مميز
EN عربي
الكاتب: الشيخ خاشع حقي
التاريخ: 04/10/2010

الربا بين تحريم الدّين وتحريف المبطلين

مقالات

الربا بين تحريم الدّين وتحريف المبطلين


بسم الله الرحمن الرحيم

الربا من حيث بعده الزمني (أو تاريخياًً) قديم قدم الشعوب التي ترعرعت على هذه الأرض منذ فجر التاريخ, فقد كان يتعامل به (الرومان والفرس وقدماء المصريين واليونان والإغريق) وغيرهم من الشعوب في قارات الأرض جميعها ومنها (أهل الجاهلية في الجزيرة العربيّة) وكان الله عزّ وجلّ يبعث إليهم الأنبياء والرسل بين الحين والآخر محرّماً (الربا).

فهو محرّم في جميع الرسالات السماوية والكتب التي أنزلها الله على أنبيائه من البشر وفي مقدمتها الكتب الثلاثة (التوراة والإنجيل والقرآن) فهو ليس ظاهرة جديدة كما يقول بعضهم. ولكن لم يحدث أن تعامل الناس به على هذا النطاق الواسع كما نراه اليوم, لذلك لا بدّ من أن تكون هناك أسباب جعلته ينتشر على هذا النطاق العالميّ.

ونشير هنا إلى أهمّ الأسباب:

فمن أهمّها على الإطلاق (دور اليهود) الفعّال بما يملكون من أموال وأملاك وثروات استطاعوا بقوتهم المادّية (المالية) السيطرة على البنوك والمصارف والمؤسسات الربوية التي كانوا يديرونها ويشرفون عليها ولا سيّما في (أوربا). علماً أن الله عزّ وجلّ حرّم عليهم (الربا) تحريماً قاطعاً, والتوراة التي بين أيديهم اليوم (رغم ما حدث فيها من تغييرات شنيعة) ما تزال تحمل نصّاً بتحريم الربا ونصّاً بوجوب الأمانة في التعامل مع الناس.

ومع هذا الوضوح فاليهود – كما هو معلوم – يتعاملون بالربا على النطاق الدوليّ ويسلبون عن طريقه أموال الناس بغير حقّ, وإلى ذلك يشير القرآن الكريم, قال تعالى: }فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً{160} وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً{161}النساء:160-161, فكيف تحايلوا على النص الموجود في كتابهم أو بعبارة أخرى كيف حرّفوه ليبيحوا لأنفسهم التعامل بالربا مع الناس وسلب أموالهم بغير حقّ...!؟

قالوا: إن الربا غير جائز في التعامل بين اليهود وكذلك الأمانة واجبة في تعامل اليهود بعضهم مع بعض (وهذا تحريف المعنى: أي أنهم أبقوا على اللفظ وغيروا مفهومه) كما قال تعالى عنهم: { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}(المائدة:41).

أمّا إن كان الذي تتعامل معه من غير اليهود فلا بأس عليك أن تتعامل معه بالربا ولا بأس أيضاً أن تأكل ماله. وإلى ذلك يشير قوله تعالى: }ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ{(آل عمران:75), والأميّون هم العرب ثم عمّموه على كل من ليس يهودياً.

وهذا التحريف منهم لبعض أحكام التوراة لا يمكن أن يكون من عند نبي الله موسى عليه السلام لأنه مبعوث كغيره من الأنبياء للإصلاح والرحمة.

والله عز وجل ليس ربّاً محليّاً لبني إسرائيل كما يدعون (إله بني إسرائيل)، يعطف على مدينهم فيحرم عليه أخذ الربا منه, ويقسو على المدين من الأمم الأخرى فيبيح ماله للمرابين... قال تعالى عن نبيه موسى عليه السلام:}قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ{(القصص:17).

وحرب الإبادة التي تقوم على إهلاك الحرث والنسل وحصد الأطفال والنساء والشيوخ هذه الحرب المجرمة لا يمكن أن يوعز أو يرضى بها موسى نبيّ الله عليه الصلاة والسلام.

