أسطورة الغرانيق
أسطورة الغرانيق
كثيرون منا قرأ أو سمع (قصة الغرانيق) التي وردت في التفاسير على أنها رواية مختلقة لكن بعض المجلات الرخيصة التي يحلو لأصحابها أن يشككوا المسلمين البسطاء أو ذوي ثقافة محدودة في حقائق لا جدال فيها ولا خلاف عليها إذ هي كالشمس في رابعة النهار كهذه القصة التي بيّنها العلماء وأوضحوا على أنها اختلاق المتلبسين ومفتريات المشركين والمنافقين.
فيعمد كاتب ما ([1]) إلى رواية مختلقة واهنة تصيدها من بين روايات عدة وردت في كتب المفسرين ثم يقدمها إلى القراء على أنها كشف جديد في عالم يتجدد من قبل الكاتب الألمعي صاحب المؤلف أو المقال, وإن من سبقه قد أعجزته علومه وأقعدته بحوثه وأسأمته فلم يعثر على ما عثر عليه هو في هذا العصر...!
ثم يقدم هذه الرواية المختلقة على أنها صحيحة لا شبهة فيها ولا ريب, كيف لا وقد جاء ذكرها في الكتب المشهورة التي اتصف أصحابها بغزارة في العلم وأمانة في النقل وصدق في البحث... ولا يزال يضفي على موضوعه ذاك من هذا الكلام المنمق والسرد الجميل حتى يقنع القارئ أو قل يوقعه في شباكه, وحينئذ لا يخطر على باله (أي القارئ) أن المفسر أو المحدث الذي استقى منه الكاتب الرواية كما هو الحال في قصة الغرانيق التي ولع بها المستشرقون وأعداء الإسلام فيتلقفه القراء إذ يستهويهم البحث ويغريهم المقال ويقبلون عليه بشغف ويقرؤونه بمزيد من الشوق, ويغدو حديث مجالسهم وسمر نواديهم ولياليهم.
والقصة وما فيها كما جاءت في كتب أهل العلم المعتمدين لدى جمهور الأمة خلفا ًعن سلف هي:
روى بعض المفسرين أنه قرأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى فلما بلغ : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى, سمع المشركون: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى.
فلقيه المشتركون والذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا..! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ذلك من الشيطان, فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }الحج52.
هذه الرواية باطلة من عدد من الوجوه – وإن تكن واردة في كتب المفسرين للأدلة والوقائع التالية :
أولاً: من الوجهة اللغوية:
إذ ليس في اللغة تمنى بمعنى قرأ, ثم إن الغرنوق والغرنيق لم يعرف في اللغة إلا اسما ً لطائر مائي أسود أو أبيض أو هو اسم للكركي, وتسمى الخصلة من الشعر المفتلة الغرنوق, كما يسمى به ضرب من الشجر, ولا شيء من هذه المعاني يلائم الإلهام أو الأصنام حتى يطلق عليه في فصيح الكلام, فلا أظنك تعتقدها إلا من مفتريات الأعاجم ومختلقات المتلبسين كما يقول محمد عبده.
ثانياً: من ناحية السند:
فلم يخرج حديثها أحد من أهل العلم الصحيح ولا رواه ثقة بسند ٍ سليم متصل كما قال القاضي عياض في الشفاء. 4 / 140.
ولا يصح لكونه لا يجوز على النبي ذلك ولا ولاية للشيطان عليه في يقظة ولا نوم, وأن من قال جرى ذلك على لسانه حين أصابته سنة من النوم مردود عليه كما سيأتي بعد قليل.
وقال القرطبي – رحمه الله – الأحاديث المروية في نزول هذه الآية ليس فيها شيء يصح. 12/81, وقال الشيخ منصور الماتريدي في كتابه ( قصص الأنبياء ) إن قوله: تلك الغرانيق العلى من جملة إيحاء الشيطان إلى أوليائه من الزنادقة حتى يلقوها بين الضعفاء وأرقاء الدين ليرتابوا في صحة الدين, وحضرة ُ الرسالة بريئة من هذه الرواية. روح المعاني : 17/ 177.
