مميز
EN عربي
الكاتب: الشيخ خاشع حقي
التاريخ: 31/10/2010

اللغة العربيّة والمسيرة التعليميّة في الوطن العربي

مقالات مقالات في اللغة العربية

اللغة العربيّة والمسيرة التعليميّة في الوطن العربي !!


الشيخ خاشع حقي


كان من الأهداف التي وضعها رجال التعليم والحكم نصب أعينهم في بدايات الاستقلال تعميم اللغة العربية الفصحى والسعي إلى نشرها، وتوسيع آفاقها العلميّة وميادينها التعليميّة حتى تشمل جميع نواحي الحياة الاجتماعيّة والأسريّة والفرديّة، ولا س يّما في التعليم ومؤسساته، ودوائر الدولة كافة.


فتعال أخي القارئ الكريم للطواف في أرجاء الوطن العربيّ الكبير نرى ما الذي تم تحقيقه في دنيا العروبة والعالم العربيّ والإسلاميّ للحفاظ على هذه اللغة، والإبقاء على أصالتها ورونقها وجمالها ونشرها في الوطن العربيّ وخارجه، إذ هي من أهمّ مقومات تكوين الأمّة، كما يقول علماء الاجتماع.


الحقّ يقال: إن المجامع اللغوية في العالم العربي جادّون في أبحاثهم، دائبون على عملهم في الميادين العلمية كافّة، ترجمة وتعريباً للمستجدات العلميّة والتقنيّة المتط وّرة، وقد غط وا هذه المستحدثات والمستجدّات بإيجاد أسماء وتسميات عرب يّة فصيحة لها، ولا سيّما في الميدان الطبيّ .


أمّا في المجال التعليميّ والتربويّ – وهذا باب القصيد – أعني في المؤسسات العلميّة من معاهد وجامعات ودور علم فلا يخالجني الشكّ أن التقصير فيه كبير، وكبير جداً، إذ لا تكاد تجد معلّماً أو أستاذاً في مراحل التعليم الثلاث (ابتدائيّ –إعداديّ –ثانويّ) حتى الجامعيّ، يجيد التكلّم بالفصحى بطلاقة، أو يبتدئ محاضرته ويستمرّ فيها إلى نهايتها دون أن يخلطها بالعاميّة.


أقول هذا وقلبي يعتصر ألماً إذ عانيت هذا الواقع المؤلم ربع قرن أو يزيد حين ممارستي لمهنتي في تدريس مادة التربية الإسلاميّة في المرحلتين الإعداديّة والثانويّة في سوريّة وخارجها.


وكم كنا ننبّه إخوتنا المدرّسين والمعلّمين على ضرورة التزام الفصحى في دروسهم النظريّة والعلميّة ولكن ما كنا نجد آذاناً صاغية.


وكان خوفنا في هذا الجانب على الطلاب والتلاميذ، لأنّ إهمال الفصحى يرتد سلباً على ناشئتنا وأجيالنا الحاضرة والقادمة.


ثم إن هذا التعمّد أو التجاهل للفصحى أمر خطير ينبغي أن يكون التنبيه عليه مستمرّاً من الموجهين التربويين المتخصصين في المواد الدراسيّة كافّة، وفي مجالات حياتهم الفرديّة والأسريّة والاجتماعيّة، حتى في أحاديثهم العرضية، ليكونوا مربين عمليين وقدوة للعاملين.


واقع أليم


واليوم وبعد مرور ثلاثين سنة لا ألمس إلا التدني سواء في المجالات العلميّة ومؤسسات التعليم، أو دوائر الدولة ومخاطبات رجالاتها وكتاباتهم وتقاريرهم، فضلاً عن وسائل الإعلام والصحافة التي تجاري السوقة وأبناء الشارع.


بينما يزداد الاهتمام بالعامية واللهجات الإقليميّة والمحليّة، ومن السواد الأعظم من الناس ومن الطبقات كافّة...! وانتقلت عدواها من ثم إلى الدعايات على شاشات التلفزة. فبأيّ منطق نفعل هذا؟ وكيف نرضى للغتنا العربيّة الجميلة، لغة القرآن، والعبادة، والعلم والحضارة، أن تظلّ مهجورة لا ينطق بها إلا على أعواد المنابر، ونتمسّك باللهجات العاميّة والمحليّة الدارجة على طول وطننا العربيّ الكبير، وأقطاره المختلفة، ولهجاتها المتباينة التي تعددت بتعدد الأقطار العربيّة، إذ لكلّ قطر عربيّ لهجته الخاصة به...! بل لكلّ مدينةٍ أو محافظةٍ لهجتها الخاصّة المتميّزة.


