مميز
EN عربي
الكاتب: أ. د. حسان الطيان
التاريخ: 27/03/2011

تنشئة الطفل على سماع الكلام الفصيح

مقالات

تنشئة الطفل على سماع الكلام الفصيح


نحو الفطرة..ونحو الفطنة


الدكتور حسان الطيان


وذلك بأن يخضع الطفل لدورات منظمة من خلال رياض الأطفال لا يسمع فيها إلاّ الفصيح من الكلام، وقد أثبتت هذه الطريقة فعاليتها وآتت أكلها على خير وجه من خلال التجارب التي أجراها الأستاذ الدكتور عبد الله دنان على طفليه أولاً ثم على رياضٍ للأطفال في كل من الكويت ودمشق، وهو بصدد تعميم هذه التجربة على أقطار الوطن العربي الكبير.


ويؤكد د. دنان – الذي درس أصول التربية واكتساب اللغة في بريطانيا وكان له مشاركة فعالة في البرنامج التلفازي الناجح (افتح يا سمسم) – أن فترة الخصوبة اللغوية إنما تنحصر في المدة الواقعة بين السنة الأولى والسنة السادسة من عمر الطفل؛ إذ يحاكي الطفل ما يسمعه من حوله وتكون لديه القدرة العجيبة على المحاكاة والتركيب والتحليل والقياس والتوليد والاشتقاق والنحت، إلى حدٍّ جعل التربويين يفكرون بتلقين الطفل عدة لغات بآن واحد في هذه السنِّ كما يجري في سدني بأستراليا، إذ تقوم إحدى المؤسسات التربوية بتلقين الأطفال ست لغات بآن واحد!!.


وأنا أشهد أن تجربة د. دنان قد حظيت بنصيب لا بأس به من النجاح، فقد سمعت حوارًا مسجلاً على الفيديو بينه وبين ابنه ذي السنوات الثلاث فكانت العربية تجري طيِّعة غضَّة على لسان الطفل بلا تكلف ولا اصطناع، وإن تعجب فعجب أمره حين كان يجيب أمه بالعامية إما تدخلت في ذلك الحوار ثم يعود إلى عربيته مع أبيه، فما كانت العربية بمانعة له من محاكاة لغة أمه العامية، فلكل مقام مقال، ولكل سؤال جواب.


ثم زرت الروضة التي أسسها في الكويت عام 1989م، وزرت الروضة التي أسسها في دمشق عام 1995م، فسمعت عجبًا من حديث الأطفال بالعربية الفصيحة، وسمعت طُرَفًا من أفانين اشتقاقهم وتوليدهم وقياسهم، مما جعلني أجري التجربة مع بعض أولادي في حدود ضيقة وقد كان فيها نفع كبير وأجراها بعض أصحابي أيضًا فأثبتت نجاحًا باهرًا.


وقد شهد بنجاح هذه التجربة رهط من أهل العلم وأرباب اللغة على رأسهم أستاذنا العلامة سعيد الأفغاني رحمه الله، على أنه أبدى ملاحظة جديرة بالاهتمام وهي اقتصار التلقين على الحوار وقص القصص بالعربية الفصيحة، وعدم اشتماله على نصوص سهلة من عيون الأدب العربي تساعد الطفل على اكتساب اللغة وتنمية الذوق الأدبي الرفيع، وامتلاك أدوات الفصاحة والبيان.


وأنا مع أستاذنا الجليل في كل هذا، فلا بدَّ إلى جانب التلقين هذا من عرض طائفة من نصوص العربية تتخير من أسهلها لفظًا وأسلسها عبارةً وأيسرها حفظًا وأقربها فهمًا، وأحلاها إيقاعًا ووزنًا، ليسمعها الطفل فيطرب لها، ويتغنى بها، ويحفظها فتكون له رصيدًا وزادًا لغويًّا يرتقي به إلى مرتبة الفصحاء والأبيِناء.


أذكر من هذه النصوص المتخيَّرة – على سبيل التمثيل – صغار السور القرآنية، وهي مما يمكن أن يردِّده مجموع الأطفال مع معلمهم بصوت واحد يجعل حفظه سهلاً، بل ينقشه في ذاكرة الطفل نقشًا يصعب أن يزول مع الزمن، ويمكن أن تتوسع دائرة هذه السور لتشمل جزء عمَّ كلَّه وتضم إليه سورًا أخرى يسهل تردادها على ألسنة الأطفال.


