مميز
EN عربي
الكاتب: أسماء رمضان
التاريخ: 03/12/2010

دعوة إلى التوبة

مقالات
دعوة إلى التوبة
ألا إن الإنسان عبدٌ مملوك لله عز وجل، أبدعه كما شاء، ورقّاه في درجات العلم والدراية والقوة، وسخّر له مظاهر الكون، وزوّده بالعقل، ثم ترك له حرية الاختيار لأحد النجدين. فعلى هذا الإنسان أن لا ينسى وهو في رحلة حياته الدنيا، ويتقلّب بين خيرها وشرها أنّ هذه الحياة الدنيا ليست إلا مرحلة وسوق تنقضي وأن يحسن اختيار الطريق فيسير نحو طاعة الله ومرضاته.. ولكن.. قد تضعف نفس الإنسان فلا يسلك طريق الخير.. أو أنه قد تزل قدمه نحو معصية أو ذنب (وقد يكون الذنب كبيراً)..؛ فعليه حينئذ أن يعلم أنَّ باب التوبة مفتوح أما كل عائد إلى ربه سبحانه وتعالى.. قال تعالى: )قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( ]الزمر53[. هذا نداء كريم من الرب البر الرحيم إلى عباده الذين أسرفوا على أنفسهم وفرّطوا، أن ينيبوا إليه، وأن يتراموا بالتوبة بين يديه، وأن لا يقنطوا من رحمة الله، ولا ييأسوا من عفوه، فهو يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي، ويتجاوز عن السيئات، ويقبل التوبة وهو الغفور الرحيم.. قال تعالى: )وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً( ]النساء110[ أيُّ كريم.. وأيُّ جواد يخبرنا عن كرمه وجوده، أن كل من تاب إليه عليه من أيِّ ذنب؛ فهو يغفر الذنوب جميعاً..
فجدير بالعباد الذين أسرفوا على أنفسهم أن يعودوا إلى حظيرته القدسية فيسألونه بدموع الندم والخطايا والآثام.. وجدير بالعبد المسلم السعي والمبادرة إلى التوبة، والإسراع بالفرار إليه والبعد عن المعاصي، التي هي شؤم للإنسان في الحياة الدنيا، وهلاك وخسران له في الدنيا والآخرة.. قال تعالى: )وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون) ]النور31[
* فالتوبة كرم إلهي، ونعمة منحها الله لعباده عرّفهم بها كيفية الرجوع إليه إن بعدوا عنه، كي يفروا إليه تائبين منيبين متطهرين.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)..
- وفي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تبارك وتعالى: "يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة..").
* فوجوب التوبة إذن: ظاهر بالآيات والأحاديث، وهو واضح بنور البصيرة عند من شرح الله بنور الإيمان صدره؛ فإن من عرف أن لا سعادة في دار البقاء إلا في لقاء الله تعالى، وأنَّ كل محجوب عنه شقي لا محالة، محولٌ بينه وبين ما يشتهي، محترق بنار الفراق ونار الجحيم، وعلم أن لا مبعد عن لقاء الله إلا اتباع الشهوات، ولا مقرب من لقائه إلا الإقبال على الله بدوام ذكره، وعلى أن الذنوب سبب كونه محجوباً مبعداً عن الله تعالى، فلا يشك في أن الانصراف عن طريق البعد واجبٌ للوصول إلى القرب.. قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير( ]التحريم 8 [ ومعنى النصوح: الخالص لله تعالى، خالياً من الشوائب.
وللتوبة معنى ينتظم من ثلاثة أمور: علم وحال وفعل..
* أما العلم: فهو معرفة عظم ضرر الذنوب، وكونها سموماً مهلكة، وحجاباً بين العبد وبين كل محبوب؛ فكيف يتوب المرء من ذنب (أيّاً كان نوعه) إذا كان جاهلاً بالذنب وأضراره.. بل كيف يتوب المرء من ذنب اقترفه وهو بعيد جاهل بأسباب البعد عن الله..؛ فإذا عرف أسباب البعد عن الله، وتعلم أحكام المعاملة مع الرب ومع العباد، لم يتوانى حينئذ عن التوبة عن أيِّ ذنب يبعده عن الله مهما كان حجمه.. فإنه جاء في الخبر: "واعظ الله في قلب كل امرئ مسلم".