وما الذي كان يقوله أبو الأسود الدؤلي لو عاش واقعنا اليوم، ورأى هذا التكسير في لغته، والعجمة في لهجته؟


لقد تأثّر من كلمة واحدة قالها بالفصحى، ولم يفهمها عليه صاحبه، إذ روي أنّ الدؤلي كان يمشي يوماً خلف جنازة، فسأله أحدهم: من المتوفي – بكسر الفاء – فقال: الله تعالى. فاستغرب الرجل ولم يفهم عليه، ومضى لشأنه، لأنّ العوام يقولون عن الميّت "متوفي" – بكسر الفاء – وهذا غلط، والصواب: متوفى ، بفتح الفاء.


وكان هذا أحد أسباب وضع قواعد اللغة العربية أو فيما سمي ب "علم النحو" بعد ذلك.


ولمّا كانت اللغة هي أهمّ مق ومات الأمّة– أيّة أمّة –وجب أن تكون في مكان الصدارة من اهتماماتنا، ولا يتوانى فيها البتّة، ولأنها لغة القرآن الكريم، قال تعالى: {إِنّا أَنزَلْنَاه قُرْآناً عَرَبِيّاً لعَلكُمْ


تَعْقِلُونَ}يوسف 2، وهي لغة العبادة، يُتعبد بها في الصلاة، ولغة العلم والحضارة على الرغم من أنف الحاقدين والمتربصين، والمتآمرين، من مبشرين ومستشرقين ومن دار في فلكهم أو سار في مخططاتهم.


وبهذه الفصحى تفهم الأجيال تراث الأجداد، وتقرأ مؤ لّفاتهم، وتطلع على تاريخهم وحضارتهم منذ عهد الجاهليّة قبل الإسلام وإلى اليوم .... وما بعد اليوم.


وبذلك تحف الصلة من الأبناء والآباء والأجداد، وتزداد الرابطة متانة ورسوخاً على مرّ الزمن.


وقد حفظ أجدادنا الفصحى من تسرب أيّ ضعف إليها، ووضعوا لها من الأسس والقواعد والضوابط ما يضمن استمرارها، ويكفل بقاءها وسلامتها، وخدموها، بل تفانوا في خدمتها لأنها لغة القرآن أولاً ، وللصلة بين الأجيال ثانياً، والحفاظ على التراث ثالثاً.


ولولا تلك الجهود المضنية في تعقيد قواعدها لما استمرّت الصلة بين الأجيال المتعاقبة، ولما فهم جيل لاحق عن جيل سابق، ولطرأ عليها التغيير والتبديل، لأن اللغة كأيّ كائن حيّ تموت منها كلمات وتتجدّد فيها كلمات.


وهكذا تم الحفاظ عليها في الصدور والسطور، وعلى الألسنة نطقاً، وشعراً ونثراً ، إلى اليوم إذ بإمكان أيّ قارئ عربيّ أن يستخرج أيّ كتاب من المكتبة العربيّة ويقرأه بسهولة ويفهمه تماماً وكأنّه ألّف اليوم وإن كان من العهد الجاهليّ الذي يفصل بيننا وبينه خمسة عشر قرناً. في حين أن غيرها من اللغات تلاشت واندثرت في تضاعيف المستجدات (كاللغة اللاتينية)، ومثلها اللغة الإنجليزية المعاصرة التي تطوّرت تطوّراً كبيراً وواسعاً حتى لم يعد الإنجليزي اليوم يفهم عن شاعره الكبير شكسبير شيئاً إلّا إذا ترجم شعره إلى لغة العصر، علماً أن المسافة الزمنيّة التي تفصل بين شكسبير والجيل الحاضر ليست ببعيدة إذا ما قيست بالزمن الذي يفصل بين العربيّ اليوم وبين العهد الجاهليّ ... فأين أربعة قرون من خمسة عشر قرناً ...!؟


والسبب في ذلك تطوّر اللغة وعدم الحفاظ على الصلة بين القديم والحديث. وقد جرت محاولات كثيرة ولا تزال لاستبدال العامية بالفصحى، وجعل اللهجات الإقليمية بدلا عنها منذ ما يزيد على قرن، وظهرت الدعوة إليها من كتّاب وأدباء وشعراء ، لهم وزنهم في الوطن العربيّ ، متأثّرين بالدعوات التي أطلقها المستشرقون و المبشر ون من أمثال: (سلامة موسى، وسعيد عقل، وأنيس فريحة، وعبد العزيز فهمي) بدعوى أنّ الفصحى لا يفهمها العامل والفلاح والسوقيّ ورجل الشارع، وكسبوا إلى جانبهم وسائل إعلاميّة قويّة وكثيرة على أعلى المستويات والأصعدة وعقدت ندوات وجرت مقابلات مع كبار دعاتهم لهذه الغاية.


