أين هم الناصحون؟
أين هم الناصحون؟
الدكتور محمود رمضان البوطي
كثيرة هي المنكرات التي شاعت، وألفتها نفوسنا حتى بتنا نشهدها في بيوتنا في أسواقنا في أعمالنا ولا تتحرك في قلوبنا حرقة ولا غيرة ولا حتى أسف؛ انتشر التبرج دون وازع، وأطلقنا العنان لأبصارنا دون رادع، وبات كشف الأجساد تقليداً معتبراً، وتلاشى خلق الحياء وصار في مهب الريح، الرشوة غدت عرفاً متبعاً، واستغلال حاجة المضطر بات عادة مستحسنة، وانطلقت الألسن بالكذب، وصارت الغيبة والنميمة فاكهة لكل مجلس، الهبوط الأخلاقي تحول إلى فضيلة، وعمَّ الفساد البلاد ودرج عليه العباد، وأصبح حرام الأمس مباحاً اليوم ..
وهكذا كثرت الأخطاء والمعاصي والطامات التي تواطأ على ارتكابها العباد بعد أن ألفتها نفوسهم. ثم تجول بطرفك بحثاً عن الناصحين فلا تعثر لهم على أثر، تصغي السمع فتجد أصواتهم قد خفتت، لكل منهم اليوم شأن يلهيه، فمنهم من شغلته همومه، ومنهم من شغلته أحلامه وآماله، ومنهم من شغله الكيد لأقرانه، وهذا يخشى على منزلته في قلوب الخلق أن تخدش، وذاك يخشى على سمعته أن تنال. لقد غدا التناصح بين الخلق من الأمور البائدة. وأحسنهم حالاً من يجلس ليخاطب المهتمين بحديثه، بكلام منمق لكن من خلف شاشة صغيرة كانت أو كبيرة.
فإن كان هذا واقعنا الذي لا يخفي على ذي لُبٍّ وبصيرة، فاعلموا أن مكمن الخطر اليوم أن تشيع المنكرات، ويكثُر الخبث، ثم ينشغل الناصحون عن واجبهم حتى يغدو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غريباً، وتغدو كلمات النصح التي يتوجه بها الناصح إلى المخطئين يتيمة.
ودونكم فتأملوا جملةً مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث تحمل في طيِّها من التحذير والوعيد ما ترتعد منه القلوب وتذهل له العقول.
من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والطبراني والبزار: «لتأمرُنّ بالمعروف ولتنهَوُنّ عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم».
ومن ذلك ما رواه أحمد والطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يعذب الخاصة بذنوب العامة حتى يُرى المنكرُ بين أظهرهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه».
ويوشك والله أن يحيق بنا ما حاق ببني إسرائيل يوماً، (لُعِنَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۢ بَنِیۤ إِسۡرَٰۤءِیلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُۥدَ وَعِیسَى ٱبۡنِ مَرۡیَمَۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا۟ وَّكَانُوا۟ یَعۡتَدُونَ ٧٨ كَانُوا۟ لَا یَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرࣲ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُوا۟ یَفۡعَلُونَ). سبب اللعنة: (كَانُوا۟ لَا یَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرࣲ فَعَلُوهُۚ).
إن كثرة المعاصي والمنكرات مصيبة، لكن عدم إنكار الألسن لها بعد أن ألفتها القلوب مصيبة أكبر. والله تعالى يقول: )وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[.
واعلم أن هذا الواجب لا يناط بعنُق العلماء أو ما يسمَّون برجال الدين فحسب، بل هو واجب يناط بأعناق كل المسلمين ذكوراً وإناثاً؛ الأب والأم، الجد والجدة، الموظف، العامل، رب العمل، الطبيب، المهندس، التاجر .. الكل مطالبٌ بتقويم الاعوجاج فيمن حمّله الله مسؤوليته، مهما علت مرتبته وثقافته ومهما تدنت، والنبي صلى الله عليه وسلم قال فيما صح عنه: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
فما بالنا اليوم أعرضنا عن هذا الواجب؟ بل باتت ثوابت الدين والذود عن حياضه آخر اهتمامات المسلمين؟
أين هم الّذينَ إذا سمعوا قولَ اللهِ عزَّ وجلّ: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ[، وجلت قلوبهم خشيةً وخوفاً؟ فنهضوا ناصحين وموجهين ومحذرين في بيوتهم وبين أهليهم وخلانهم.
كم من مسلم يخاف الله تعالى، ثم يرى المعصية في بيته، ويراها في عمله، ويراها في سلوك ابنه ولباس ابنته .. ثم لا يكلف نفسه عنتاً في نصحهم أو توجيههم.
في حين كان المسلم من الرعيل الأول - ذكراً كان أم أنثى، عالماً كان أم جاهلاً - يعُدُّ نفسه رجلاً من رجال هذا الدين. من لحظة بايع الله ورسوله ودان بعقيدة (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، يسخِّر حياته في سبيل نصرة شريعة سيد المرسلين تعلماً وتعليماً ونصحاً وإرشاداً.