مميز
EN عربي
الكاتب: أسماء رمضان
التاريخ: 23/01/2011

دور الإنسان في الحياة وعلاقته مع الله ومع الكون

مقالات

دور الإنسان في الحياة وعلاقته مع الله ومع الكون


- الحمد لله رب العالمين. وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد خير الخلق أجمعين. وعلى آله وصحبه وسلم. إلى يوم الدين:

- يقول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: "نعمتان ما خرج موجودٌ عنهما، ولا بد لكل مكوَّن منهما، نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد؛ أنعم عليك أولاً بالإيجاد، وثانياً بتوالي الإمداد..".

هذه الحكمة ليست إلا جواباً لمن يسألون مستفهمين أو مستنكرين عن السبب أو الحكمة من إيجاد الله سبحانه وتعالى لهم، فهم في أحسن أحوالهم لا يفهمون شيئاً عن الحكمة التي تكمن وراء إيجاد الله لهذه الخليقة.. وربما كان أكثرهم ممن لا يؤمن بالله. ومن ثَمَّ فهم ممن يستوحشون من وجودهم الذي لا يعلمون مصدر انبثاقه، ولا يتبينون شيئاً من عواقبه ومصيره، لا سيما إن كانوا ممن طافت بهم المحن، وحلت بهم المصائب، ولم يتح لهم أن يحققوا لأنفسهم الأحلام التي كانوا يسعون إلى تحقيقها..

- ومن الواضح أن هذا الفريق من الناس لن يدركوا أيَّ نعمة تكمن في وجودهم من حيث هو، ومن ثَمَّ فلن يصدقوا هذا الذي يقرره ابن عطاء الله وكيف يصدقون أن وجودهم نعمة، وهم يضيقون ذرعاً به ويستوحشون منه، وتتوالى عليهم منه النكبات.. بل كيف يصدقون أنه نعمة، وإن الكثير منهم يطرق أبواب التخلص من عن طريق الانتحار...!

وأكثر هؤلاء الناس لا يؤمنون بالله، وإن جاء سؤالهم بصيغة: لماذا خلق الله الإنسان؟!.. إن سؤالهم هذا ليس صادراً عن رغبة في معرفة حكمة لا يعرفونها، من وراء إيجاد الله الإنسان، وإنما هو صادر عن لون من الجدل في وجود الله وألوهيته، وكثير ما يأتي جدال الملحد بأسلوب من هذا القبيل... ولكن فلنعد إلى ما قلناه، من أن الحكمة الربانية التي استتبعت إيجاد الإنسان هي التي أضفت على وجوده معنى النعمة... سيقول قائل: ما هي هذه الحكمة؟.. والجواب: أن الحكمة التي استتبعت إيجاد الله الإنسان، هي اختيار الله له خليفة في الأرض، ألم يقل الله عز وجل للملائكة: )وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُفِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) ]البقرة30 [ وحذارِ أن نفهم من كلمة الخلافة هذه المعنى المتبادر الذي يفهمه الناس منها عندما يخلف بعضهم بعضاً في بعض المهام أو الوظائف المنوطة بهم، وإن كثير من الناس لا يفهمون من معنى كلمة (الخلافة) إلا هذا المعنى المتداول بين الناس، فأنكروا بسبب ذلك خلافة الإنسان عن الله في الأرض، إذ لا يصح أن يكون الإنسان خليفة عن الله -بهذا المعنى- وتأولوا الآية: ففسروا الخليفة بصفة الاستخلاف في الوجود ما بين جيل سابق من الناس، وجيل لاحق وهكذا...