سقوط الأقنعة


ويضيف قائلاً: فمنذ أربعمائة سنة تخلّصت إنجلترا من اللغة اللاتينيّة الأكاديميّة نهائياً، واستخدمت لغتها القومية، ونهضت الأمة كما ينهض رجل قويّ بعد سبات.


ويقول زويمر المستشرق والمبشر الإنجليزي: تبشير المسلمين يجب أن يكون بلسان رسول منهم ومن بين صفوفهم، لأن الشجرة ينبغي أن يقطعها أحد أبنائها.


أما وليم جيفور دبلجراف فإنه يدعو صراحة إلى إبعاد القرآن عن حياة المسلمين والقضاء على مكّة فيقول: {متى توارى القرآن ومدينة مكّة عن بلاد العرب يمكننا عندئذ أن نرى العربي يتدرج في سلم الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه}.


ويضيف قائلاً: {والتقسيم السياسيّ الذي طرأ على الإسلام سيمهد السبيل لأعمال المدينة الأوربيّة، ولا يمضي غير وقت قصير حتى يكون الإسلام في حكم مدينة محاطة بالأسلاك الأوربيّة}.

وقد استجاب لهذه الدعوة عدد غير قليل من الكتّاب والأدباء العرب من أمثال:

محمد عياد الطنطاوي صاحب كتاب {أحسن النخب في معرفة كلام العرب}.


حنفي ناصف صاحب كتاب {مميزات لغات العرب}.


ميخائيل الصباغ صاحب كتاب {الرسالة التامة في كلام العامة}و{المنهاج في أصول الكلام الدارج}.

سلامة موسى أحد أبرز تلامذتهم حيث ذهب إلى أبعد من هذا حين صرح بقوله: الرابطة الشرقيّة سخافة، والرابطة الدينيّة وقاحة، والرابطة الحقيقيّة هي رابطتنا بأوروبا.


عبد العزيز فهمي الذي اقترح على غرار أساتذته من الأوربيين استبدال الحروف اللاتينيّة بالحروف العربية متعللا ًبصعوبتها قائلاً: {وهذه المشقة تحملني على الاعتقاد بأن اللغة العربيّة من أسباب تأخر الشرقيين، لأن قواعدها عسيرة، ورسمها مضلل...!}.


ترى ماذا يقول عبد العزيز فهمي عن اللغة اليابانيّة التي يصل عدد حروفها إلى عشرة آلاف حرف، ولم يستطع اليابانيون على الرغم من تقدّمهم العلميّ والتقنيّ اختراع آلة للغتهم حتى اليوم، وإن المسؤولين الكبار في الوزارة أو في السفارات في الدولة اليابانية إذا أراد أحدهم أن يكتب تقريرا ً كتبه بيده ثم سلّمه إلى النسّاخ، وإنّ كل مراحل التعليم، على ذلك، باللغة اليابانية. فإنّ اليابان على الرغم من كل ذلك تسابق وتنافس أرقى دول العالم، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة الأمريكيّة. ثمّ ماذا يقول عبد العزيز فهمي وأمثاله من الزاعمين صعوبة اللغة العربيّة الفصحى والداعين إلى تسهيلها أو هجرها واستبدال العامية أو اللهجة المحلية بها لتحلّ محلّ لغاتهم، للانسلاخ كليا ًمن تاريخنا وأمجادنا وأصالتنا وتراثنا؟!!


إنّ أحدا ًمن اليابانيين – على حدّ علمنا – لم يقل إنّ حروفهم الكثيرة معقّدة ومتشابكة وصعبة على الفهم والحفظ، وعسيرة في الكتابة، فهي لذلك لا تواكب الحضارة ويجب إبعادها واستبدال غيرها بها.


