما الرزية بالشرود عن صراط الله ...
لكن للأسف لما ضاع العقل ضاع القلب معه.
قلوبنا اليوم تفرّق جمعها بأهواء، وتشتت شملها بنزوات، ولم يتبق من محبة الله عز وجل فيها إلا آثار وأطلال؛ هذه الآثار والأطلال لا تكفي دافعاً للتغيير من أحوالنا، لا تقوى على دفع صاحبها إلى صالح الأعمال والمبرات كما كان عليه حال الأولين من أسلافنا.
قلوبنا اليوم مفتقرة إلى وقود يحييها، ألا وإن الوقود الذي يحرك القلوب ويحيل الدعة في الجوارح والأعضاء إلى شعلة إذعان وتنفيذ، إنما هو محبة الله عز وجل.