مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 04/09/2021

المستقبل الحقيقي

مقالات

تتلاحق الأيام، فيغدو المستقبلُ حاضراً، ثم ينقلب الحاضرُ إلى ماض، ما إن يشب أحدنا عن الطوق حتى تدور به رحى الحياة وينصهر في البوتقة، كلٌ يسعى نحو العلا الذي رُسم في عقله - في حركة دائمة دائبة، فهو يهيئ نفسه لمستقبل أفضل، لمستقبل مشرق ...


والمتقدمون لاختبارات الثانوية - في مثل هذه الأيام من كل عام - يتطلعون إلى المستقبل بوجل، تراه يفكر في القرار المصيري الذي سيتخذه، والفرع الذي سيحدد له معالم مستقبله، ومن لم يُكتب له النجاح منهم تراه محبطاً يائساً، يرى أن الدمار قد حاق بمستقبله.


نعم .. (المستقبل) كلمة يعيش في هاجسها الكثيرون، تلاحقهم يوم كانوا صغاراً، وتؤرق فكرهم عندما غدو يافعين.


والمستقبل إما قريب وإما بعيد. والقريب منهما هو ما يؤرق فكر الكثيرين؛ على الرغم من أن باب الاستدراك فيه متاح ومفتوح، فإن الراسب فيه يعطى فرصةً ليعوض ما فاته من تقصير. بخلاف المستقبل البعيد، فإن النجاح والرسوب فيه أمر خطير لا رجعة عنه ولا استدراك فيه، فهو إما مع من قال الله تعالى عنهم: (إن المتقين في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر). وإما مع من قال الله تعالى عنهم: (إن المجرمين في ضلال وسعر * يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر).


على أن القرب والبعد في هذين المستقبلين أمر نسبي مجازي، فكم من إنسان رُحّل إلى مستقبله البعيد من قبل أن يقتطف ثمار نجاحه في المستقبل قريب؛ فكان مستقبله البعيد أقرب من القريب، إذ تخطفه الموت وهو في ريعان شبابه.


والحقيقة التي غابت عن عقول الكثيرين هي أن المستقبل الحقيقي هو المستقبل البعيد لا القريب؛ وفرحة الناجح فيه لا تعدله فرحة أهل الأرض جميعاً بالمستقبل القريب. وقصير النظر هو الذي يحسب أن المستقبل لمن يحوز شهادة عليا يتبوأ بعدها منصباً مرموقاً، أو الذي يملك قصراً فارهاً ومالاً وفيراً ومركباً وثيراً، أو الذي يشار إليه بالبنان ويَنْعُمُ بجاه عال بين الأقران والخلان ..


المستقبل المشرق لمن يتناول صحيفتَه بيمينه. فيصرخ قائلاً: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ).


المستقبل لأصحاب الوجوه الناضرة الذين يجتازون الصراط دون أن تتخطفهم الكلاليب.


المستقبل لمن يسدل الله تعالى عليه ستره يوم القيامة ويقول له: (سترتها عليك - المعاصي - في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم).


المستقبل لمن يحظى بشربة من كف حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم لا يظمئ بعدها.


المستقبل لمن يكون بمأمن عن أشعة الشمس اللاهبة تحت ظل عرش الرحمن؛ وقد دنت الشمس من رؤوس الخلائق.


في ذلك اليوم لن تسأل عن الشهادات التي حملتها، ولا عن المناصب التي تبوأتها، ولا عن الألقاب التي كنت تنعت بها، بل ستسأل عن حقوق هذه المناصب والشهادات والألقاب التي وفقك الله إليها. هل أديت حقها؟ هل خدمت الناس من خلالها أم كنت لهم متعباً؟ هل مددت يد العون لعباد الله أم كنت لهم مرهقاً؟ والله تعالى يقول: (وقفوهم إنهم مسؤولون).


المستقبل لمن اتخذ من نجاحه في المستقبل القريب مرقاة وبوابة نجاح لمستقبله البعيد.


ولعمري أين هم المربون والمرشدون لينبهوا شباب الأمة وبناتها لهذه الحقيقة، لينبهوهم إلى المستقبل الحتمي الذي بات الكثيرون شاردين عنه.


وليس القصد من هذه العجالة تثبيط الهمم عن السعي إلى التفوق، حاشا، بل علينا أن نجد ونجتهد في سبيل النجاح في المستقبل القريب الذي شغل العقول وأرق الأفكار، لكن ما كان ينبغي لنا أن ننشغل به عن المستقبل الذي حذرنا الله تعالى منه عندما قال: (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون). 


ومجتمعنا اليوم يفيض بحملة الشهادات، لكن كم منهم من أرّق فكره المستقبل البعيد؟! المستقبل الذي شغل عقول الربانيين، وأرق مضاجع الصالحين، وكان شغل للأنبياء والمرسلين الشاغل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: )الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت(.


فنجاحك الباهر وتفوقك اليوم لن يغني عنك شيئاً إن كتبت على نفسك الشقاء في المستقبل البعيد. والعكس صحيح، فإن النجاح في المستقبل البعيد لن يضير من لم يكتب له النجاح في هذا المستقبل الذي يعيش في هاجسه الكثيرون.


فاحمل الشهادة التي تريد، واختر المهنة التي تحب، وتبوأ المنصب الذي تطمح إليه، كل ذلك لن يحجبك عن المستقبل المشرق، ما دمت قد اتخذت منها سُلّماً تبتغي بها مرضاة مولاك عز وجل، والله تعالى يقول: )العاقبة للمتقين(.

تحميل