* وأما الحال: وهو الندم على ما عمل من المخالفات، فمن المحال أن يأتي مؤمن معصية توعد الله عليها بالعقوبة فيفرغ منها إلا ويجد في نفسه الندم على وقوعها منه.. والندم هو العزم على ألّا يعود.. وعلى العاقل أن يندم على المعاصي الواقعة منه، وإن كان الله واسع المغفرة، فإنه تعالى شديد البطش والأخذ.. قال تعالى:) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ( ]الحجر:49-50[. وروي أن الملائكة تعرج إلى السماء بسيئات العبد، فإذا عرضوها على اللوح المحفوظ يجدون مكانها حسنات، فيخرون على وجوههم، ويقولون: ربنا! إنك تعلم أننا ما كتبنا عليه إلا ما عمل، فيقول الله تعالى: "صدقتم، ولكن عبدي ندم على خطيئته، واستشفع إليّ بدمعته، فغفرت ذنبه، وجدت عليه بالكرم، وأنا أكرم الأكرمين".
* وأما الفعل: وهو ترك الزلة في الحال، والتصميم على أن لا يعود إلى مثل ما عمل من المعاصي، والسعي في أداء المظالم، ودوام الانكسار وملازمة الاستغفار، واستدراك ما فات.. وقد قال سهل بن عبد الله: "التوبة ترك التسويف - وأن لا تنسى ذنبك".
- وقال ذا النون المصري: "الاستغفار من غير إقلاع هو توبة الكاذبين"؛ إذ ليس المستغفر من استغفر باللسان وأقام على الهوان، إنما المستغفر من ترك العصيان..
- وقد كانت السيدة رابعة العدوية تقول: "أستغفر الله العظيم من قلة صدقي في قوله: أستغفر الله".
- وفي روح البيان (في تفسير سورة ص): في خاصيّة اسم الله تعالى (الغفار): أنّ من ذكره إثر صلاة الجمعة مائة مرة ظهرت له آثار المغفرة - وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من لزم الاستغفار، جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيف مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب..).
- وأفضل الاستغفار: ما كان في الأسحار - قال تعالى: ؛ فينبغي أن يكثر العبد من الاستغفار (الصادق) حتى يفوز برضا الله ومغفرته ورحمته وسعة رزقه والهناء في الدنيا والآخرة...، وأن لا يكون كما قال بعضهم: توبة الكاذبين على أطراف ألسنتهم - يعني: أنهم يقتصرون على قولهم: أستغفر الله..
- وقال ابن عطاء: "التوبة توبتان: (توبة الإنابة، وتوبة الاستجابة).. فتوبة الإنابة: أن يتوب العبد خوفاً من عقوبته، وتوبة الاستجابة: أن يتوب حياءً من كرمه".
- وقال رجل لرابعة العدوية: إني قد أكثرت من الذنوب والمعاصي، فلو تبت هل يتوب الله عليَّ؟ فقالت: "لا، بل لو تاب عليك لتبت".
- وقيل لأبي حفص: لماذا يكره التائب الدنيا؟ فقال: لأنها دار باشر فيها الذنوب – وقيل له أيضاً: هي دار أكرمه الله فيها بالتوبة، فقال: إنه من الذنب على يقين، ومن قبول توبته على خطر.
- ويقول الأستاذ أبي علي الدقّاق رحمه الله: التوبة على ثلاثة أقسام: أولها: التوبة. وأوسطها: الإنابة. وآخرها: الأوبة. – فجعل التوبة بداية، والأوبة نهاية، والإنابة أوسطها..
فكل من تاب لخوف العقوبة فهو صاحب توبة، ومن تاب طمعاً في الثواب فهو صاحب توبة، ومن تاب مراعاة للأمر، لا لرغبة في الثواب، وخوفاً من العقاب فهو صاحب أوبة..
ويقال أيضاً: التوبة صفة المؤمنين، قال تعالى: )وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( ]النور31[. والإنابة صفة الأولياء والمقربين، قال تعالى: )مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ( ]ق33 [. والأوبة صفة الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: )وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ( ]ص30[.
* وإن من أول تأهب العبد لأسباب التوبة: هجر إخوان السوء، فإنهم هم الذين يحملون على ردّ هذا القصد وتشويشه ؛ ولا يتم ذلك إلا بالمواظبة على مخالطة العلماء والصالحين، وسماع أقوالهم، وملاحظة أفعالهم، مما يزيد في رغبته في التوبة، ويقوي رجاءه وخوفه، فعند ذلك تنحل من قلبه عقدة الإصرار على قبيح الأفعال..
* وأما وجوب التوبة على الدوام، وفي حال فهو أن كل بشر لا يخلو عن معصية بجوارحه، فإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح، فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب، فإن خلا في بعض الأحوال عن الهم فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المذهلة ذكر الله، فإن خلا عنه فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله.. كل ذلك نقص، ولا يتصوّر الخلو من إحداهما في الآدميّ، وإنما يتفاوتون بالمقادير، فأما الأصل فلا بدّ منه، ولذلك قال عليه السلام: (إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة) ولذلك أكرمه الله تعالى بأن قال: وإذا كان هذا حاله فكيف حال غيره..