قال تعالى: } كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ{(المائدة:64).

وتفكّر معي في كلمة (يسعون) وكيف إنها جاءت فعلاً مضارعاً والفعل المضارع عند علماء العربيّة يفيد الاستمرار والديمومة, وكلمة فساداً جاءت نكرة والنكرة تعمّ فهي تشمل كل أنواع الفساد, وانظر إلى اليهود في العالم اليوم فهم يبعثون الأفكار الهدامة الداعية إلى الإلحاد ونظريات عن الجنس التي تدعو إلى التحلّل من الدّين والأخلاق بحجة إنها تسبب الكبت الجنسيّ والعقد النفسيّة والعصبيّة وهم الذين أشرفوا على الحركة الصناعيّة الرأسماليّة في أوروبا يشغلوا فيها أموالهم بالربا وعن هذا الطريق سيطروا على كل نواحي الحياة الأوروبيّة فأفسدوا فيها مفاسد جمّة, ينشرون كل رذيلة باسم التقدم والحضارة تارة ً وباسم الحرية الشخصية تارةً أخرى([1]).

عود على بدء: فما هو الربا؟ وما الحكمة من تحريمه؟ وما حكمته التي تنبني عليها الأحكام حلاً وحرمة ً؟ وما البديل عنه أو المقترح.

هذه هي النقاط التي سنتعرف عليها ونشرحها بشيء ٍ من البيان والتفصيل.

الربا كما عرفه العلماء في هذا الشأن من الفقهاء هو: كل زيادة بين بدلين من جنس ٍ واحد من نقد ٍ أو مطعوم ويندرج تحت هذا المفهوم أو التعريف نوعان للربا:

أحدهما: ربا الفضل: وهو كل تبادل بين مطعومين أو نقدين من جنس واحد مع زيادة أحد البدلين على الآخر, كمبادلة كيلو غرام من القمح الجيد بكيلوين من القمح الرديء.

والثاني: ربا النسيئة: وهو كل زيادة يؤديها المدين إلى الدائن على رأس ماله المستحق نظير مدة معلومة مؤجلة – كثيرة كانت الزيادة أو قليلة...

وهناك أنواع أخرى للربا – ربما وصلت إلى سبعين نوعاً – صرفنا النظر عنها خشية الإطالة – ولأن النوعين المذكورين هما الأكثر شيوعاً وتعاملا بين الناس ولا سيّما النوع الثاني وهو (ربا النسيئة).

والربا بنوعيه أو أنواعه حرام حرّمه الله في كتابه العزيز إذ جاء تحريمه في ثلاثة مواضع منه وعلى ثلاث مراحل: أي أنه لم يحرم رأساً ودفعة ً واحدة إنما سلك التشريع في تحريمه مسلك التدرج شأن الخمر لأنه كان نظاماً تدور عليه عجلة الاقتصاد في التعامل بين الناس.

وكان من الصعب بل من المتعذر إبطاله أو تحريمه بجرة قلم ٍ أو أمر ٍ آني سريع. والحكيم الباري والعليم بالنفوس والسبيل إلى إصلاحها وأحوال عباده هو الذي سلك

معهم هذا المسلك الذي يجدي فيهم لينتهوا عنه, وهو أقوم سبيل وخير علاج للنفوس التي ألفته واعتادت عليه: }أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ{(تبارك:14).

وأول مواضع التحريم من الآيات المكية التي نزلت في مكة هو قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ }(الروم:39), فكان هذا مقدمة وتمهيداً للتحريم مستقبلاً.

أما الموضع الثاني: فكان تحريماً لبعض أنواعه (أي تحريماً جزئياً) نص عليه القرآن الكريم وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }(آل عمران:130).