إنّ ما نراه اليوم من الإقبال الشديد على اللغات الأجنبية وتعلّم مصطلحاتها واستخدامها في النداءات والمكالمات ولا سيّما في المطارات والشركات الكبرى، وإهمال الفصحى دليل خطير وبرهان واضح على استهواء الإنسان العربيّ للغة الأجنبي، وتعشّق قيمه وعاداته وكيفيّة معيشته وحتى لغته..!

                  أمّة قد فت َّ في ساعدها               بغضها الأهل وحب الغربا


وفي هذا ما فيه من على الأجيال ومستقبل الأمة الذي ائتمنا عليه.

وأنا هنا لا أُهوّن من شأن اللغات الأجنبية فإنّ تعلّمها واجب وضرورة عصريّة ودينيّة، {فمن تعلّم لغة قوم أمن شرّهم}، لكنني أعتب على الداعين إلى التوهين من شأن الفصحى واستبدال العاميّة أو اللغات الأجنبيّة بها.


ثمّ ماذا يقول فهمي وأمثاله في اللغة الصينيّة أيضا ً التي يبلغ عدد حروفها (4444) حرفا ً، وأنّ الآلة الكاتبة الصينية تتكون من {2200} حرفا ً فقط !...


وأنّ الصينيين، على الرغم من ذلك لا يدعون إلى تسهيل لغتهم كما يدعو هؤلاء بحجة أنّها صعبة تعوق التقدم والتطوّر ومواكبة الحضارة.


ولكن لا غرو.. إذا علمنا أن الدعوة إلى العامية في العالم العربيّ بدأت على يد مبعوث بريطانيا وليم ولككس عام 1883 م في مصر.


وفي لبنان على يد المستشرق الفرنسيّ لويس ماسينيون مستشار وزارة الخارجيّة الفرنسيّة لشؤون المستعمرات في الشرق، وأنّه لا يزال إلى اليوم من يجترّ هذه الدعوة الهدّامة، ويحاول النفخ فيها بين حين وآخر، مستهدفين تمزيق الأمّة وعزلها عن قرآنها الذي وحّدهم وجمع كلمتهم ذات مرة.




فضل القرآن الكريم




وليعلم الجيل الحاضر أنّ الرد على هؤلاء ينبغي أن يكون عملا ً جديّا ً وجماعيّا ً يتمثل بزيادة الاهتمام بالفصحى، والتركيز في دراستها دراسةً واعيةً ومستفيضةً، واستعمالها في مجالات الحياة كافّة، لتفوت على المتآمرين من المبشرين والمستشرقين وأذنابهم في شرقنا هذا غرضهم القريب، وهدفهم البعيد.


ولتعلم أجيالنا أيضا ً أن الفضل في الحفاظ على اللغة يعود إلى القرآن الكريم، فهو الذي صانها من التفكك والانقراض الذي أصاب غيرها من اللغات.


هذه اللغة التي هي أكثر لغات العالم ثراء ًوجمالا ًوعطاء ًوقدرةً على استيعاب المصطلحات العلميّة الجديدة تتعرض اليوم للانقراض والقضاء عليها بالسجن المؤبد أو الموت إن أمكن..! فماذا أنتم فاعلون تجاه هذا الخطر الداهم يا بناة الأجيال..! ويا سياج الوطن.. ويا حماة الديار وحرّاس القيم والعقيدة...! لقد اتخذ الأوربيون عداوة هذه اللغة طريقة انتحلوها، ومذهبا ًانتسبوا إليه، كما اتخذت محاولات الطعن على العربية أشكالا ًومظاهر شتّى، فهي عندهم ميّتة كاللاتينية، وهي عاجزة عن مواكبة الركب الحضاري، فقيرة من الناحية الإصلاحيّة، متحجرة التراكيب، عقيمة الكتابة مشوّهة الحروف، يجب دفنها والتفكير في استبدال غيرها بها، واصطناع حروف غير حروفها، ومن هنا كانت الدعوات المتتالية لإثارة اللهجات المحليّة وتشجيع العاميّات، وفسح المجال أمام اللغات الاستعماريّة من فرنسيّة وإنجليزيّة وروسيّة وإسبانيّة قصد التضييق على اللغة العربيّة وإحلالها محلّها.

إنّ هذا التصوّر المشحون بالعداء للغة العربيّة يحمل دون شك خلفيّة استعماريّة ظهرت معالمها بوضوح في الدعوة إلى العاميّة التي كانوا يطمحون أن يترجم بها القرآن. كما حدث للإنجيل في مصر، وهو صادر عن قوم معروفين بالعداء للإسلام الذي يتمثل باللغة العربية، ومعظمهم في الوطن العربي، وتقلّدوا مناصب سياسيّة مرموقة ودينيّة عالية.


