مميز
EN عربي
الكاتب: العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
التاريخ: 30/11/2010

لا خلاف في وجوب الاتباع وتجنّب الابتداع

مقالات مقالات في أصول الفقه

لا خلاف في وجوب الاتباع وتجنّب الابتداع


إذن فمن أين انبثق الاختلاف؟!


الإمام الشهيد محمد سعيد رمضان البوطيّ


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمّد النبيّ وآله وصحبه أجمعين. وبعد:


لا أعلم خلافاً بين المسلمين، من أيّ الفرق والمذاهب كانوا، في أنّ على المسلم أن يتّبع النص الوارد في القرآن وصحيح السنّة، وأن يتجنّب ابتداع ما لا وجود له في أيّ منهما. فهذا إذن هو الجامع المشترك بين المسلمين على اختلاف فرقهم ومذاهبهم واختلاف عصورهم، وهم متّفقون على ذلك.


ففيم تسرّب الخلاف بينهم حتى تحوّلوا إلى مذاهب وفرق شتى؟ وكيف لم يتأتّ لهذا الجامع المشترك أن يجذبهم إلى صراطٍ واحد وكلمة سواء؟


والجواب أنّهم اختلفوا حول تفسير الاتّباع وضوابطه، كما اختلفوا حول معنى الابتداع والمراد به. فهذا هو العامل الذي شرد بهم عن التلاقي والاتّحاد تحت سلطان ذلك الجامع المشترك. وأنا أفترض الآن أنّه لا دور للعصبيّة النفسيّة ولا للعوامل الخارجيّة في هذا الأمر.


ولكن فما موجب الاختلاف في فهم معنى الاتّباع ووجوبه، وعهدنا بهذه الكلمة أنّها واضحة المعنى، لا يتراءى فيها موجب لتوهّم أو لبس؟ وما موجب الاختلاف في المعنى المراد بالابتداع، وقد علمنا أنّ الكلمة مأخوذة من الإبداع، والكلّ يعلم معناها! إيجاد شيء لم يكن موجوداً من قبل.


وَلنُفرد معنى كل من الاتّباع والابتداع، للإجابة عن هذا السؤال، ببيان مستقلّ.


أولاً: معنى اتّباع النصّ.


لا خلاف في أنّا نعني باتّباع النصّ القرآني، التأمّل في ألفاظه وجمله وسبك نصوصه، ابتغاء الوصول إلى المعاني المرادة منها وصولاً صحيحاً مطابقاً لقصد الشارع وأمره، ثمّ الالتزام بتلك المعاني المرادة منها والتي تمّ الوصول إليها.


وهنا يضطرّ الباحث الذي قرر في نفسه اتّباع ما جاء به القرآن أن يتعرّف على القواعد العربيّة المتّبعة في تفسير النصوص، والتي لا يمكن للرجل العربيّ أن يسير في فهم شيء من معاني الألفاظ العربيّة إلّا على هديها.


وتنقسم جملة هذه القواعد إلى قسمين: الدلالات، والبيان.


أمّا الدلالات فيقصد بها أصول دلالات الألفاظ على المعاني إن من حيث الكيفيّة وهي ما يسمّونه: الحقيقة والمجاز والمشترك، ودلالة المنطوق والمفهوم.. إلخ، وإن من حيث التفاوت في درجات القوّة والضعف، وهي المحكم والمفسّر والنصّ والظاهر والخفيّ والمشكِل والمجمل.


وتتعلّق بها الضوابط والأحكام والشرائط التي لا بدّ من معرفتها والأخذ بها عند الاعتماد على هذه الدلالات.


وأمّا البيان فيقصد به ملاحظة الأصول والقواعد العربيّة المرعيّة، في الحالات التالية:


  • عند وجود تعارض جزئي يقع بين لفظ ذي دلالة خاصّة، ولفظ آخر ذي دلالة عامّة، في نطاق الحكم ذاته. فإنّ ثمّة قواعد يتم على أساسها التوفيق بين الجملتين المتعارضتين.

  • عند وجود تعارض جزئي بين مطلّق ومقيّد. فإنّ ثمّة قواعد أخرى من شأنها إعادة التوافق بينهما.


