العوائق والعلائق
العَوَائق والعَلائق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً..
اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
وبعد: إن الوصول إلى الله سبحانه وتعالى موقوف على هجر العوائد وقطع العوائق؛
فالعوائد: السكون إلى الدعة والراحة، وما ألفه الناس وما اعتادوه من الرسوم والأوضاع التي جعلوها بمنزلة الشرع المتَّبع؛ بل هي عندهم أعظم من الشرع، فإنهم ينكرون على من خرج عنها وخالفها ما لا ينكرون على من خالف صريح الشرع، بل نصبوها أنداداً للرسول صلى الله عليه وسلم يوالون عليها ويعادون، فالمعروف عندهم ما وافقها، والمنكر ما خالفها، وهذا ما استولى على طوائف من بني آدم فعمّ بها المصاب، وهجر لأجلها السنّة والكتاب؛ ممن استنصر بها فهو عند الله مخذول، ومن اقتدى بها دون كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو عند الله غير مقبول، وهذا أعظم الحجب والموانع بين العبد وبين النفوذ إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم...
فالعوائق: هي أنواع المخالفات ظاهرها وباطنها، وإنها تعوق القلب عن سيره إلى الله وتقطع عليه طريقه، وهي ثلاثة أمور: شرك، بدعة، معصية.. فيزول عائق الشرك بتجريد التوحيد، وعائق البدعة بتحقيق السُنَّة، وعائق المعصية بتصحيح التوبة...
وهذه العوائق لا تتبين للعبد حتى يأخذ في أهبة السفر، ويتحقق بالسير إلى الله والدار الآخرة؛ فحينئذ تظهر له هذه العوائق ويُحَسَّس بتعويقها له بحسب قوة سيره وتجرده للسفر، وإلا فما دام قاعداً لا تظهر له كوامنها وقواطعها...
- وإن من العوائق التي تحول بين العبد وربه فتعيق وصوله إلى الله تعالى:
ما قاله أحدهم:
إني ابتليت بأربع ما سلِّطوا
إلا لأجل شقاوتي وعنائي
إبليس والدنيا ونفسي والهوى
كيف الخلاص وكلهم أعدائي
وأرى الهوى تدعو إليه خواطري
في ظلمة الشهوات والآراء
***
1ً- الشيطان:
- قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( [سورة النور21].
- وقال تعالى: )إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( [سورة فاطر6].
- وقال تعالى: )وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً ( [سورة النساء119].
- قال يحيى بن معاذ: (ابن آدم! احذر الشيطان فإنه عتيق وأنت جديد، وهو فارغ وأنت مشغول، وهمته واحدة وهي هلاكك وأنت مع همم كثيرة، والشيطان يراك وأنت لا تراه، وأنت تنساه وهو لا ينساك، ومن نفسك له عون، وليس من نفسه عون).
- وقال مجاهد: (من ذرية ابليس: لا قنيس وولهان: وهما صاحبا الطهارة والصلاة...
والهفاف ومُرَّة: وبه يكنَّى.. وزلنبور: وهو صاحب الأسواق، يزين اللغو والحلف الكاذب ومدح السلع..
وتبر: وهو صاحب المصائب، يزين خمش الوجوه ولطم الخدود وشق الجيوب...
والأعور: وهو صاحب الزنا، ينضح في إحليل الرجل وعجز المرأة..
ومطوس: وهو صاحب الأخبار الكاذبة يلقيها في أفواه الناس لا يجدون لها أصلاً..
وداسم: وهو الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يُسلِّم ولم يذكر الله، بصَّره في المتاع ما لم يُرفع أو يحس موضعه، وإذا أكل ولم يسمِّ أكل معه.
- وروى أبي كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء) /أخرجه الترمذي/.
- وأخرج مسلم عن عثمان بن أبي العاص قال: قلت يا رسول الله؛ إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قرائن يُلبِّسها عليّ!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذلك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسست فتعوّذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثاً).
قال: فقلت في ذلك فأذهبه الله عني..