وهذه الآية أشكلت على الكثيرين حقيقة الربا ممن لا علم لهم ببقية الآيات إذ يقول أحدهم إن الربا محرمٌ ما كان أضعافاً مضاعفة بناءً على صريح الآية فإذا انتفى الضعف كان حلالاً ولما كانت المؤسسات الربوية (من مصارف وبنوك) ومعاملات أخرى لا تتعامل مع المقترضين بالضعف إنما بشيء رمزي قد يكون 3 % أو أقل أو أكثر بقليل لذا كان حلالاً. هكذا يعللون ويحللون...!؟

وهذا بلا شك خطأ كبير وإثم عظيم يقع فيه هذا الفريق من الناس إذ لم يكلفوا أنفسهم بمراجعة الآيات الأخرى في موضوع الربا فجهلوا أو تجاهلوا فاكتفوا بهذه الجزئية من الآيات الكريمة فأصدروا حكمهم ذاك فوقعوا في الخطأ الجسيم... كمن يقرأ قول تعالى: (ولا تقربوا الصلاة...) ويقفوا عليها ولا يتم الآية وهو (..وأنتم سكارى) وكان عليهم ألا يتسرعوا في حكمهم بالتحليل قبل مراجعة الآيات المتعلقة بالموضوع، فالقرآن يفسر بعضه بعضاً، أو أن يسألوا أهل العلم في هذا الشأن كما قال تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(النحل:43).

فالربا المضاعف في الآية السابقة كان مرحلة أولية لتحريم الربا كما سيتبين معنا في المرحلة الأخيرة منه.

أما الموضع الثالث: فقد ختم به التشريع محرما الربا تحريماً قاطعاً بجميع صنوفه وأنواعه مهما كانت نسبة الفائدة.

قال تعالى: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}(البقرة:276). وقال جل ثناؤه: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{278} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ{(البقرة:178-179).

ثم جاء تحريم الربا مؤكداً ومتوعدا فاعله بالخلود في النار، قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(البقرة:275).

فقطعت هذه الآية الكريمة قول كل من يقول بحلية الربا على حد المثل القائل: (قطعت جهيزة قول كل خطيب)، مع الفارق الكبير بين كلام الله عز وجل المعجز وبين المثل من كلام البشر.

حكمة تحريم الربا: والمؤمن لا يمتنع عن التعامل بالربا من أجل حكمه إنما تعبداً وطاعة ً مطلقة لخالقه الذي حرمه ونذكر هذه الحكم لأولئك الناس الذين يبحثون عن الحكمة ويقولون لماذا..؟

ذكر العلماء عدداً من الحكم لتحريم الربا مستنبطينها من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة وواقع المجتمعات البشرية التي تتعامل بالربا فمن ذلك:

عدم انسجام الربا مع قاعدة الكسب الحلال التي تقوم على ألا يعطي المجتمع الفرد إلا بمقدار ما يعطي الفرد المجتمع من العمل النافع والجهد المبذول وهو ما يسمى بالتقابل بين الجهد والثمرة.وفي حال انعدام الجهد والعمل ينعدم حق الثمرة والأجر.

انهيار اقتصاد المجتمع بسبب تلكؤ الدائن عن العمل وخلوده إلى الكسل طمعاً في ربح الفائدة وإرهاق المدين بالالتزامات الربوية.

انهيار أخلاق المجتمع لانعدام التعاون بين أفراده بسبب العلاقات الربوية وهذا بدوره يؤدي إلى تفسخ المجتمع وشيوع الأثرة والأنانية بدلاً من التضحية والإيثار.

يسبب وجود طبقتين متنازعتين في المجتمع، طبقة المتحكمين برؤوس الأموال وطبقة المستضعفين الذين أوكلت جهودهم وأتعابهم من غير حق...!

وقد كان أهل الجاهلية العربية قبل الإسلام يعطون المائة حتى إذا حل الأجل, فأما يدفع المدين وأما يزيد في الدين... وهكذا حتى يصبح أضعافاً مضاعفة وهو المسمى بـ (ربا النسيئة) أو الربح المركب.

وضابطه: كل قرض جر نفعاً في مقابل النسيئة أي التأخير في الأجل سواء ً كانت منفعة ً نقداً أو عيناً كثيرة أو قليلة وعلى هذا فالتعامل مع المصارف بفائدة 3% أو 4 % مثلاً أو أقل أو أكثر هو (ربا النسيئة) لقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ }(البقرة279(, أي بدون زيادة أصلاً.