جـ. عند ظهور أسباب تستدعي تأويل كلمة ما وإخراجها عن ظاهر معناها الحقيقي فإنّ لهذه الحالة موازين تعتمد على قواعد عربيّة محدّدة، يجب الرجوع إليها.


  • عند الوقوف أمام كلمة غامضة الدّلالة (مجملة) لا يستبين المعنى المراد منها إلّا بالرجوع إلى القرائن والنصوص الأخرى المتعلّقة بالموضوع ذاته..


غير أنّ هذه القواعد التي ينهض عليها علم دلالات النّصوص، والتي ينهض عليها علم بيان معانيها، ليست كلّها محلّ اتّفاق من علماء هذا الشأن، أي من علماء اللغة العربيّة وفقهها، ومن المعلوم أنّ قواعد تفسير النصوص قواعد حياديّة تنبثق من أصول الدلالات اللغويّة وفقهها، ومردّها إلى العلماء المتخصّصين باللغة العربيّة.. فقد كان لا بدّ إذن أن تنعكس النقاط الخلافيّة بين علماء اللغة هنا، على اجتهادات الباحثين فيها من علماء الكلام وعلماء الشريعة الإسلاميّة.


فقد كان لا بدّ إذن أن ينبثق من الاجتهادات المتخالفة في هذه القواعد لدى علماء الكلام، ما يسمّى بالفِرق الإسلاميّة، وكان لا بدّ أن ينبثق من الاجتهادات المتخالفة في هذه القواعد، عند علماء الشريعة الإسلاميّة ما يسمّى بالمذاهب الفقهيّة.


*                            *                        *


فتلك هي نتيجة الاختلاف في قواعد تفسير النصوص، التي ظهرت في تكوّن الفِرق والمذاهب المختلفة..


والحديث عن اختلاف العلماء في البدعة ومعناها، وأثر ذلك في ترسيخ هذه الفِرق في ساحة الوجود الإسلاميّ، قريب من ذلك.


وها أنا أفرده ببعض التفصيل:


يذكر العلماء أكثر من تعريف للبدعة، غير أنّ ثمّة قاسماً مشتركاً يفرض نفسه في سائر التعاريف التي اختلف فيها الأئمّة، فهو محلّ اتّفاق منهم جميعاً، وهو أن نقول: البدعة إقحام شيء في مبادئ الدين الاعتقاديّة أو أحكامه السلوكيّة، دون دليل شرعيّ على ذلك.


إنّ حرمة البدعة بهذا المعنى، الذي هو قاسمُ مشترك، ما ينبغي أن يكون محلّ خلاف بين المسلمين أيّاً كانوا. ولكنّ المسلمين في واقع الأمر قد اختلفوا وتكوّنت منهم بسبب ذلك الفِرق والمذاهب المتعدّدة. فأين هو مكمن الخلاف في هذا الموضوع؟


مكمن الخلاف في ذلك يتلخّص في أمرين اثنين:


الأمر الأوّل: الخلاف الذي من شأنه أن يقع عند محاولة تطبيق التعريف المتّفق عليه للبدعة على الوقائع الجزئيّة.. إنّ من المعلوم أنّ هذا كثيراً ما يفتح آفاق النظر والنقاش ويثير وجوه الاحتمال، فيقع الخلاف في التطبيقات من حيث تمّ الاتّفاق على المبادئ والتعريفات. وهذا التطبيق هو ما يسمّونه في علم أصول الفقه بتحقيق المناط.


  • من ذلك البحث في تفاصيل القضاء والقدر والسؤال عن الجبر والاختيار فقد وقع الخلاف في الخوض فيها أهو من البدعة أم لا..

  • كذلك استخدام علم الكلام واصطلاحات الفلاسفة وقواعد المنطق في الدفاع عن أصول الدين وعقائد الإسلام.. فقد وقع خلاف في ذلك أيضاً.

  • ومن ذلك مناقشة المبتدعة في بدعهم ومحاورتهم في شأن الباطل الذي يتمسّكون به، فهو أيضاً مما وقع فيه الخلاف..


فهذه وأمثال لها أمور جزئيّة كانت محلّ اجتهاد من العلماء: أينطبق عليها تعريف البدعة المتّفق عليه أم لا..