- كيف يكون حال الإنسان وهو لا يخلو في مبدأ خلقته من اتباع الشهوات أصلاً، وليس معنى التوبة تركها فقط؛ بل تمام النوبة بتدارك ما مضى، وكل شهوة اتبعها الإنسان ارتفع منها ظلمة إلى قلبه كما يرتفع عن نَفَس الإنسان ظلمة إلى وجه المرآة، فإن تراكمت ظلمة الشهوات صارت ريناً كما يصير بخار النَّفَس في وجه المرآة عند تراكمه خبثاً؛ كما قال تعالى: )كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ( ]المطففين14 [، فإذا تراكم الرين صار طبعاًَ فيطبع على قلبه كالخبث على وجه المرآة إذا تراكم وطال غاص في جرم الحديد وأفسده وصار لا يقبل الصقل بعده.
- ولا يكفي في تدارك الشهوات تركها في المستقبل، بل لا بد من محو تلك الأديان التي انطبعت في القلب؛ إذ كما يرتفع القلب ظلمة من المعاصي والشهوات، يرتفع إليه نور من الطاعات وترك الشهوات؛ فتنمحي ظلمة المعصية بنور الطاعة، قال صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) - وقال تعالى: ) إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ( ]هود114[ فالواجب على العبد محو آثار السيئات عن قلبه بمباشرة حسنات تضادُّ آثارها آثار تلك السيئات..
- ولقد صدق أبو سليمان الدّاراني حيث قال: "لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على تفويت ما مضى منه في غير الخير لكان خليقاً أن يحزنه ذلك إلى الممات، فكيف من يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله".. وإنما قال هذا لأن العاصي إذا مَلَك جوهرة نفسية، وضاعت منه بغير فائدة بكى عليها لا محالة، وإن ضاعت منه وصار ضياعها سبب هلاكه كان بكاؤه أشد، وكل ساعة من العمر، بل كل نَفَس جوهرة نفسية لا خَلَف لها، ولا بدل منها فإنها صالحة لأن توصل العبد إلى سعادة الأبد وتنقذه من شقاوة الأبد، وأَيُّ جوهرة أنفس من هذا؟! فإذا ضيّعها الغفلة فقد خسر خسراناً مبيناً، وإن كان لا يبكي هذه المصيبة فذلك لجهله، ومصيبته بجهله أعظم من كل مصيبة..
ونوم الغفلة يحول بينه وبين معرفته، والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.. قال تعالى: )وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( ]المنافقون 9-10[ وقد قيل في معنى الآية: إنه يقول حالتئذٍ: "يا ملك الموت أخرني يوماً أتوب فيه إلى ربي وأتزود صالحاً لنفسي، فيقول: "فنيت الأيام فلا يوم" فيقول: فأخرني ساعة، فيقول: "فنيت الساعات فلا ساعة" فيغلق باب التوبة، فيتغرغر بروحه، وتزهق نفسه. قال تعالى: )إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً( ]النساء17[.
إلهي لست للفردوس أهلاً
ولا أقوى على نار الجحيم
فهب لي توبة واغفر ذنوبي
فإنك غافر الذنب العظيم
* ومن قصص بعض التائبين:
1ً- قصة توبة عبد الله بن المبارك "رحمه الله": ذاك الذي وصفه الإمام النووي رحمه الله بأنه: "الإمام المجمع على إمامته وجلالته في كل شيء، والذي تستنزل الرحمة بذكره، المغفرة بحبه".. لقد نشأ ابن المبارك وفي نفسه من هوى الشباب ورغائبهم ما يوجد لدى سائر أترابه، وكان طروباً يهوى العزف على العود ويتقنه، ثم أضرب عن ذلك كله وتوجّه إلى طلب العلم.. قال عن نفسه: - يروي أول عهده بالانصراف عن ملهيات الدنيا، وبالإقبال على الله-: كنت يوماً في بستان وأنا شاب مع جماعة من أترابي، وذلك في الصيف وقد نضجت الفواكه فأكلنا وشربنا، وكنت مولعاً بالعزف على العود، فنمت بعض الليل، ثم استيقظت وإذا غصن يتحرك عند رأسي، فاستهواني الحال، وأخذت العود لأعزف عليه، فإذا العود ينطق قائلاً: )أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( ]الحديد16[ فضربتُ بالعود الأرض، فكسرته، وصرفت ما عندي من جميع الأمور التي عليها مما يشغل عن الله، وجاء التوفيق من عند الله عز وجل..