غير أن هذا المعنى الثاني لا يعبّر عنه بالخليفة في اللغة، وإنما يُعبَّر عنه بالخلَف (بفتح اللام)؛ إن كان صالحاً - (وبسكون اللام) إن كان فاسداً.. قال تعالى: )فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ( ]مريم59[

- أما الخليفة فهو من يخلف غيره في مهمة أو وظيفة ينهض بها، ومن هذا القبيل قول الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( ]البقرة30 [

- وقوله تعالى: )يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ( ]ص26 [ فمن هو هذا الإنسان.. وما المهمة أو الوظيفة التي أوجد الله الإنسان ليستخلفه في النهوض بها..؟

لو نظرنا في كلام الله تعالى لوجدناه قد بدأ خطابه إلى الناس بتوجيههم إلى النظر والتأمل في أنفسهم، وبالحديث عن أصل الإنسان وحقيقته وكيفية نشأته وتكاثره... نجد ذلك واضحاً في أول الآيات القرآنية نزولاً، كما نجده في أولى صفحات القرآن كتابةً وترتيباً.. فقد كان أولى الآيات القرآنية نزولاً، تعريفاً بالإنسان وجوهره، وهي قوله تعالى: )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ( ]العلق 1-5 [حيث لم ينبِّه الإنسان إلى ربوبيّة الله ووحدانيته إلا من حيث أرشده إلى ذاته وأصل تكوينه ونشأته..

وكانت الصفحات الأولى من سورة البقرة - وهي أول القرآن ترتيباً - تعريفاً بأصناف الإنسان في هذه الحياة الدنيا، من مؤمنين وجاحدين ومنافقين، ثم تنبيهاً إلى قصة نشأته، وتكاثره، ومصيره.. ثم إنه يكرر التنبيه إلى هذه القصة، كلما دعت الحاجة؛ أي كلّما اقتضى الأمر تنبيهه إلى شيء من دلائل الكون أو وقائع الأمم، برهاناً على وجود الخالق عز وجل، وعلى وحدانيته، وعلى اليوم الآخر، وما يتعلق به من أمور وأحداث.. ولهذه البداءة التمهيدية أهمية تربوية كبرى؛ ذلك أن جميع المعارف التي يكتسبها الإنسان إنما هي فرع لمعرفة سابقة، هي معرفته لذاته. وبدون أن تتوفر هذه المعرفة الأولى لا يكمن أن يحرز الإنسان أي ميزان سليم للمعارف الفرعية الأخرى، فلولا إيمانه بالعقل ووظيفته، ما آمن بشيء من مقولاته وأحكامه، ولولا معرفته لتركيبه النفسي والجسمي، لما عرف شيئاً عن حقائق الكون التي تطوف من حوله، ولما أدرك أي علاقة مما بينه وبينها... وهكذا... فبمقدار ما تكون معرفة الإنسان لذاته دقيقة وسليمة، فإن معرفته لحقائق الكون ووظائفه تكون دقيقة وسليمة...

وبالمقابل، فإن الذي لم يتوفر بعد على معرفة دقيقة لذاته وحدود إمكاناته، لا يمكنه أن يتوفر على معرفة ألوهية الله له، ولا على عقيدة صحيحة عن قصة هذا الكون ومجراه ونهايته، ذلك لأن ثقة الباحث بنفسه وذاته تعتبر ينبوع ثقته وإيمانه بما تقدم له هذه الذات من نظريات وأحكام..

فإذا فقد الباحث هذه الثقة بنفسه وعقله، أو كانت على وجه خادع غير سليم، فقد الثقة أيضاً بكل ما قد توحي إليه به من معارف ومعلومات، أو تقبّلها مغلوطة خادعة لا تعتمد على أساس صادق وسليم...

وانظروا.. فإن ما جحد الجاحدون بالله، ولا أقاموا لأنفسهم عروش الربوبية الزائفة في الأرض، إلا لأن أعينهم ظلت تزيغ فيما حولهم، دون أن تصحو ساعة واحدة للتأمل والنظر بصدق في أنفسهم.. فمن أجل هذه الحيقيقة ومدى أهميتها، يبدأ القرآن في محاكمته العقلية للمنكرين بلفت أنظارهم إلى أنفسهم وإلى قصة وجودهم، حتى إذا استرعى أذهانهم ذلك، أخذ يحدثهم عن وجود الله ووحدانيته وعبودية الإنسان له.. كما في بعض الآيات:

قال تعالى: )فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ{5} خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ{6} يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ{7} إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ( ]الطارق5-8[

وقال تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ( ]الحج5 [ فلو تأملنا هذه الآيات وأمثالها، لوجدناها تأتي في مَعرِض التنبيه إلى حقيقة هذا الكون، وانسياقه في خضوع ونظام لتدبير إله واحد يعنو له العالم كله بالدينوية والخضوع، فهي تأتي تمهيداً بين يدي كشف هذه الحقيقة أمام العقل الإنساني...