- وروى مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن عرش إبليس على البحر فيبعث سراياه، فأدناهم منه منزلةً أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا!! فيقول: ما صنعت شيئاً، قال ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته!! قال: فيدنيه ويقول: "نعم أنت" قال الأعمش أراه قال: فيلتزمه..).
* هذا هو الشيطان عدو الإنسان الأول يحوم حول قلوب بني آدم يغريهم بشتى أبواب الفسق وأنواع المعاصي، فكلما كان الإنسان متبعاً لهواه منكباً على الشهوات كلما استطاع الشيطان أن يدخل قلبه ويستولي عليه، وكلما كان مُعْرِضاً عن شهواته متمسكاً بشرع ربه وأوامره أصبح قلبه محلاً لخواطر الرحمن بعيداً عن وساوس الشيطان...
- وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم) /أخرجه الترمذي/.
- قال الحسن: إنما هما همّان يجولان في القلب، همٌّ من الله تعالى، وهمٌّ من العدو، فرحم الله عبداً وقف عند همِّه، فما كان من الله تعالى أمضاه، وما كان من عدوه جاهده..
- وروي أن إبليس سأل الشافعي رضي الله عنه: ما قولك فيمن خلقني كما اختار، واستعملني فيما اختار، وبعد ذلك إن شاء أدخلني الجنّة وإن شاء أدخلني النار، أعدَلَ في ذلك أم جار؟ فنظر في كلامه ثم قال: يا هذا إن كان خلقك لما تريد أنت فقد ظلمك، وإن كان خلقك لما يريد هو، فلا يُسأل عما يفعل.. فاضمحلّ إلى أن صار لا شيء، ثم قال: والله يا شافعي لقد أخرجت بمسألتي هذه سبعين ألفَ عابد من ديوان العبودية إلى ديوان الزندقة..
- وهكذا فإن مثال القلب مثال حصن، والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن فيملكه ويستولي عليه، ولا يُقدَر على حفظ الحصن من العدو إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله ومواضع ثلمه، ولا يَقدِر على حراسة أبوابه من لا يدريها...
فحماية القلب عن وسواس الشيطان واجب، وهو فرض عين على كل مُكلَّف، وما لا يُتَوصَّل إلى الواجب إلا به فهو أيضاً واجب، ولا يتوصل إلى دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله، فصارت معرفة مداخله واجبة..
* ومداخله وأبوابه صفات العبد وهي كثيرة وفيها:
1- الغضب والشهوة:
فإن الغضب غَول العقل، وإذا ضعف العقل هجم جند الشيطان، ومتى غضب الإنسان لعب الشيطان به كما يلعب الصبي بالكرة، وقد ذُكر (أن بعض الأولياء قال لإبليس: أرني كيف تغلب ابن آدم فقال: آخذه عند الغضب وعند الهوى)
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أوصني، قال: (لا تغضب) فردد مراراً، قال: (لا تغضب) /رواه البخاري/
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم محذراً ابن آدم من شهوته: (ما تركت فتنة أضر على الرجال من النساء) /رواه البخاري/.
2- الحسد والحرص:
فمتى كان العبد حريصاً على كل شيء أعماه حرصه وأصحَّه، فحينئذ يجد الشيطان فرصةً فيحسِّن عند الحريص كل ما يوصله إلى شهوته، وإن كان منكراً فاحشاً...
- فقد روي أن نوحاً عليه السلام لما ركب السفينة حمل فيها من كل زوجين اثنين كما أمره الله تعالى، فرأى في السفينة شيخاً لم يعرفه، فقال له نوح: ما أدخلك؟ فقال: دخلت لأصيب قلوب أصحابك فتكون قلوبهم معي وأبدانهم معك.. فقال نوح: اخرج منها يا عدو الله فإنك لعين..، فقال له ابليس، خمسٌ أُهلك بهن الناس، وسأحدثك منهنَّ بثلاث، ولا أحدثك باثنتين، فأوحى الله إلى نوح أنه لا حاجة لك بالثلاث، فليحدثك بالاثنين. فقال له نوح: ما الاثنتان؟ فقال: هما اللتان لا تكذباني، هما اللتان لا تخلفاني، بهما أهلك الناس: الحرص والحسد؛ فبالحسد لُعِنْتُ وجعلت رجمياً، وأما الحرص فإنه أبيح لآدم الجنة كلها إلا الشجرة، فأصبت حاجتي منه بالحرص..