ومن هذه النصوص أيضًا قصائد تُتخيَّر من أرق الشعر وأعذبه جرسًا وأخفِّه وقعًا، مما يمكن أن يتغنى به الأطفال، كقصائد شوقي على ألسنة الحيوان، وقصائد سليمان العيسى الخاصة بالأطفال، بل إن المتتبِّع للشعر العربي يقف على نماذج من عيون الشعر القديم بلغت الغاية في العذوبة والرقة والسهولة والخفَّة، من مثل قول العباس بن الأحنف:


وكانت جارةً للحــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـورِ في الفردوس أحقابا

فأمسَتْ وهي في الدنيا

وما تألفُ أَترابــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا

لها لُعَبٌ مصفَّفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــةٌ

تلقِّبُهُنَّ ألقابــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا

تنادي كلَّما ريعــــــــــــــــــــــــــتْ

من الغِرَّة يا بابــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا[1]


 


وأمثالها كثيرة في أدبنا العربيّ، وقد كان أستاذنا العلامة أحمد راتب النفاخ يحفِّظ ولده من غرر الشعر الجاهلي والإسلامي الشيء الكثير ولم يكن عمره يزيد على أربع سنوات!


ولا بدَّ من التنبيه هنا على ملاحظة في غاية الأهمية، وهي وجوب أن يكون المعلم متقنًا للغة لا يلحن فيما يلقِّن للطفل، وإلاَّ ضاع الجهد سُدى وانقلب الأمر ضررًا، لأن ما بني على فسادٍ فإلى فسادٍ يؤول، واللحن الذي يلقَّن للطفل سينقش في ذهنه وسيؤدي إلى قياس فاسد عنده.


وينبغي أيضًا أن يجمع المعلم إلى إتقانه للغة، تجويدًا لأصواتها، وإفصاحًا للنطق بها، وسلامة من آفات النطق، ومن طغيان بعض اللهجات العامية على لسانه، لأن الطفل سيحاكي ما يسمعه، فإذا سمع اللفظ مجوّدًا فصيحًا خاليًا من الآفات أدَّاه أحسن الأداء، وإلاَّ انطبع الفساد في دهنه وبَعُد عن الفصاحة بُعْدَ معلمه عنها.


لي صاحب لما يبلغ السابعة من عمره، يحلو له أن يكلمني بالفصحى، سواء لقيني وجهاً لوجه، أو خاطبني بالهاتف.


يشدو بها كما تشدو العصافير، فتخرج من فيه غضة طرية، لا تكلف فيها ولا عسر، ولا لحن فيها ولا خطأ، بل تجري على لسانه سليقة فطرية على نحو ما قال الشاعر:


ولست بنحويٍّ يلوك لسانَهُ       ولكنْ سليقيٌّ يقولُ فيعربُ


فهو يعرب كلماته، أي يعطي كلّاً منها حركته المناسبة، ضمة كانت أو فتحة أو كسرة، دون أن يعلم شيئاً عن فن الإعراب، ودون أن يدرس شيئاً من دروس النحو والقواعد، إنه نحوُ الفطرة الذي يجري على ألسنة الفصاح، لا نحوُ الفطنة الذي تشتمل عليه مصنفات النحو. وهو_ أي نحو الفطرة _ النحو الذي استقامت به ألسنة، وارتقت عليه أذواق، واستوت به ملكات.


وإنما يُكتَسَبُ من مجالسة الفصحاء، ومداومة الكلام معهم، وقراءة النصوص _ نصوص العربية السليمة _ وتخير الجميل منها وحفظه، وملازمة الكتب.


قلت لصاحبي الصغير مرة كيف أتقنت العربية؟ وأنى لك هذه الطلاقة فيها؟


فأجابني: من كلامي مع والدي، ومن أفلام الكرتون، ومن القصص التي أقرأها صباح مساء.