ولوجدنا أن هذا القرآن لا يأتي بتحليل شيء من مظاهر الكون بتفصيل ودقة واهتمام، ولا يتحدث بأساليب مختلفة عن نشأته، وكيفية تطوره، كما يفعل ذلك عن حديثه بالإنسان..

- وحكمة ذلك: أن تعريف الإنسان بحقيقته وأصل نشأته هو السبيل التربوي الذي لا بديل عنه لإقناع عقله بالحقيقة التي ترتكز عليها نشأة هذا الوجود من حيث هو؛..

- فالإنسان بالقرآن هو مخلوق يحمل أخطر مميزات وصفات يحملها مخلوق على الإطلاق.. وهذه الميزات هي: جملة الصفات الإنسانية المركّبة فيه:

من العقل، وما يتفرع عنه من العلم والإدراك والقدرة على تحليل الأشياء وسبر أغوارها

والأنانية، وما يتفرع عنها من النزوع إلى الأثرة والمنافسة والتملك والقوة، وما يتفرع عنها من حب العظمة والنزوع إلى السيطرة والكبرياء.. ونظراً لما لهذه الصفات من الخطورة والأهمية، ونظراً لكونها أسلحة ذات حدَّين: إن استعمل أحدها جاء بالتنظيم العظيم للكون، والخير الوفير للإنسان..

وإن استعمل الآخر - أو استعملا معاً - جاء بالشر الوبيل والفوضى الهائلة للحياة.. نظراً لذلك أطلق القرآن على هذه الصفات اسم (الأمانة) فقال: )إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ( ]الأحزاب72 [ والذي اقتضاه حمل هذه الصفات كلها، أو حمل هذه الأمانة، أنه لم يكن يستطيع بغيرها تسخير شيء من مظاهر الكون...

وخصوصاً أن الإنسان هو ذلك المخلوق المكرّم على سائر المخلوقات الأخرى، وأنه ذلك الذي استأهل أن يكلِّف الله الملائكة بالسجود له، متمثلاً في شخصية أبيه آدم عليه السلام، وأنه الذي شرفه الله بالخلافة على هذه الأرض، عندما شاء أن يجعله - بالمهمة التي حمّلهُ إيّاها - مظهراً لعدالة الله تعالى وحكمه، وأنه الحيوان الوحيد الذي جهزه الله بالعقل والتفكير والقدرة على إدارة الأمور...

- وإذن: فالإنسان في كينونته الذاتية عبد مملوك لله عز وجل، خلقه من ضعف وينتهي إلى ضعف، ولكن نظراً للرسالة التي حمله الله إياها - يتمتع بصفات نادرة جهزه الله بها -وهي الأمانة- فاستأهل بموجبها الرفعة والتكريم، إن هو استعمل تلك الصفات على وجهها...

وأما خلافة الإنسان في الأرض: فتتلخص في تنفيذ مبادئ العدالة الإلهية، وما تقتضيه الحكمة الربانية فيما بين الناس في الأرض، وقد كان الله قادراً على أن يحقق هذه المبادئ في حياتهم، وفي علاقة ما بينهم موازين العدالة، وشرائع الحكم، وسبل الحكمة، وأن يبصِّرهم بها ويعرِّفهم على أهميتها، وأن يهبهم قدرة التصرف بالاختيار كما يشاؤون، ثم أمرهم بأن يوجهوا اختياراتهم -باسمه- إلى تنفيذ شرائعه فيما بينهم، وإلى أن يتّبعوا حكمته في تسخيره المكوّنات التي من حولهم، والتي أخضعها لسلطانهم .. فهم -إذن- إن استجابوا لهذا الذي طلبه منهم، فباسمه يتصرفون، ولأحكامه يُنفِّذون، وهم في هذا الذي يقومون به إنما يكونون مظهراً لعدالة الله وحكمته ورحمته في كل ما يقضي به، فهذا هو مضمون عقد الخلافة التي شرّف الله بها الإنسان، والتي أعلن عنها لملائكته..