فالدكتور ولهم سبيت الألمانيّ كان مديرا ً لدار الكتب المصرية، وكارل موكرس الألمانيّ أيضاً كان مديرا ً لدار الكتب وأحد كتّاب {دائرة المعارف الإسلاميّة} وسلدن ولمور، وباول: الإنجليزيان كانا قاضيين بالمحاكم الأهليّة بالقاهرة، ووليم ولككس الإنجليزيّ كان مهندسا ًللريّ بالقاهرة.

وقد جرّدوا لهذه الحروب السياسيّة التي اتخذت الدعوة إلى العاميّة سلاحا ً يراد به تفتيت قوّة كانت مجتمعة، أو تفتيت قوّة هي في طريقها إلى التجمّع.


يقول محمود شاكر، صاحب كتاب {أباطيل وأسمار} في مؤلفه هذا: {وكلّ الذين يغفلون عن هذه المعارك، ويعدونها معارك أدبية أي معارك ألفاظ كالدكتور مندور وأشباهه إنما يخاطرون بمستقبل أمّة قد ائتمنوا عليها}.


هذا الاهتمام لم يكن من أجل البحث العلميّ كما يزعمون، ولا من أجل حاجتهم إلى معرفة لهجات البلاد العربيّة التي تقتضي مصالحهم أن يعيشوا فيها ويتعاملوا مع أهلها، وإنما من أجل القضاء على الفصحى.


أنانية


كما أنّ فعل هؤلاء لم يكن انسياحا ًحضاريّا ً، ولا رغبة في توسيع رقعة الحضارة، وتعميم إشعاعها، ولكن كان يتسم بطابع الأنانيّة القاريّة التي تضع القارات الخمس، بكل ما تحفل به من طاقة بشرية في خدمة الإنسان الأوربيّ، والقارة الأوربيّة.


وأنانيّة الفكر الأوربيّ هذه تجرّد الفكر الحضاريّ من مقولته النظريّة التي تستهدف إقامة حضاريّة واحدة ووحيدة في العالم، إذ يلغي من حسابه خصوصيّات الشعوب، وطبيعة الأرض، والانتماء العرقيّ والحضاري في الوقت ذاته.


وهي بذلك تشدّ آفاق الحوار الحضاريّ والتكامل الثقافيّ بين الأمم الذي من أهمّ وسائله اللغات التي تمثل الخصوصيّات الحضاريّة للأمم، والتي تتنازع القوميّة، وبعد فرضها احتلالاً عقليا ًفي الشعوب التي ضعفت عصبيتها، وهذا الصنيع يتناقض تناقضا ًصارخا ًمع ما أقرّوه في بلدانهم. فقد ظلّ الأوربيون يحاربون اللهجات والعاميّات في أوطانهم ويدعون إلى الوحدة اللغويّة في البلاد.

يقول الراهب غريفوار: "مبدأ المساواة الذي أقرته الثورة يقضي بفتح أبواب التوظيف أمام جميع المواطنين، ولكن تسليم زمام الإدارة إلى أشخاص لا يحسنون اللغة القومية يؤدي إلى محاذير كبرى..!"

فيترتب على الثورة والحالة هذه أن تعالج المشكلة معالجة جدية، وذلك بمحاربة اللهجات المحليّة، وتنشر اللغة الفرنسية الفصحى بين جميع المواطنين.


كما جاء في بيان من مجلس الثورة الفرنسية: أيها المواطنون، ليدفع كلا منكم تسابق ٌمقدس للقضاء على اللهجات في جميع أقطار فرنسا، لأنّ تلك اللهجات رواسب الإقطاع والاستعباد وبقاياها ..!

وهم يدركون تمام الإدراك أنّها لا تعني قوميّا ً وسياسيّا ً غير تفكيك وحدة الأمة وتمزيق شعوبها والإكثار من كياناتها المتجزئة.


ولا تعني إسلاميّا ً غير خلق جيل بلا قرآن، وإنّ من مبادئ وعي الأمّة الإسلاميّة بذاتها أن تعي لغتها، وتحرص على رعايتها، إذ ما ذلت لغة قوم أو شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار.


ولهذا كان الأوربيّ يفرض لغته فرضا ًعلى الأمّة المستعمرة، ويشعرهم عظمته فيها ويستلحقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاما ً ثلاثة:


·      حبس لغتهم في لغته سجنا ًمؤبدا ً.