وقال الرازي ما خلاصته: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم تكلم في أن رواة هذه القصة مطعونون.
وقال البخاري في صحيحه: إنه عليه الصلاة والسلام قرأ سورة ( والنجم ) وسجد معه المسلمون والمشركون والإنس والجن, وليس فيه حديث الغرانيق.
وقال قسطلاني في شرحه للبخاري: وقد طعن في هذه القصة غير واحد من الأئمة. قال ابن أسحق وقد سئل عنها: هي من وضع الزنادقة, وكفى في إنكار حديث يقول فيه ابن أسحق إنه من وضع الزنادقة مع حال ابن أسحق المعروفة لدى المحدثين, ولأنه يرد في كلام العرب وصف كان جاريا ً على ألسنتهم إلا ما جاء في معجم ياقوت الحموي غير مسند ولا معروف الطريق الصحيح.
ثالثا ً: من جهة المتن أيضا ً فاسدة.
لأنها وردت بألفاظ مختلفة, فقد جاءت ( إنهن لفي الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ). وتلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن ترتضى ومثلهن لا ينسى ).
وهذه الروايات المختلفة تدل على أنها مختلقة من قبل المشركين, كما كثر الاختلاف في المواضع التي قرئت فيها, فقائل يقول: إنه عليه الصلاة والسلام قالها في الصلاة, وآخر يقول إنه قالها في نادي قومه حين نزلت السورة, وثالث يقول: قالها وقد أخذته سنة من النوم, ورابع يقول, إن الشيطان قالها على لسانه, إلى غير ذلك من اختلاف الرواة.
وعزيت حكاية الغرانيق إلى ثلاثة أشخاص غير موثوقين ومن غير سند, وجميعهم لم يعاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهم :
عبد الله بن حنطب: وهو شخص غير معروف, ولم يكن من الصحابة ولم يسمع من رسول الله.
محمد بن كعب القرظي: من أبناء بني قريظة في المدينة, وقد اطلق الرسول سراح والده أيام الرسالة النبوية, وأنجب ابنه محمد بن كعب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ومع ذلك نسبوا الرواية إليه...!
عبد الله بن عباس – رضي الله عنه – وهو وإن كان عاصر الرسول لكنه كان صغيرا ًدون سن البلوغ إذ ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات, وتأخر إسلام أبيه ( العباس ) حتى فتح مكة, والآيات من سورة (النجم) مكية.
رابعاً: وهي مردودة من جهة المعنى أيضا ً:
لأنها تدل على أن للشيطان تسلطا ً على النبي صلى الله عليه وسلم, وهو بالإجماع معصوم من الشيطان, فلا سلطان للشيطان على المخلصين من المؤمنين من أمته بصريح القرآن قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}الإسراء65, فكيف يكون له سلطان على الرسول المعصوم بعصمة الله تعالى ؟ والمحفوظ برعايته ؟
قال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ}الطور48.
وقال تعالى : {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً }الجن27.
ومعنى الآية : إن الله تعالى يسلك من بين يدي المرتضى ومن خلفه حراسا ًمن الملائكة يحرسونه من اختطاف الشياطين وتخاليطهم كما قال البيضاوي.
ولو جوزنا ولاية الشيطان عليه لارتفع الأمان عن شرعه, ولجاز في كل حكم أن يكون فيه زيادة أو نقص. وهذا مستحيل.
وكيف يصح وقد قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ{44}لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ{45}ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ{46}فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ{47}
الحاقة(44-47).
وقال جل شأنه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}يونس15
ولو صحت الرواية لكان المعنى أن جميع الأنبياء والمرسلين قد سلط عليهم الشيطان فخلط في الوحي المنزل عليهم, ولكنه بعد الخلط ينسخ الله – أي يزيل – ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته. وهذا من أقبح ما يتصور متصور في حق الله عز وجل واختياره لأنبيائه من خيرة خلقه وصفوة خلصائه.