وهنا قد يقول قائل: إذا ما الفرق بين الفائدة التي يأخذها صاحب المال على رأس ماله نظير مدة مؤجلة معلومة وهي حرام, وبين استئجار الأدوات والآليات والبيوت والأراضي الزراعية وأجرها حلال...!؟

وللجواب عليه نقول: الفارق هو أن الانتفاع برأس المال المقرض لا يؤدي بطبيعته إلى استهلاك شيء ٍ منه أو من العمل المتجسد فيه لأن المقترض (المدين) مسؤول بحكم القرض عن دفع المبلغ الذي استلمه مضيفاً إليه الفائدة في الوقت المحدد.

بينما انتفاع المستأجر بالأداة أو الآلية أو الدار التي استأجرها خلال عملية الإنتاج يؤدي إلى استهلاكها بوجه ما, واستهلاك العمل المتجسّد فيها، ولذلك كان لصاحب الأداة أو الآلية أن يحصل على كسبه عن طريق إيجار الأداة بسبب العمل المنفق والجهد المستهلك.

ولم يكن للرأسمالي أن يحصل على كسب من هذا القبيل لأنه يسترجع ماله كما هو من غير استهلاك مضافاً إليه الفوائد التي ترتبت على رأس المال خلال الزمن (طال أو قصر).

وقد أخطأ أولئك الاقتصاديون في تبريرهم للربا، مثل: تبرير الفائدة بعنصر المخاطرة, أو تبريرها على أساس أنها تعويض للرأسمالي على حرمانه من الانتفاع بالمال المقرض ومكافأة له على انتظاره طيلة المدة المتفق عليها والتي انتفع أثناءها المدين بالمال الذي اقترضه أو بوصفها تعبيراً عن حق الرأسمالي في شيء من الأرباح التي جناها (المقترض) عن طريق ما قدم إليه من مال أو بوصفها تعبيراً عن الفارق بين قيمة السلع الحاضرة وقيمة السلع المستقبلة أو بسبب انخفاض سعر العملة (التضخم).

ورغم كل ذلك فإن الإسلام لم يقرأ أي كسب لا يبرره اتفاق عمل مباشر مختزن.

والفائدة أو الربا من هذا القبيل أوضحه الاقتصاديون من علماء الإسلام وقالوا: (المال لا يولد المال) إنما يولد إذا تزوج العمل.

وينظرون إلى النقدين الذهب والفضة على أساس أنهما يكونان مقصورين على التعامل فقط أي: وسيلة للتعامل بين الناس وقضاء مصالح العباد, فالناس يحتاجون إلى النقد ليكون أداة للتبادل.

أما استغلال المال بالمال فلا يقرّه الشرع ولا يرضاه الله لعباده لأنه يؤدي إلى حيازتهم له وتكديسه في خزائنهم وصناديقهم ووقوف حركة الأعمال والتثمير بين الناس وانهيار قيمتها وشيوع البطالة والكساد في الأمة كما يقول (الإمام الغزالي) رحمه الله تعالى.

ومن ذلك يتضح أن الربا يعتبر عائقاً من أهم العوائق التي تقف عثرة في وجه التقدم والتنمية الاقتصادية.

وهذا ما أثبته أيضاً آراء كثيرة من الاقتصاديين في القرنين (الثامن عشر والتاسع عشر)، إذ يعتبره (الاشتراكيون) نوعاً من أنواع السرقة والاغتصاب. فهم يشيرون إلى أن الرأسمالي هو أول من يمتلك الثروة الجماعية, علماً أنه ليس ثمة قانون أسبغ عليه حق هذه الملكية ويحدث ذلك عن طريق أخذ الفائدة على رأس المال, ولذلك فلا عجب أن حاول بعض المشرعين في ذلك الوقت في أوربا أن يمنعوا هذا الحق عن طريق سن قوانين ضد الربا.