وانظروا كم هو جليّ هذا العقد في هذه الآيات البيّنات من كلام الله عز وجل: )وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ{7} أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ{8} وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ( ]الرحمن7-9[ إذن فقد غدا إيجاد الله الإنسان نعمة له، وأيّ نعمة..؛ إذ الوسيلة التي لا بد منها، والتي لا بديل عنها، تأخذ حكم غايتها. ألا تروا إلى الدراهم كيف نعدُّها نعمة من أجلّ النعم، مع أن النعمة الحقيقية ما هي أداة له ووسيلة إليه من المبتغيات التي تتوقّف عليها حياة الإنسان؛ فكذلك الوجود الإنساني الذي هو وسيلة لا بد منها لشرف الاستخلاف عن الله، في إبراز عدالته وتنفيذ حكمه.

- فهذه إذن هي النعمة الأولى التي يقع تحت متنّها كل موجود من البشر..

فإن رأينا من لا يشعر بهذه النعمة ويتبرّم بوجوده، ويظل يسأل سؤال المستنكر المهتاج على القيم وموجدها: لماذا خلقه الله؟ بل لماذا خلق المكونات بما فيها الإنسان؟!.. والحوار مع هؤلاء الناس يجب أن يبدأ بغرس دلائل الإيمان بوجود الله عز وجل في عقولهم، ثم الانتقال بهم إلى النتائج المتفرغة عن هذا الإيمان.. فالإنسان هو عبد لهذا الإله الخالق..

- وأما الذي يستجيبون لنداء الفطرة فهم يقرُّون ويعرفون بأن لهم ولهذا الكون حولهم رباً عظيماً تتجه قلوبهم إليه بالتعظيم والرجاء والخشية والتوكل والاستعانة.. هذا شيء يشعرون به في أعماقهم شعوراً أصيلاً، وهذا هو الدين الذي عبّر عنه القرآن بقوله تعالى: )فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ( ]الروم30[ تلك هي هوية الإنسان بحدِّ ذاته، أياً كان دينه ومذهبه ومهما كان سلوكه واتجاهه، غنياً كان أو فقيراً، وحقيراً كان أو أميراً.. فهو مجرد سلعة ممتازة في البضاعة الكونية العائدة إلى الله عز وجل.. هوية دُفعت بها حقيقة الإنسان فلا انفكاك عنها بحال... يتقلّب في مراحل الطفولة اليافعة، فالشباب القوي الغض، فالكهولة الوسطى، فالشيخوخة المدبرة، فالموت الذي لا مفر منه - إن كتب له أجل وطال به عمر -..

ويسأل العلم عن السر، فلا يجيبه إلا قول الله عز وجل: )اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم54 [فهل يحتاج الإنسان الحر إلى أدلة تكشف هويته بعد كل هذا..

إن العاقل الحر ليخر ساجداً لعظمة البيان الإلهي الذي جمع الحقائق كلها في قوله: )لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ( ]آل عمران128[ فإذا كان سلوكه الاختياري ينبغي أن يكون انعكاساً منسجماً للواقع الاضطراري، فإن وظيفة الإنسان هي ممارسة العبودية لله تعالى بالسلوك والاختيار كما قد فطره الله عليها بالقهر والإجبار..