الأمر الثاني: الجهل الذي يعانيه المتعالمون، وهم موجودون في كلّ عصر، فالشأن فيهم أن يذهبوا في تفسير البدعة المذهب الذي يرون، دون أيّ انضباطٍ بقواعد العلم أو اتّباع في ذلك لقرار الأئمّة:


فكل جديد لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدعة في نظرهم، إذن تجب محاربتها ومحاربة المتلبّس بها. وعلى ذلك فالملابس الجديدة التي لم يلبسها رسول الله بدعة.


وصيغ الدعاء التي لم يدع بها رسول الله بدعة، وصيغ الصلاة الجديدة على رسول الله بدعة. والاجتماع على ذكر الله في ساعة من يوم معيّن، لم يجلس فيها رسول الله للذكر بدعة.. واجتماع المسلمين لصلاة العيد في المسجد الجامع بدلاً عن المصلّى الذي كان يصلّي فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدعة.. ومن ثمّ فينبغي أن يكون كلّ ذلك محرّماً. لأنّ كل بدعة ضلالة. ولا يكون التلبّس بما فيه ضلالة إلّا محرّماً.


وقد علمت أنّ البدعة هي إقحام أمر اعتقاديّ أو سلوكيّ في الدّين، وهو ليس منه، ولكنّ ذكر الله من الدين، والدعاء من الدين، والصلاة على رسول الله من الدين وصلاة العيدين من الدين.. ولعلّك تعلم ما ينبغي أن لا يكون خافياً عليك من أنّ ترك رسول الله لفعل ما ليس دليلاً وحده على حرمة فعله، أي فتروكه للأعمال التي تركها ليست دليلاً وحدها على حرمة فعلها، سواء من ذلك الأمثلة التي ذكرناها وغيرها.


*                            *                        *


كان هذا باختصار دور العوامل الاجتهاديّة في تسرّب الخلاف إلى فهم معنى الاتّباع وإلى فهم معنى الابتداع. وقد علمنا أنّ هذه العوامل تعدّ من أهمّ أسباب نشأة الفرق والمذاهب المختلفة.


ولكنّا كنّا - ونحن نتحدّث عن هذه العوامل - قد افترضنا أن لا دور للعصبيّة النفسيّة ولا للعوامل الخارجيّة في هذا الأمر. وقد افترضنا آنذاك ذلك كي لا تتكاثر العوامل ويلتبس بعضها ببعض.. فلا جرم أنّ لهذين العاملين دوراً كبيراً في إيجاد الخلاف بل في تعميقه أيضاً في نقاط أو أمور لا موجب لخلاف فيها. ولنقف على بعض النماذج لذلك:


- ففي مسألة الاتّباع والابتداع وجدت نصوص في القرآن تمّ الاتّفاق اللّغوي والإجماع الشرعيّ على ضرورة إخراجها من معانيها الحقيقيّة إلى المجاز (وهذا هو التأويل) مثل: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}الطور48، فقد تمّ الإجماع على أنّ كلمة الأعين لا تصلح أن تكون ظرفاً للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وإنّما هي تعني الرعاية والحماية.. ومثل قوله تعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}القصص88، فلا يتأتّى تفسير الوجه بمعناه الحقيقي الذي هو جزء من الذات. إذن لا بدّ من تأويله.


ومع ذلك فإنّ فيمن يعدّون أنفسهم سلفيين اليوم من يصرّ على تفسير هاتين الكلمتين، وأمثالهما، بالمعنى الحقيقي، ويفسّقون ويبدّعون الأشاعرة والماتريدية لجنوحهم إلى التأويل الذي لا محيد عنه. ومما لا ريب فيه أنّ العصبيّة للذات وللمذهب هي التي تقودهم إلى هذا الشذوذ الذي يخرق الإجماع، والدليل على ذلك أنّهم لا يدركون معناً سليماً لفناء ما عدا الوجه من ذات ربّ العالمين، ولا يدركون معناً سليماً لحلول رسول الله في ((أعيننا)) طبقاً لظاهر قوله تعالى: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا).


ولكن إذا اقتضت العصبيّة التأويل، فما أيسر أن يفتح أمامها بابه. فمحبّة الله لعباده في قوله تعالى: (يحبّهم) تؤول برضاه عنهم. ومحبّتهم له في قوله تعالى: (ويحبّونه) تؤول بطاعتهم له وانقيادهم لأوامره وحكمه!! وهذا التأويل خاضع لنقاش طويل.