3- الشبع من الطعام:
وإن كان حلالاً صافياً؛ فإن الشبع يقوي الشهوات وهي أسلحة الشيطان، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا عليه مجاربه بالجوع)
4- حب التزين من الأثاث والثياب والدار:
فإن الشيطان إذا رأى ذلك غالباً على قلب الإنسان باض فيه وفَرَّخ، فلا يزال يدعوه إلى عمارة الدار وتزيين سقوفها وحيطانها وتوسيع أبنيتها، ويدعوه إلى التزين بالثياب، ويستسخره فيه طول عمره، فإذا أوقعه في ذلك فقد استغنى أن يعود إليه ثانيةً، فإن بعض ذلك يجره إلى البعض إلى أن يساق إليه أجله فيموت وهو في سبيل الشيطان واتباع الهوى، ويُخشى من ذلك سوء العاقبة والعياذ بالله..
5- حب المال بسائر أصنافه:
فإن كل ما يزيد على قدر القوت والحاجة فهو مستقر الشيطان..
قال صلى الله عليه وسلم: (إن لكل أمة فتنة، وإن فتنة أمتي المال).
6- البخل وخوف الفقر:
فإن ذلك هو الذي يمنع من الإنفاق والتصدق ويدعو إلى الادخار والكنز والعذاب الأليم..؛ ومن آفات البخل: الحرص على ملازمة الأسواق لجمع المال وهي معشش الشياطين..
قال تعالى: )الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ]البقرة268[.
7- التعصب للمذاهب:
والأهواء والحقد على الخصوم والنظر لهم بعين الاحتقار وذلك مما يهلك العبّاد والفساق جميعاً..
قال الحسن رضي الله عنهم: بلغنا أن إبليس قال: سوّلت لأمة محمد المعاصي فقصموا ظهري بالاستغفار، فسوَّلت لهم ذنوباً لا يستغفرون الله منها وهي الأهواء، فإنهم لا يعلمون أن ذلك من الأسباب التي تجر إلى المعاصي فكيف يستغفرون منها..
8- العجلة وترك التثبت في الأمور:
قال صلى الله عليه وسلم: (العجلة من الشيطان والتأني من الله تعالى)؛ فعند الاستعجال يروِّج الشيطان شرُّه على الإنسان من حيث لا يدري..
- هذه هي مداخل الشيطان على بني آدم؛ فيجب على الإنسان قطع هذه الأبواب من القلب، فإن الله تعالى كما جعل لإبليس فرصة الإغواء فقد جعل لآدم وذريته فرصة الاختيار؛ فإن صبر واستقام والتجأ إلى المولى سبحانه وتعالى في كل آن لم يكن عليه للشيطان سبيلاً..
- قال تعالى: )إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ( ]النساء76[
- قال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه: (ما خلق الله تعالى خلقاً أهون عليَّ من إبليس، لولا أن الله أمرني أن أتعوذ منه ما تعوذت منه أبداً)..
- وقيل لآخر: كيف مجاهدتك للشيطان؟ قال: (وما الشيطان؟ نحن قوم صرفنا همّنا إلى الله فكفانا مَن دُونَهُ)..
إذ لا يتمكَّن الشيطان من النفس إلا بسبب إعراض الإنسان عن هدي ربه وتعلقه بحب الدنيا وشهواتها.
قال تعالى: )إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ( [سورة الحجر42]، ولا سبيل على دفع كيد الشيطان إلا بطاعة الله ومجاهدة النفس عن تلك المداخل التي ذكرناها...؛
ويعينه على ذلك: ذكر الله تعالى، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان واضع خرطومه على قلب ابن آدم فإن هو ذكر الله تعالى خنس، وإن نسي الله التقم قلبه)..