·      الحكم على ماضيهم بالقتل.


·      تقييد مستقبلهم في الأغلال التي يضعها عليهم فأمرهم من بعدها لأمره تبع.


هذا شيء يسير مما أطلعتك عليه، مما يدبّره أعداء هذه الأمة وأعداء لغتها من الأوربيين، ولا يزالون يحيكون المؤامرات ويجنّدون الطاقات للظفر بما يريدون، وتحقيق ما يستهدفون للقضاء على الإسلام ذاته وإخراج أهله منه، وهو الهدف الأبعد الذي لا يصرحون به، لكنّه أحيانا ً يظهر في فلتات أقلامهم وأقوالهم كما جاء في قول وليم جيفورد بلجراف السابق، حين دعا إلى إبعاد القرآن من حياة المسلمين، والقضاء على مكة...!


وما أصدق القرآن حين قال: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} البقرة 217.

ولقد خاب فألهم وطاش سهمهم، فإن الفصحى باقية، وسوف تبقى خالدة، محافظة على أصالتها وجمالها ورونقها، وعذوبة ألفاظها إلى ما شاء الله لها أن تبقى.. إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. لأنها لغة القرآن الكريم، جعلها الله تعالى لغة كتابه، واختارها من بين اللغات أجمع، فانتقى ربّ العزة اللغة العربيّة الفصحى للقرآن العظيم، واصطفى لرسالته محمّدا ً نبيّه الأمين، والقرآن محفوظ بحفظ الله، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر 9.


وعليه فإن اللغة العربيّة كذلك هي محفوظة بحفظ القرآن. هذه حقيقة قرآنيّة، وحقيقة تاريخيّة، وواقع نعيشه، وإن كان الناطقون بها أقلّ ممن ينطقون بالعامية.


فهي خالدة وإن تنكّر لها المتنكّرون أو تجاهلها المكابرون، فلتعِ الأجيال هذه الحقيقة وليفهم المتآمرون أنّهم إنما يرقمون على الماء...!


ثم إنّ القرآن أساس كيان هذه الأمّة، ومصدر عزّتها، وعنوان كرامتها، ومبعث مجدها، ومحقق سؤددها، (نحن قوم قد أعزّنا الله بالإسلام) قالها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، العربيّ الأصيل العريق في أصالته، ثم كانت كلمة باقية على مرّ العصور والدهور... وإلى اليوم.

أنّى لهذه الأمّة أن تتخلى عن دينها.. وكتاب ربّها، وقد قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} الزخرف 44، وإلّا فقل بربّك ما الذي يحفظ على الأجيال تاريخ أجدادهم الطويل الحافل بالأمجاد؟!.. وما الذي يضمن فهمهم لتراثهم وفخرهم بمجدهم التليد وصلتهم بماضيهم المشرق الوضّاء؟!..


ورحم الله شاعرنا الذي لخّص ماضي هذه الأمّة وأمجادها وبطولاتها في وطنها الكبير في أبيات عبّر فيها عن لسان حال الشباب المتّقد حماسة وشموخا ً فكان مما جاء فيها:


لنا العراق والشام

ومصر والبيت الحرام

نمشي على الموت الزؤام

نحن الشباب إلى الأمام إلى الأمام

نبني ولا نتكل ُ

نفنى ولا ننخذل

لنا يدٌ والعمل

لنا غدٌ والأمل


وقال آخر:


نفوس أباة وماض ٍ مجيد

وروح الأضاحي رقيب عتيد

فمنا الوليد ومنا الرشيد

فلم لا نسود ولم لا نشيد..؟


وما أكثر ما تغنّى به شعراء هذه الأمة مشيدين بعزم الشباب وعنفوانه وإقدامه، فأين حصيلة تلك الأمجاد والآمال العراض التي بنوها وتأملوا أن تكون الأجيال القادمة على مستوى المسؤوليّة لتحقيق تلك الطموحات والآمال..!؟


أعود لأقول: كان من مزاعم دعاة العامية واللهجات المحلية والإقليمية: أنّ العامل والفلاح والسوقي لا يفهمون الفصحى، وأنّ هذه اللغة لم تعد وافية بحاجات الناس ومتطلبات العصر الحديث، بل هي عاجزة عن مواكبة الركب الحضاري الناجم عن التطور السريع!..