خامساً: استحالة هذه القصة نظرا ً وعرفا ً.
وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الالتئام متناقض الأقسام ممتزج المدح بالذم ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ومن بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفي عليهم ذلك.
سادساً: إنه علم من عادة المنافقين ومعاندة المشركين وضعفة الإيمان والجهلة نفورهم لأول وهلة, وتخليط الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة وارتداد من في قلبه مرض لأدنى شبهة, ولم يحك أحد في هذه القصة شيئا ً سوى الرواية الواهية في الأصل.
سابعاً: وهي مردودة من الناحية التاريخية أيضا ً.
فقد كتب العالم الهندي ( محمد علي ) أن هذه الرواية وردت عند الواقدي وعند الطبري ومع ذلك فأنها لا ظل لها من الحقيقة وأن كل عمل من أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم مناقض لمثل هذا الاتجاه, أضف إلى ذلك أن الواقدي معروف بسرد الإسرائيليات والخرافات, وكذلك الطبري معروف بجمع الكثير واستقصاء الروايات مهما كان حظها من الصحة.
على إننا لو رجعنا إلى رواية محمد بن اسحق أو إلى صحيح البخاري وهو الذي لم يغادر من حياة الرسول شيئا ً إلا ذكره لم نر لقصة الغرانيق أثرا ً, وابن أسحق جاء قبل الواقدي بأربعين سنة وقبل الطبري بنحو مائة وخمسين سنة أو تزيد.
ثم أن الواقدي معروف لدى المحدثين بأنه يضع الأحاديث وأنه غير ثقة فيما يروي, كذلك لم يروها أحد من رواة الحديث.
وبعد هذا الاستعراض لقصة الغرانيق وأدلة زيفها وبطلانها تعال أخي القارئ إلى تفسير الآية الكريمة: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }الحج52.
وتفسيرها من وجهين :
الأول: ما أرسل الله رسولا ً ولا نبيا ً ليدعو قومه إلى هدىً جديد أو شرع سابق شرعه لهم ويحملهم على الصدق بكتاب الله إلا له أمنية في قومه وهي أن يتبعوه ويخالفوا أهواءهم ويستجيبوا لندائه, وما من رسول إلا كان أحرص على إيمان أمته وتصديقهم برسالته منه على طعامه الذي يطعم وشرابه الذي يشرب ومسكنه الذي يأوي إليه ويغدو ويروح عليهم.
وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك في المقام الأعلى والمكان الأسمى حتى قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً }الكهف6.
والوجه الثاني: ما أرسل الله قبلك رسولا ً ولا نبيا ً إلا حدث قومه عن ربه أو تلا وحيا ً أنزل فيه هدى لهم قام في وجهه مشاغبون يحولون ما يتلوه عليهم عن المراد منه ويلغطون أثناء تلاوته ليصرفوهم عن الاستماع إليه, قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }فصلت26.
ويتقولون عليه ما لم يقله وينشرون ذلك بين الناس ليبعدوهم عنه ثم يحق الله الحق ويبطل الباطل, وربما كان هذا الوجه أكثر قبولا ً من الوجه الأول.
وإذا عدنا إلى قراءة الآيات الكريمة نفسها بالترتيب القرآني وجدناها: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى{19} وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى{20} أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى{21} تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى{22} إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى{23} (النجم 19-23).
فكيف تقحم بين هذه الآيات المتتالية المنسجمة آية متناقضة لها في أصل العقيدة الإسلامية وصلب دعوة محمد صلى الله عليه وسلم؟ إن كل متذوق للغة العربية وعذوبتها ينكر ذلك ويمجه...!