2ً- قصة توبة الفضيل بن عياض "رحمه الله": ولد الفضيل -رحمه الله- كما يقول هو عن نفسه: في مدينة اسمها (نسا) تابعة لسمرقند عام 105هـ، وأمضى الشطر الأول من حياة شبابه فاتكاً بطاشاً، يقطع الطرق، ويستلب أموال الناس، وكان يتربص بالسابلة والمسافرين في مغارة ما بين (أبيورد و مرو) حتى عُرفت تلك المغارة باسمه، وغدت منطقة رعب في نفوس المجتازين، ورجال القوافل، فكانوا يتواصون بالابتعاد عن الطريق، كي لا يقعوا في كمائنه. وكان الفضيل يعمد إلى الأموال التي ينهبها من عمله هذا، ينفقها على متعه وأهوائه، ويبددها في سبيل ملاذه، وفي غمرة حياته التائهة هذه لقي جارية فأحبّها وتعلّق بها، فكان يختلف إليها كلما أمكنته الفرصة، وقلما كانت تسفع السانحة، فشغله التعلق بها عن جزء كبير من اهمتاماته بقطع الطرق، ومتابعة المسافرين، والتربص بهم، فقد اهتاج في قلبه من تعلقه بتلك الجارية وعشقه لها، ما صرفه عن كثير من اهتماماته الماليّة، وأخمد في نفسه نيران بطشه، وحرارة بغيه، فلم يكد يفرغ لأكثر من التفكير بها، ورسم السبل للقائها والركون إليها .. ولقد هدي الفضيل بن عياض من خلال حبه لتلك الجارية، وتعلقه بها، إلى فم الطريق.. فانحطّ فيه ومشى لا يلوي على شيء. وكان لابد لهذا الطريق من أن يقصيه عن أودية أهوائه ورعوناته التي جللت قلبه بالقسوة، وحببت إليه البطش والظلم والفتك.. فأسدل شعلة الحب بينه وبينها حجاباً أخذ ينسيه شيئاً فشيئاً ظلمات لياليه التي كان يتلصص فيها، ويكمن لعباد الله باحثاً عن قوامه وغنائمه!..
ومضى ذات ليلة يفكر.. وبدلاً من أن يفكر كعادته في رسم خطة للإيقاع بقافلة للحصول على أموالها، كان يفكر في الخطة التي ينبغي أن يصل إليها للقاء محبوبته، وإطفاء غُلَّة اشتياقه الشديد إليها..
واهتدى أخيراً إلى أن عليه أن ينتظر إلى الهزيع الأخير من الليل، حيث يكون النوم قد حجب عنه أعين الأهل والرقباء، ثم يمضي دار حبيبته، فيتسور إليها الجدار دون ضجيج سؤال أو قرع للأبواب.. وذلك في ساعة محددة تنتظره فيها... واتجه الفضيل لتنفيذ خطته، واختيار الوقت المناسب، ووصل إلى دار الجارية تحت جنح الظلام في ساعة لم يكن يصغي الليل فيها إلا لوقع أقدامه.. ولما نظر فوجد هيكل الدار يلوح لعينيه في غبش الظلام، خُيِّل إليه أنه إنما يقف من تلك الدار أمام غلالة رقيقة ترتديها حبيبته في انتظار لقياه، في تلك الساعة الهادئة، بل الراقدة من ذلك الليل!..
لم يتردد الفضيل في غمرة مشاعره هذه، في البحث عن أقرب متناولٍ يتعلق به من جدران تلك الدار، وسرعان ما عثر عليه فتعلّق ثم تجاوزه متسلقاً إلى أعلى الجدار وقبل أن يهوي منه ساقطاً في داخل الدار، وقف يلقي السمع إلى أيّ صوت يمكن أن يبلغ بحثاً عن فريد من الطمأنينة إلى أنه جاء في الوقت المناسب، وبينما هو كذلك، إذ سمع قارئاً يرتل في جوف الليل قول الله عز وجل: )أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( ]الحديد16[ والحمد لله رب العالمين..
المراجع:
الرسالة القشيرية للنيسابوري. موعظة المؤمنين للقاسمي.
مقاصد الرعاية للإمام العز بن عبد السلام.
وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له للشيخ أبو اليسر عابدين.
شخصيات استوقفتني للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.
من هو سيد القدر في حياة الإنسان للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.
نعم الله وفضله على خلقه لإيمان جمال الدين.

تحميل