- وكيف يمارس العبد عبوديته لله عز وجل؟... عليه أن ينبِّه جمع مداركه إلى أنه مملوك لله عز وجل، وأنه ليس تحت يده من نعمة يتمتع بها إلا وهي وديعة من الله عز وجل عنده يتمتّع بها إلى حين ثم تُستلب منه عند أجل معلوم.. وأن يسخر جميع النعم والقدرات التي منحه الله إياها لتحقيق المبادئ والأهداف التي أمره الله بالسعي إليها من خلال اتباع شرع الله تعالى، ومنهاجه الذي رسمه على يد الأنبياء والرسل، وليعلم أنه توجه الإنسان بالحياة إلى رضا الله بأداء رسالته وتنفيذ شرعته هو الهدف الأسمى الكلي الأقدس..

أما تعامله مع مقومات العيش وأسباب الرزق والمتع التي تزخر بها المكونات فخدمٌ وحشم أقامهم الله في الطريق إلى تحقيق رسالته وتنفيذ أوامره، والنهوض بأعباء الخلافة عنه، وأن لا ينسى وهو يسير في رحلة حياته الدنيا، ويتقلّب بين خيرها وشرها أن هذه الحياة ليست إلا مرحلة، وما هي إلا جسر منصوب بين ماضٍ من العدم المطلق، وآت من الحياة الخالدة بتخليد الله تعالى وقضائه.. قال تعالى: )يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ( ]غافر39[

فإذا أيقن ذلك فليعلم أن عليه أن يُجنِّد كل عمله وطاقاته وملكاته ليعتصر من الدنيا أسباباً يحقق بها ما أمره الله تعالى أن يقيم المجتمع الإنساني على أساسه من العبادات والمبادئ والقيم التي أمرنا الله بها، والتعاليم والإرشادات الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن نشدّ صلتنا بالله عن طريق الذكر والفكر والمراقبة وتحصيل العلوم الإسلامية وغير الإسلامية، واتخاذها سلاحاً للدفاع عن الإسلام... ولكن ما ينبغي أن يُخضع هذه العلوم والحقائق لتطوير أو تناسخ أو تبديل، فمهما تقدّم العلم، وكثرت المخترعات، وطار الإنسان في جنبات الفضاء فإن محور هذه الحقائق ومناطها ثابت، ألا وهي عبودية الإنسان لله... فالإنسان عبدٌ لله عز وجل أيقن ذلك أو جحد به..، وسيد هذا العبد قد أنزل إليه بياناً أخبره أنه مقبلٌ بعد الموت على حياة أخرى، وحَذَّره من أنّ أيّ انحراف من هذا العبد اليوم عن خط الالتزام بصراط الله عز وجل، سيجر عليه إذ ذاك عقوبة لا مردّ لها.. كما أكّد له أن أي سلوك صالح يتفق مع مرضاته عز وجل، صادر بنية خالصة لبلوغ مرضاته عز وجل سينال صاحبه عليه الأجر العظيم الذي قد لا يحلم به اليوم.. قال تعالى: )أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ( ]المؤمنون 115[ الكلام وعدٌ بغيب كما تروا؛ ولكنه صادر من سيد نواميس الكون.. الله رب العالمين.. وكما يقول ابن عطاء الله السكندري أيضاً: "لا ترحل من كون إلى كون فتكون حمار الرحى يسير، والمكان الذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكوّن - )وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ( ]النجم42[ وانظر إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: )فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) فافهم قوله صلى الله عليه وسلم - وتأمل هذا الأمر إن كنت ذا فهم -.

- اللهم أيقظنا قبل فوات الأوان، وألهمنا الخروج من سجن المكوّنات إليك آمنين مطمئنين، قبل أن يخرجنا منه أذلّاء نادمين، قضاؤك المبرم في يومك الموعود، إنك الحكيم اللطيف الودود، والسميع المجيب..

والحمد لله رب العالمين.

المراجع: شرح الحكم العطائية - من روائع القرآن - منهج الحضارة الإنسانية في القرآن - الإنسان وعدالة الله في الأرض - من هو سيد القدر؟ - من أسرار المنهج الرباني- وكلها للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.

العبادة في الإسلام للقرضاوي.

تحميل