وبالمقابل، ثمّة فِرقٌ أو فرقةٌ أخرى تعرض عن النصّ القاطع الذي لا سبيل لتأويله في كتاب الله تعالى، ولا تسمح قواعد اللغة بتفسيره إلا على حقيقته، وتلغيه عن الاعتبار لتستبدل به ما تدعوها إليه العصبيّة المتحكّمة.


من ذلك شهادة كتاب الله تعالى لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلّهم بالخيرية والمكانة الباسقة والوعد الذي قطعه الله تعالى لهم على ذاته بالنعيم الدائم في جنان الخلد، وذلك في قوله عزّ وجلّ: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ..}الفتح29، ولكنّ العصبيّة الحاكمة دعت بعض الفرق إلى الإعراض عن هذه الشهادة الربّانّة لجميع الصحابة، وإلى تحكيم سلطان الأمزجة بدلاً عنها. فكان أن صنّفت الأمزجة صحابة رسول الله بين ((مُجتَبَين)) حازوا الرضا والقبول ومنحرفين ضالّين باؤوا بالسوء والعقاب الوبيل.. متجاهلين النصّ الصريح القاطع في كتاب الله.


ومن ذلك الخِلعةُ التي أضفاها كتاب الله على زوجات رسول الله، إذ سمّاهنّ جميعاً أمّهات للمؤمنين، وذلك في قوله عزّ وجلّ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}الأحزاب6، فقد قضت العصبيّة عند هؤلاء الناس بتصنيف زوجات رسول الله حسب ما تقضي به العصبيّة والمزاج، فكان أن حُرِمَت عائشة رضي الله عنها من هذه الخلعة التي متّعها بها الله، واتّهمت بما لا يمكن أن يرضاه أو أن يسكت عليه رسول الله، وبما لا يمكن أن يتّفق مع النصّ الصريح القاطع في كتاب الله.


*                            *                        *


أخيراً لعلّ الحصيلة التّالية هي أهمّ ما يجب الانتهاء إليه والوقوف عنده والأخذ به من هذا البحث:


ليس ثمّة أيّ إشكالٍ في الاختلافات الاجتهاديّة التي سقنا بياناً لدوافعها وأمثلة لها، حيال فهم معنى اتّباع النصوص الجازمة وعدم الخروج عليها.


كما أنّه لا يوجد أيّ إشكال في الاختلافات الاجتهاديّة في تحديد معنى البدعة المحرّمة، ما دام مصدر الاجتهاد متمثلاً في نصوص قابلة لأكثر من دلالة ومعنى، أو متمثّلاً في إسقاط القواعد المتّفق عليها أو التعاريف المجمع عليها، على الجزئيات الكثيرة في مجال التطبيق وما يسمّى بتنقيح المناط.


ومن ثمّ فإنّ الفِرقَ والمذاهب المنبثقة من هذه الاجتهادات العلميّة أو الفقهيّة المتخالفة، لا تخرج عن دائرة شرعيّة الاختلاف ومن ثمّ لا يمكن أن تفقد هويّتها الإسلاميّة، ولا يجوز أن ينظر إليها على أنّها تمارس في اجتهاداتها نوعاً من الشذوذ..


ولكنّ الأمر يختلف اختلافاً جذرياً، عندما يستدعي الاجتهاد الجانح عن مذهب أهل السنّة والجماعة خروجاً صريحاً على ما ينصّ عليه القرآن بعبارة لا تحتمل التأويل، أو على ما تواتر من حديث رسول الله بشكل يستعصي على التّأويل.


ولا نشكّ في أنّ العامل الكامن وراء الجنوح عن مذهب أئمّة المسلمين إنّما هو العصبيّة للنفس أو الذّات. وربّما تحوّلت إلى عصبيّة للجماعة، وربّما ازداد الأمر خطورة فتسرّبت جهة أو جهات خارجيّة إلى الساحة وتبنّت المواقف العصبيّة هذه، لإيقاد نيران الفتنة ولإيجاد الأسباب الدّاعية إلى تألّب المسلمين بعضهم على بعض.

تحميل