وقد جربته في هذا فوجدته قارئاً نهماً، بل هو أسرع قارئ صغير عرفته، إذ زارني مع أبيه ذات يوم فتجاذبت معه أطراف الحديث، ثم خشيت أن يلهيني عن والده فصرفته بمجموعة قصصية تحوي أربع قصص دفعتها إليه طالباً منه أن يقرأها ظاناً أنه سيبدأ بها عندي ليكملها في بيته، وما كان أشد عجبي حين أعلن بعيد برهة يسيرة أنه أتى على تلك القصص، وجعل يعلق على بعض شخصياتها، فذكرني بالمتنبي حين أخذ يتصفح كتاباً يريد صاحبه أن يبيعه في سوق الوراقين، فلما أطال النظر فيه نهره صاحب الكتاب قائلاً: إن كنت تريد حفظه فهذا إن شاء الله يكون بعد شهر فأجابه المتنبي: وإذا كنت قد حفظته فمالي عليك؟ قال: أهبه لك، وأقبل يتلوه عليه إلى آخره، فعجب الرجل وترك له الكتاب.


أما أنا فأعطيت صاحبي الصغير مجموعة قصصية أخرى وأنا أودعه على باب المنزل، خشية أن يأتي على مجموعات المكتبة كلها فلا يبقي لأولادي منها شيئاً!


وحدثني والده وهو يقدم لي أطروحته التي صنعها لنيل درجة الماجستير أن صاحبي الصغير هذا _ واسمه إبراهيم _ كان يساعده في إعدادها، وقد وقف له على تصحيح بيت من الشعر ، كما أنه أسهم في ترتيب مواد الفهرس على حروف الهجاء لأنه يحفظ الترتيب جيداً .


والحق أن صاحبي هذا ليس بدعا في بابه، بل هو يمثل نمطا من الأطفال أخذهم آباؤهم بهذه اللغة الفطرية فأحسنوا فيها كل الإحسان، وكان شيخنا وشيخهم في ذلك الأستاذ الدكتور عبد الله دنان الذي عمم هذه التجربة الرائدة، وأخرجها من محيطه الفردي إلى رياض للأطفال بدأها في هذا البلد الطيب الكويت في أواخر الثمانينيات من القرن الفائت، وانطلق بها لتعم كثيرا من بلداننا العربية كسورية ولبنان والسعودية وقطر...وأول الغيث قطر ثم ينهمر.


ولعل من أبرز أبطال هذه المدرسة صاحبا لي آخر يدعى أحمد أيمن ذو الغنى، أخذه والده أخذاً حازما بهذه اللغة الفطرية، فلم يُسمعه إلاها، ولم يرتضِ أن يسمع منه سواها، فإذا رطن الولد بالعامية، زعم الوالد أنه لم يفهم، فعاد الولد إلى فصحاه، وانطلق يغرد بها تغريد العنادل، يرفع وينصب، ويجر ويجزم، ويعطي كل ذي حق حقه فطرةً وسليقةً...يفعل ذلك كله دون أن ينسى لهجته العامية ، تلك التي يتكلم بها مع أمه وأقاربه، وأصحابه وأترابه.


ومن طريف ما رواه لي والده أنه لقيه مرة يلعب مع أتراب له خارج المنزل، وكانوا من جنسيات مختلفة، فيهم السعودي، وفيهم المصري، وفيهم الحلبي، فجعل الولد يترجم لأبيه ما ينطق به  هؤلاء من لهجاتهم المحلية، لأنه موقن أن أباه لا يفهم إلا هذه الفصحى الشريفة!


 وزاد أبوه فجعل يرّويه من الشعر أجزله، ومن الأدب أجمله، فضلا عن محفوظه من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، فنشأ الولد أديبا أريبا، يكتب القصة، وينشد الشعر، ويسهم في نشاطات صحفية مختلفة، ولما يجاوز العاشرة. بل إن أباه زفَّ لي منذ أيام بشرى انضمام أحمد إلى نادي الصحفيين، وإجرائه الحوار الأول له مع وكيل مدرسته. وكان من قبل هذا قد استضيف في إحدى القنوات الفضائية ونوَّه بتجربته الرائعة.


