الوعي ... زينة عقل المسلم
منشورات ومقاطع تمتاز بصياغات ركيكة تدمر الذوق اللغوي السليم، ومعلومات عجيبة تشوه الفكر القويم؛ فتاوى فقهية، ونصائح دينية، ومعلومات تاريخية، وإرشادات طبية، وفوائد اجتماعية..
وزاد الطين بِلة، أنك لم تعد تفرّق بين عالم وجاهل، الكل بات كاتباً، والكل بات حكيماً، ومقوماته العلمية تُختزل بثلاث عمليات بسيطة، نسخ ولصق وإعادة التوجيه، في زمن شاع فيه الكذب وعدم التثبت وتلفيق الأخبار عبر المونتاج وتركيب الصور.
ورغم ذلك تجد من يتفاعل مع كل منشور ومقطع وخبر، فيسعى به نشراً وإرسالاً، بل ويتحفك برأيه تصويباً وإبطالاً – مهما كان الموضوع ومهما كان الاختصاص، المهم أنني عنصر فعّال ونشيط في فضاء هذه التقنيات، فهو فقيه ومفسر، وطبيب حاذق، ومهندس بارع، وسياسي مخضرم، وعالم مغمور، لكن لم ينصفه التاريخ .. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه مسلم وأبو داود: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع).
والأقبح حالاً ذاك الذي تراه متكئاً على أريكته، ثم يصنّف العلماء ما بين مخطئ ومصيب، ومنهم من تطاولت به الجرأة حتى عرّض بالأئمة الفقهاء، أو رجّح بين الخلفاء، وما هو في القبح إلا كقزْم يتطاول أمام المردة الطوال.
منشورات ومقاطع تبث وتتداول على مدار الساعة كما تعلمون. أما ينبغي أن أسأل نفسي: من الكاتب؟ ومن الدعيّ الذي أراه أمامي؟ ما هويته؟ ما خلفيته؟ ما هي مآربه؟ ما مؤهلاته؟ من الذي يصف لي الوصفات الطبية؟ ومن الذي يملي عليّ الأحكام الفقهية؟ من هذا الذي سلمته زمام عقلي حتى يقودني ويستولي على فكري؟
أين هو الوعي؟!
الوعي زاد وعدة وعتاد، وهو الكابح من الوقوع في المتاهات، وخير ما يضبط المواقف والتصرفات؛ من خلال الوعي ندرك ما يُرَادُ بنا، ومن خلاله نشم رائحة الكيد فيما يطبخ لنا من مخططات.
هذه التقنيات التي بين أيدينا، قد باتت ثغرةً خطيرة وجد أعداء المسلمين فيها غايتهم، ووجد أعداء الأخلاق فيها مآربهم، يرتدون رداء الغيرة المكذوبة على الإسلام، أو يلبسون لباس التباكي على الأوطان؛ ثم يكيدوا للإسلام باسمه ويسعون لتشويه ما تبقى من فضيلة من خلال نشر الرذيلة.
وكتاب الله عز وجل يحرر عقولنا ويسمو بنا إلى سدة الفكر الإنسانيّ السليم، ذلك لأن الإسلام ليس عبارة عن عواصف ولا عواطف، بل هو علم ومعرفة وإدراك لما وراء الأكمة، لما وراء الحدث. ألم يقل الله عز وجل: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً). أي كن على حذر، ولا تتبع ما لست على علم ودراية بأنه حق وصواب، و"ما" من أدوات العمومِ كما هو معلوم، تشمل كل شيء.
لذا فإن المسلم يكرّم نفسه وينزّه عقله ولا يسمح لمجهول أن يقوده أو يؤثر عليه، لا ينقاد عبر قنوات أو مواقع أو مقاطع، لا ينزلق فيما يحاك له من حبائل، يسمع بعقله لا بعاطفته، لا يهتاج كما أرادوا أن يهيجوه، ولا ينقاد كلما أرادوا أن يقودوه.
المسلم الواعي، لا يقوده الرعاع فيطبّل، ولا يخرج معهم فيكثّر سوادهم، ولا يردد هتافات لا يدري من صاغاها، وهو أسمى من أن يستخدم ورقة رابحة لتحقيق مآرب أعداءه في تدمير بلده، وتسهيل مطامعهم في نهب ثرواته ومعامِله، ثم يترك في هذه الدولة أو تلك لاجئاً غريباً ليواجه مصيره المجهول.
كل ذلك ما كان ليحصل في بلاد المسلمين لو أنهم احتكموا إلى قول الله عز وجل: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)
ومنبع الوعي يكمن في العلم؛ في تعلم أحكام هذا الدين، ومسلم يَخُب السير وهو لا يعلم عن إسلامه شيئاً ما أسرع ما تقتنصه أقوال الدجاجلة وينجرف مع تيارات الضلال، يسلِّم زمام عقله لها، ويتفاعل معها، وما هي إلا منزلق ما أكثر من تورط فيه. أما المسلم الذي تحصن بالوعي، فلا يمكن لسهام الكيد أن تخترق كيانه أو أن تخترق عقيدته بشكلٍ من الأشكال.
ها هم يصبّون عبر هذه التقنيات مزيداً من وقود النزوات على نار الغرائز الكامنة في نفوس اليافعين واليافعات، والشبان والفتيات ليزيدوها تسعّراً، ترويجاً للرذيلة، ومحاربة للفضيلة. وكم من ساذج لم يدرك إلى اليوم أنه ضحية، بدلاً من أن يجنّد هذه التقنيات لما فيه الخير والنفع، جنّدوه، نفذت سهام أعدائه فأصابته في مقتل، فهزت كيانه ودمرت عرش الفضيلة في أسرته وبنيانه.
فأسأل الله تعالى أن يرد عنا كيد الكائدين، ومكر الماكرين، ويحمي شباب المسلمين وبناتهم من شر شياطين الإنس والجن.