محمد حسان الطيان وانتفاضة لغوية تشعل قناديل الأمل
مقالات محمد حسان الطيان ... ودروسه في اللغة العربية تأتي كترس منيع يواجه فيه تيار تغريب المجتمعات العربية عن فكرهم وثقافتهم، تيار الالتفات إلى لغة الآخر الغالب حضارياً، ونسيان لغتهم لغة المغلوب على أمره، وهذا طبعاً مترتب على فكرة التطور والتخلف، ناهيك عن غالبية أخرى ليس لها هم لغة عربية أو أجنبية، فقط تكتفي بالدوران حول ذاتها ولهوها الخاص الذي ينأى عن أي إحساس بوعي ومسؤولية بناء شيء في هذه الأمة.
قرأت له مقالتين في جريدة الرأي فعادت بي الذاكرة إلى الماضي الجميل، حقبة الدراسة في جامعة الكويت للتخصص الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من هويتي وتعريفي لنفسي، وهو دراسة اللغة العربية.
وكان من الأقدار السعيدة دراستي لمادة النحو العربي التي يدرسها الدكتور حسان الطيان، حيث الروح متوقدة في الرغبة المشبوبة بحب العلم ونور المعرفة والمتفهمة لدور اللغة الفعال في تمسيك الذات زمام العملية التواصلية مع النصوص وتأويل دلالاتها، ناهيك عن القضية الجمالية والإبداعية التي تدور في فلك اللغة. إن هذا الالتفات الولع باللغة قابل روحاً أكاديمية تعلي من همم الطلبة العاشقين للغة وتزيدهم قوة ويقينا بها وبسلامتها واستقامة لسان متحدثيها، والبحث معهم في أسرارها الكامنة ليزيدوا توهجا بحبها واقتراباً من ينابيعها الصافية، كما كنا نلاحظ من أستاذنا الموقر تألماً شديداً يعتصر خلجات روحه عندما يرى أحد الدخيلين على حقل اللغة العربية الذين ينصبون الفاعل ويكسرون المفعول به، ويتخذون من الدرجة العلمية وسيلة للوظيفة بأسهل الطرق.
أستاذنا العزيز، له من المقالات المتعددة التي تشحذ الهمم وتحمس الأجيال الناشئة لحب اللغة العربية، والجميل فيها والممتع حقاً هو إنك ترى في المقال روح شيوخ لغتنا القدامى المنتمية لعصور أموية وعباسية، شعر يعيدنا للماضي العريق، مقولات شيوخ اللغة إزاء حوادث الدهر ليدمجها الدكتور محمد حسان الطيان في روح النص الحديث وليعلق بها على شخصيات معاصرة، ما يحيلنا إلى فكرة الأصالة والحداثة، فنرى الحديث والجديد مسبوكا بلغة أصيلة سليمة مطعمة بروائع الشعر العربي والأقوال الخالدة، ففي مقالته: (الدكتور مازن المبارك...ومواسم الفرح) يقول:
(وإذا ما حضر مجلساً زانه بكلامه، وملأه بحضوره إن الكلام يزين رب المجلس وإذا ضمته نزهة أو سيران كان مصدر الحبور ومنبع السرور ومجتلب المتعة ومحل الأنس. وله حديث يجمع بين الفائدة والمتعة على نحو عجيب، فبينما تراه يدفع عن لغتنا ما لحق بها من أذى، ويذود عنها ذود الفارس الهصور، إذا هو يطرفك بأرق النوادر، ويسمعك أعذب الأحاديث والخواطر.. إنه السحر الحلال الذي وصفه ابن الرومي بقوله:
وحديثها السحرُ الحلالُ لـو أنـَّهُ | لم يجنِ قتلَ المسلمِ المتحرِّزِ |
إن طال لم يُمللْ وإن هي أوجزتْ | ودَّ المحدّث أنـهـا لمْ تـوجـزِ |
شـركُ الـعـقـولِ وفـتـنـةٌ ما مثلها | للمـطـمـئنِّ وعقله المستوفـزِ |
فلغته لغة ثرية وغنية بالمترادفات فكل كلمة تحمل معناها الخاص والموجه، بخلاف نصوص تكرر نفسها بلغة مفرغة من معانيها، ولذلك فإن قراءة نصه هي قراءة المتعة والفائدة في آن واحد، وقراءة فسيفساء نصوص سابقة مدمجة بانسجام وتناغم مع النص الجديد المضيف).
وإن كنا سنلتفت إلي المقال الآخر له المعنون بـ «كم ذلّ أقوام بذلِّ لغات» فإن إضاءته لحال زميله الأكاديمي النائي عن اللغة العربية، والمولع باللغة الإفرنجية، بقدر ما كانت نقداً راديكالياً لحال المغتربين روحياً وفكرياً عن روح الحضارة العربية ولغتها، فهو أخذ من هذه الحادثة العارضة وسيلة للكشف عن الجانب الخطير الذي تلعبه اللغة في رفع أقوام وذل أقوام بلغاتهم، وهو ما تم التطرق له في بداية المقال.
وهو إن كان يقول متأسفا على حال هذا الزميل:
(لي زميل أكاديمي وقاك الله شر الكدمات- تعلم في بلاد الإفرنج، ونهل من لغة العلوج، فافتتن بها وانبهر، ونسي بل تناسى أصله ولغته، فتراه كلما تكلم في اجتماع جامعي، رطن بلغة الإنكليز وخلط ركاكته العربية بكثير من فصاحته الإنكليزية تعالياً على زملائه، و استخفافاً بمن لا يتقن الإنكليزية منهم، وجرياً وراء أولياء نعمته الذين انتشلوه من ظلمات الجهل وطُمَّتِه، إلى نور العلم وسَعَته).
فإننا نقول له:
إنك لك تلميذة تتعلم في بلاد الإفرنج، وعلى الرغم من أنها فاتحة قلبها وروحها لكل الحضارات الإنسانية وراغبة في التفاعل الخلاق بين ذاتها العربية ومعطيات الحضارة الغربية، أو الثقافة الكونية المقدمة في زمن العولمة، إلا أنها حافظة ثيمات لغتها العربية الأصيلة في ثنايا روحها، ورافضة بعناد وإصرار الانصهار بتلك الثقافة والتماهي ونسيان الذات وإنكار معالم الحضارة العربية، ما أثار حفيظة من كان متحفظاً ومدعياً للإنسانية والقبول والتسامح مع الآخر وثقافة الآخر، فاكتشفت قشور الشعارات الإنسانية الرنانة، وازدادت إصراراً على رسم معالم الهوية العربية في خارطتهم التي لا ترى إلا قسمات وجهها، ما دمنا نعيش في عصر الثقافة الكونية والهوية العالمية للإنسان المعاصر.