 أكتب هذا الكلام وقلبي يتفطر حسرة على الضعف المستشري بين أبنائنا وآبائهم وأعمامهم وعماتهم وكل من يلوذ بهم...  في لغتهم العربية، مع أن العلاج سهل ميسور، وهو على طرف الثُّمام من كل منا، إنه يكمن في سماع صحيح، يمكن أن نوفره لهم فيما يتابعونه من أفلام الكرتون، وقراءةٍ نهمة، يمكن أن نعودهم عليها بتقديم القصص الجميلة بلبوس بديع وأسلوب شائق. ثم نعتادهم ببعض النصوص الأدبية القصيرة من القرآن و الحديث و الشعر الرائق يحفظونها، فيمتلكون ناصية اللغة، ويكتمل في أذهانهم نظام نحو الفطرة، ويستغنون به عن كثير مما نشغلهم به من نحو الفطنة، فهلّا بدأنا!!


لقد شغلنا بنحو الفطنة _ أعني قواعد اللغة ونوها وصرفها _ أكثر مما ينبغي، وأهملنا نحو الفطرة _ أعني سماع اللغة السليمة وقراءة نصوصها الفصيحة وحفظ روائعها الجميلة – فكانت النتيجة ما نحن فيه من ضعف في اللغة ونفور من دروسها، وعداء مستحكم بين أبنائنا وبينها.


يقول الأستاذ الدكتور سعد مصلوح: " إن الأمد لا يزال بعيدا ما بين نحو الفطرة على ألسنة الفصاح، ونحو الفطنة في مصنفات النحو، وإن الأول ينبغي أن يكون حاكما على الآخر ومهيمنا عليه".


 والحق أن هذه السبيل في اكتساب ملكة اللغة _ أعني سبيل نحو الفطرة _ هي التي سلكها أجدادنا في تعليم أولادهم العربية و في إكسابهم سليقة الفصاحة والبيان عن طريق المحاكاة والسماع لا عن طريق النحو والقواعد. وفي هذا يقول الجاحظ في فصل عقده لرياضة الصبي من رسالته في المعلمين:


"وأما النحو فلا تشغل قلبه منه إلا بقدر ما يؤديه إلى السلامة من فاحش اللحن، ومن مقدار جهل العوام في كتاب إن كتبه، وشعر إن أنشده، وشيء إن وصفه. وما زاد على ذلك فهو مشغلة عما هو أولى به، ومذهل عما هو أردّ عليه منه من رواية المثل والشاهد، والخبر الصادق، والتعبير البارع.".


وهي السبيل التي نادى بها ابن خلدون في مقدمته عندما رسم خطة التعليم لمن ابتغى ملكة اللغة، ثم انتهى إلى القول:


"وتعلم مما قررناه في هذا الباب أن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه، و يتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط  عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة  المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم".


   وهي السبيل أيضا التي نبه عليها أرباب العربية في عصرنا، حين تصدوا لأمر اكتساب اللغة، فمن ذلك قول الأستاذ إبراهيم مصطفى عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة:


"إن أفضل طريقة لتعليم اللغة وأيسرها وأقربها إلى مسايرة الطبيعة هي أن نستمع إليها فنطيل الاستماع، ونحاول التحدث بها فنكثر المحاولة، ونكل إلى موهبة المحاكاة أن تؤدي عملها في تطويع اللغة وتملكها وتيسير التصرف بها، وتلك سنة الحياة في اكتساب الأطفال لغاتهم من غير معاناة ولا إكراه ولا مشقة فلو استطعنا أن نصنع هذه البيئة التي تنطلق فيها الألسنة بلغة فصيحة صحيحة، نستمعها فتنطبع في نفوسنا، ونحاكيها فتجري بها ألسنتنا، إذاً لملكنا اللغة من أيسر طرقها، ولمُهِّد لنا كلُّ صعب في طريقها ".


   ومن ذلك أيضا قول الأستاذ الدكتور رمضان عبد التواب: "لا شيء أجدى على من يريد تعلم لغة ما من الاستماع إليها والقراءة الكثيرة في تراثها، وحفظ الجيد من نصوصها".


   فلنعد إلى النحو الفطري، نحو القرآن الكريم، والحديث الشريف، والشعر العذب النبيل، والمثل السائر، والحكمة البليغة، والخطبة المؤثرة، وطرائف الأدب ولطائفه.


[1]  ديوان العباس بن الأحنف، تحقيق عاتكة الخزرجي، طبعة دار الكتب المصرية، ص18، والبيت الأخير دليل على أن لفظة (بابا) عربية أصيلة.

تحميل