نقول لهم: على رسلكم يا دعاة العامية لندعو لكم من سويداء قلوبنا (أن يكسركم الله ويكسر أمسالكم؟ بالسين لا بالثاء حين تقتضيه الفصحى، وبذلك يكون الدعاء عليهم لا لهم، ترى هل


يرضيكم هذا الدعاء باللهجة العامية التي تدعون إليها..!؟ ثمّ إ ن اتهامكم اللغة العربيّة بالقصور وعدم قدرتها على الوفاء بمتطلبات العصر وعجزها عن مواكبة التطوّر العلميّ والحضاريّ ، اتّهام باطل لا يستند إلى واقع أو منطق..!


أسباب القوة


يمكن أن يوجّه هذا الاتّهام إلى أيّ لغة أخرى حاشا اللغة العربية لعدد من الأسباب أجملها فيما يأتي:


إن اللغة العربيّة اليوم هي اللغة العربيّة بالأمس، وما قبل الأمس، بل ما قبل آلاف من السنين لغة


جميلة رقيقة حلوة، عذبة الوقع على الأسماع كما قال الشاعر:


لغة إذا وقعت على أسماعنا

كانت لنا برداً على الاكباد

ستظل رابطة تؤلف بيننا

فهي الرجاء لناطق بالضاد


تعشقها الأذن وتستمتع بها حروفاً وكلمات، نظماً ونثراً ، لوقعها الموسيقي العذب لغة بليغة تؤدي معاني كثيرة بألفاظ قليلة وعبارات موجزة مفهومة، حتى شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم – أفصح من نطق بالطاد فقال: {إنّ من البيان لسحراً وإنّ من الشعر لحكمة}.


عاصرت هذه اللغة الجاهليّة والإسلام، وكانت قادرة على الوفاء بمتطلبات العصرين على الرغم مما بينهما من مسافات زمنيّة، وعلى الرغم مما بين العصرين من تفاوت في جميع جوانب الحياة العمليّة، سواء منها ما يتعلّق بالإنسان أو بالحياة أو بالكون، وما أحدثه الإسلام من تغير في هذه الثلاثة أي: (الإنسان ، والحياة ، والكون) من حيث نظرته إليها، وما عجزت في العصر الإسلاميّ الذي تطوّر تطوّراً عظيماً وكبيراً عن العصر الجاهليّ في كلّ شيء، ولا سيّما في العقيدة والعبادة والنظام الاجتماعي والأخلاقي والسياسي والاقتصادي. بكلمة مختصرة: قلب الجاهلية رأساً على عقب، وأدت اللغة دورها في كل ذلك أتم ما يكون وأحسن ما يراد.


هذا الكمّ الهائل من التراث الذي خلّفه أجدادنا العظام، من شعر ونثر، وخطب ومقالات في مناسبات شتى، وأحكام فقهيّة وتشريعيّة، وتاريخ وأدب وجغرافيا...الخ. كيف تم ذلك كلّه لولا قدرة اللغة على الوفاء بحاجاتهم، والاستجابة لمتطلباتهم العلمية تلك؟ لقد كان الواحد منهم إذا أراد أن يشعر (يقول شعراً) كان يقول: إن الكلمات لتزدحم في ذاكرتي حتى لأحار في أيّها آخذ، وذلك لغزارة الألفاظ المترادفة التي تؤدي معنى واحداً في هذه اللغة دون غيرها، ورحم الله شاعر النيل حافظ إبراهيم الذي ردّ على هؤلاء الأدعياء أول نشأتهم على لسان اللغة العربيّة المظلومة حين قال:


وسعت كتاب الله لفظاً وغاية

وما ضقت عن آي به وعظات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلةٍ

وتنسيق أسماء لمخترعات

أنا البحر في أحشائه الدر كامن

فهل سألوا الغوّاص عن صدفاتي


اللغة التي استوعبت منهج الله لعباده في كتابه الكريم وقرآنه العظيم بألفاظه ومعانيه، وأدت المطلوب منها في بلاغة واضحة وبيان تام وإعجاز نادر، سواء في الإيجاز والاختصار، أو في الإسهاب والإطناب، حسبما يقتضيه الموضوع.