ثامناً: ذكر الرواة لهذه القصة أن فيها نزلت: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً{73} وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً{74} إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً{75} (الإسراء73-75).
ومعنى الآية السابقة: وإن هموا وقاربوا أن يفتنوك عن الذي أوحينا إليك ويستنزلوك عن طريق الحق الذي ارتضاه ربط لتفتري عليه غيره وتبدل فيه, إنك لو فعلت ذلك بأي صورة لاتخذوك خليلا ً, ولكنك تخرج من ولاية الله حينئذ وتطرد من رحمته, ولولا أن ثبتناك وعصمناك لقد كدت تركن إليهم شيئا ً قليلا ً, إنك لو فعلت ذلك لأذقناك ضعف الحياة أي عذابه وضعف الممات عذاب الممات, إذ روي أن قبيلة ثقيف قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا ً نفتخر بها على العرب, فلا يكون علينا زكاة ولا جهاد ولا صلاة, وإن كل ربا علينا موضوع وكل ربا لنا فهو لنا, فإن قالت العرب لم فعلت ذلك؟ فقل إن الله أمرني, وطمع القوم أن يعطيهم النبي ما طلبوا فأنزل الله: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ...}(الإسراء73-75).
ولولا ثبته الله لكاد يركن إليهم قليلاً, لأنه بشر ولكن الله عز وجل عصمه لأنه نبي, فمضمون هذا أو مفهومه أن الله عصم نبيه من أن يفتري, وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا ً فكيف كثيرا ً؟ وهذا مثل قوله تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ}النساء113.
قال القشيري: ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مر َّعلى آلهتهم أن يقبل بوجهه إليها ووعدوه بالإيمان إن فعل, فما فعل ولا كان ليفعل.
وقال الأنباري : ما قارب الرسول ولا ركن.
وإذا عدنا إلى رواية البخاري في صحيحه وهي أنه عليه الصلاة والسلام قرأ والنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيها حديث الغرانيق, لرأيناها هي المنسجمة والمتلائمة مع النسق القرآني وأقوال المفسرين, وسبب سجود المشركين تأثرهم لسلطان آيات القرآن الكريم وبلاغتها وما اعتراضهم من خوف عند سماع ما فيها من تهديد شديد ووعيد أكيد, كقوله تعالى :{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى{50} وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى{51} وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى{52} وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى{53} فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى{54} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى{55}(النجم:50-55).
ثم ليس غريبا ً عليهم تأثرهم بالقرآن الكريم وآياته عند سماع ما فيه من الوعيد والتهديد فقد روي أن عتبة بن ربيعة لما سمع النبي يقرأ ( فصلت ) وفيها قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ }فصلت13, أمسك على فم الرسول وناشده الرحم, ورجع إلى المشركين من قريش وهو يقول: أمسكت على فيه وناشدته الرحم أن يسكت وقد علمتم أن محمدا ً إذا قال شيئا ًلم يكذب فخشيت أن ينزل بكم العذاب.
وليس عتبة الوحيد الذي تأثر ببلاغة القرآن بل أن زعماء المشركين من قريش كانوا يستخفون من أتباعهم ويتسللون ليلا ًويسترقون السمع إليه خاشعين لما أحسوا بروعة القرآن وهزتهم معانيه ورأوا آثاره على أتباعهم ومواليهم.
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي ذهب متوشحا ً سيفه يريد قتل محمد ووأد دعوته فما كاد يقرأ الصحيفة التي خطفها من يد أخته حتى قال: ما أجمل هذا الكلام...! وأعلن إسلامه, إلى غير ذلك من الوقائع والحوادث التي تبين مدى تأثير القرآن وفاعليته في الأفئدة فلا عزو أن يسمعه المشركون ثم يقعوا ساجدين لبلاغته وروعته وهم أهل الفصاحة واللسان.
[1] كما فعل الأفاك ( سلمان رشدي ) في كتابه (آيات شيطانية).