ثقافة الحفظ
بقلم د. محمد حسان الطيان
"نعتقد أننا بحاجة جادة إلى أن يعود الحفظ إلى سابق مجده في هذه الأمة, ولا ينفق المرء إلا مما ادخره, يستوي في ذلك حفظ القرآن, والتراث الشعري والنثري. وأن نرفض تلك النظريات التربوية المفسدة للملكة اللغوية والسليقة العربية, وأن تعود المختارات "كالمنتخب من الأدب العربي" إلى المدارس كلها".
قرأت هذا الكلام لأستاذ أكاديمي من أساتيذ العربية, وناقد بصير من نقاد أدبها وشعرها ونثرها, وهو الأستاذ الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم أبو همام, فسررت به سرورَ متّهم يسمع كلاماً يبرِّئه, وسعدت به سعادةَ باحث منقّّر وقع على حجة تؤيده وشاهد يشهد له, فقد فَرَغت لتوّي من اجتماع أكاديمي طال فيه النقاش حول فائدة الحفظ في تعليم العربية, ووجدتني أدافع فيه عن تكليف الطلبة حفظَ خمسة وثلاثين بيتاً من الشعر في مقرر جامعي يرمي إلى إكساب الطلبة مهارات الاتصال باللغة العربية والارتقاء بذائقتهم وحسِّهم وتمكّنهم من لغتهم, ولأياً ما فعلت, فقد لقيت الألاقي من بعض مدرسي هذه اللغة وهم يحاولون أن يلغوا المطلوب من الحفظ, أو يقللوا من عدد الأبيات المطلوبة, مستهينين بثقافة الحفظ, طاعنين بضرورتها, منكرين أهميتها في تمكن الطالب من لغته واكتسابه المهارات المختلفة فيها.
وقد بذلت ما بوسعي لإقناعهم بأن اللغة إنما تكتسب بكثرة الاطلاع على نصوصها, ووفرة المحفوظ من هذه النصوص بدءاً من القرآن الكريم, ومروراً بكلام العرب في شعرها و نثرها و خطبها و أمثالها وأخبارها, وما أفلح من أفلح ممن تمكن من ناحية هذه اللغة فأسلست له قيادها إلا بمثل هذا, وهاكم الأمثلة من كتّابنا وأدبائنا وأعلامنا العظام مثل اليازجي والبستاني ومكرم عبيد وطه حسين والرافعي والطنطاوي وغيرهم.
إننا حقاً بحاجة إلى إعادة النظر في بعض ما فُـتِـنّـا به من نظريات التربية الوافدة من هنا وهناك, من مثل تلك التي تزعم أن ثقافة الحفظ لم تعد تجدي وأن الحفظ يتنافى مع الفهم. لقد صرنا في اعتمادنا نظريات لا تليق بنا ولا بلغتنا وثقافتنا إلى ما صار إليه ابن هرمة عندما قال::
وإني وتركي ندى الأكرمين وقدحي بكفّي زناداً شحاحا
كتـاركةٍ بيـضَها في الـعراء وملبسةٍ بيضَ أخرى جناحا
ولا أدري والله لماذا يجعل الحفظ مقابلاً للفهم, وكأنهما ضدان لا يجتمعان, مع أن هذه العلاقة الموهومة المبنية على التضاد فيما بينهما غير صحيحة ألبتة, فليس الحفظ بمانع من الفهم, بل هو مطيّة له ومساعد عليه، لأنه لا يرسخ ويسهل ويستطاع إلا بالفهم, وقديماً قيل: "الحفظ الإتقان".
بل إن ابن خلدون يربط بين اكتساب ملكة اللسان العربي وبين حفظ كلام العرب في مقدمته حيث يقول: " وتعلم مما قررنا في هذا الباب أن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب, حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه, ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم, وخالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم".
ويقرر ابن خلدون أيضاً أنه لا بد من كثرة الحفظ لمن يروم تعلم اللسان العربي, وعلى قدر وجودة المحفوظ و طبقته في جنسه, وكثرته من قلته, تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ.
فمن أراد العربية وسعى لها سعيَها, فإن أهم سعي لها حفظ نصوصها، وقراءة أدبها, والتغني بشعرها, وترداد خطبها,’ والتمثيل بأمثالها وحكمها، ورواية قصصها وأخبارها، ذلكم هو مفتاح العربية, وتلكم هي بوابتها, فهل من مبتغٍ إلى العربية سبيلا؟!