ونحن نعلم أن القرآن الكريم طرق في بيانه المعجز موضوعات شتى: عقيدة، وعبادة، ومعاملات، وتشريع، وتاريخ، وبيئة، إنسانيّة ونفسيّة أي (الكلام الذي يجري في نفس الإنسان أو يقوله في نفسه دون أن تسمعه أذناه) كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ}المجادلة: 8. وذكر القرآن فضلاً عما تقدم مخلوقات ماديّة مرئية محسوسة كالأرض وما عليها من جبال وأنهار وبحار، وإنسان، وحيوان، وجماد، وأخرى غيبية غير مرئية (ميتافيزيك) أي تجاوز عالم الإنسان والعالم المرئي المحسوس،   وعبر إلى ما هو غير محسوس أو لا يقع تحت الحس، فتحدث عن عالم الجنّ ، وعالم الملائكة، وإلى أبعد من هذه العوالم، مما يتعلق بعالم الموت الذي يسميه القرآن حيناً (عالم البرزخ) وحيناً (عالم الآخرة) وفرّق بين العالمين بألفاظ دقيقة، لأنهما ما عالمان مختلفان كاختلاف الجنين في بطن أمه عن عالم الإنسان في هذه الحياة الدنيا، ووصف كل ذلك وصفاً دقيقاً لم يُسبق إليه، وما كان للغة العرب يّة أن تبلغها لولا الوحي الذي أنزله الله على رسوله محمد ص لّى الله عليه وسلّم.


(وهذا تشريف للغة العربيّة وأيّ تشريف ...!).


هذه اللغة العظيمة وسعت كتاب الله لفظاً وغاية ووسعت تلك العوالم العجيبة بما فيها عالم الغيب والشهادة في ألفاظ دقيقة معبرة، وبلاغة واضحة، وإعجاز نادر. كيف استوعبت ألفاظها وقوالبها تلك المناظر الغريبة العجيبة (في الجنة أو في النار) لا غرو... إذا علمنا أنه كلام الله عز وجل الخالق العظيم الذي قال} وَعَلمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلهَا { البقرة 31 . فصبّ تلك المعاني والمرائي في قوالب لفظية بديعة رائعة حلوة عذبة رقراقة كالماء السلسبيل حتى لتكاد تعيشها وأنت في عالم الشهادة. لقد كانت هذه اللغة يوماً هي اللغة العالمية، وكانت المؤلفات لا تكاد تنشر إلا بها، كانت لغة دولية (بمصطلح اليوم) والأولى في العالم أجمع.


فما الذي حصل حتى صارت لغة مهجورة، متخلفة، سبقتها لغات لم يكن لها وجود...!؟


علينا أن نراجع حساباتنا مع أنفسنا ونوازن بين ماضينا الناصع، وحاضرنا المؤلم، ومستقبلنا الغامض الداكن .. لعلنا نتدارك تفريطنا فنؤدي بعض حقوق هذه اللغة علينا فنكون من أبنائها البررة.


ترى ماذا أعددنا للغتنا العربيّة الجميلة، نحن أبناء اليوم، وقد دخلنا القرن الحادي والعشرين عصر الإنترنت، والحاسوب، والإنسان الآلي، والأقمار الصناعية، وقنوات التلفزة، عصر السرعة والانفتاح


على العالم في نظام عالمي جديد؟


وماذا فعلنا لإدخال الفصحى في هذه البرامج الإلكترونية، والأقراص المجمعة لأنواع العلوم ومختلف


اللغات والفنون؟


وهل أخذت العربيّة الفصحى حقها وافياً من تلك البرامج، وتبوّأت مقعدها المناسب ومكانتها الجديرة بها بين لغات العالم...؟


وهل استوفت نصيبها من هذه الأقراص التي يضم كل قرص منها مكتبة كاملة وموسوعة علميّة؟ لنا وطيد الأمل في القائمين على المؤسسات العلمية، والمجامع اللغوية، ومن لهم الصدارة وبيدهم القيادة والتوجيه أن يفكروا في هذا الأمر بجدية أكثر، ويعملوا بإخلاص وصدق، فإن ناقوس الخطر


يدق، والفصحى تستغيث، وترنو ببصرها إليكم يا حماة الديار وحراس الوطن، ويا أيها الأمناء على


مستقبل الأمة ولغتها.. فإن أيتم واجبكم نحو أمتكم ولغتها فيها ونعمت وأنتم الأوفياء حقاً ، وإلا


فإن اللغة العربيّة ترفع شكواها ومعاناتها إلى الله تعالى العلي القدير قائلة بلسان حالها:


}إِنمَا أَشْكُو بَثي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ { يوسف 86 ، وهو سبحانه وتعالى خير الفاصلين.

تحميل