- قال تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ( [سورة الأعراف201].
- قال أبو هريرة رضي الله عنه: (التقى شيطان المؤمن وشيطان الكافر، فإذا شيطان الكافر دهين سمين كاسٍ، وشيطان المؤمن مهزول أشعث عارٍ، فقال شيطان الكافر لشيطان المؤمن: مالَكَ مهزول؟ قال: أنا مع رجل إذا أكل سمى الله فأظل جائعاً، وإذا شرب سمى الله فأظل عطشاناً، وإذا لبس سمى الله فأظل عرياناً، فقال: لكني مع رجل لا يفعل شيئاً من ذلك، فأنا أشاركه في طعامه وشرابه ولباسه)..
- وقال قيس بن الحجاج: قال لي شيطاني: دخلت فيك وأنا مثل الجزور، وأنا الآن مثل العصفور، قلت: ولِمَ ذلك؟ قال: تذيبني بذكر الله تعالى.
- فأهل التقوى لا يتعذّر عليهم سد أبواب الشيطان، وحفظها بالحراسة، بل بالتقوى والمحاسبة قد يصلون إلى مرتبة يخاف فيها الشيطان من لقياهم كما كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شهد له بذلك سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فقال له: (إيهاً يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً قط إلا سلك فجاً غير فجك..).
- نسأل الله عز وجل أن يحفظنا من مكايد شياطين الإنس والجن ومكرهم، ويرد كيدهم في نحورهم، إنه أكرم المسؤولين...
***
2 ً- الدنيا:
- كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز: (أما بعد، فإن الدنيا ظعن ليست بدار إقامة، وإنما أنزل آدم عليه السلام من الجنة إليها عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغنى منها فقرها، لها في كل حين قتيل، تُذِلَّ من أعزها، وتفقر من جمعها، هي كالسمّ يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه، فكن فيها كالمداوي جراحه، يحتمى قليلاً مخافة ما يكره طويلاً، ويصبر على شدة الدواء، مخافة طول الداء، فاحذر هذه الدار الغدّارة الختالة الخدّاعة التي قد تزينت بخدعها، وفتنت بغرورها، وحَلَّت بآمالها، وسوّفت بخُطّابها، فأصبحت كالعروس المجليّة، العيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قالية، فلا الباقي بالماضي معتَبِر، ولا الآخر بالأول مزدجر، ولا بالعارف بالله عز وجل حين أخبره عنها مدّكر، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجتِهِ، فاغترّ وطغى ونسي المعاد، فَشُغِل فيها لُبَّه، حتى زَكّت به قدمه، فَعَظُمت ندامته، وكثُرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وتألُّماً وحسرات الموت بغصَّته، وراغبٌ فيها لم يدرك منها ما طلب، ولم يروِّح نفسه من التعب، فخرج بغير زاد، وقد على غير مهاد، فاحذرها يا أمير المؤمنين، وكن أسّر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأنّ فيها إلى سرور، أشخصته إلى مكروه، الضارُّ في أهلها غار، والنافع فيها غدّار ضار، وقد وُصل الرخاء منها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء، فسرورها مشوبٌ بالأحزان، ولا يرجع منها ما ولّى وأدبر، ولا يُدرى ما هو آتٍ فيُنتَظَر، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، وابن آدم فيها على خطر؛.. إن عَقِلَ ونظر فهو من النعماء على خطر، ومن البلاء على حذر، فلو كان الخالق لم يُخبر عنها خبراً، ولم يضرب لها مثلاً كانت الدنيا قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله عز وجل منها زاجر، وفيها واعظ؟ فما لها عند الله عز وجل قدر، ولا نظر إليها منذ خلقها، ولقد عُرضت على نبيك صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها، لا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها، إذ كَرِه أن يخالف على الله أمره أو