علة الربا: حاول بعض العلماء في العصر الحديث (باسم التجديد) أن يبرروا أعمال المصارف والبنوك وأنظمتها بدعوى أنه ليس فيها استغلال أو جشع فحللوا الربا وهو حرام([2]).

سئل الإمام (أحمد بن حنبل) رحمه الله تعالى: ما الربا الذي لا يسع مسلماً أن يجهله؟

فقال: (أن يعطي الرجل ديناً ويزيد في الأجل نظير الزيادة في الدين, وأن من ينكر أمراً علم من الدين بالضرورة يكون خارجاً عن الإسلام).

وهذا النوع (ربا الديون) هو أقوى أنواع الربا – وهو حرام – لا شك فيه – لا يسع مسلماً أن ينكره أو يجهله لكن مع الأسف الشديد فإن كثيرين كتبوا في الربا وحللوا وحرموا بغير ما أنزل الله, ومنهم من بلغ مرتبة تجعلهم مسؤولين أمام الله وأمام الناس, فضل عنهم فهمهم الربا وأضلوا الناس.

ولم يكن جهلهم لضرورة يعذرون منها (كما يقول الشيخ محمد أبو زهرة) رحمه الله تعالى بل كانت بين أيديهم أسباب العلم فتركوها ليتعلقوا بما يرضي الناس ولا يرضي الله....!

وليس تحريم الربا بسبب الجشع أو الاستغلال – كما قالوا – إنما بسبب الزيادة وهي على الربا فأي زيادة يأخذها صاحب رأس المال (مصرفاً أو غيره) على القرض بسبب التأجيل وهو المدة الزمنية المتفق عليها بين الطرفين, وكل فائدة ربا.

أما ما ذهبوا إليه معللين به التحريم (وهو الاستغلال أو الجشع أو كلاهما) فهو الحكمة من تحريمه لا العلة.

أما على الحكم فهي وصف في الأصل بني عليه حكمه ويعرف به وجود هذا الحكم في الفرع, فالإسكار وصف في الخمر بني عليه تحريمه ويعرف به وجود التحريم في كل نبيذ مسكر أو شراب مسكر.

ومن المتفق عليه بين جمهور علماء المسلمين أن الله تعالى ما شرع حكماً إلا لمصلحة عباده فالباعث على تشريع الحكم هو الغاية المقصودة من تشريعه وهو (حكمة التحريم).

وكان المتبادر أن ينبني كل حكم على حكمته وأن يرتبط وجوده بوجودها وعدمه بعدمها لأنها هي الباعث على تشريعه والغاية المقصودة منه.

ولكن رئي بالاستقرار أن الحكمة في تشريع بعض الأحكام قد تكون أمراً خفياً غير ظاهر أي لا يدرك بحاسة من الحواس الظاهرة فلا يمكن التحقيق من وجوده ولا من عدم وجوده ولا يمكن بناء الحكم عليه ولا ربط وجوده باستثمار هذا المال فليس المصرف سائلاً مضطراً ولا مسكيناً ولا مبتلى حتى يتصدق عليه الناس فلا يوجد هنا ضعيف يستغله شخص آخر جشع فأرى هنا أن الربا ليس المقصود به المعاملات المصرفية...!؟

بوجوده وعدمه بعدمه, مثل: إباحة المعاوضات التي حكمتها دفع الحرج عن الناس بسد حاجتهم, فالحاجة أمر خفي ولا يمكن معرفة أن المعاوضة لحاجة أو لغير حاجة فاعتبرت صيغة العقد مناطا لحكمته لأنها عنوان تراضي الطرفين المتعاقدين.

وقد تكون الحكمة أمراً تقديرياً غير منضبط فلا ينضبط بناء الحكم ولا ربطه وجوداً وعدماً. مثاله: إباحة الفطر في رمضان للمريض, حكمتها دفع المشقة, وهذا أمر تقديري يختلف باختلاف الناس وأحوالهم, فلو بني الحكم عليه ولا ينضبط التكليف ولا يستقيم.

فلأجل حكمة التشريع في بعض الأحكام وعدم انضباطها في بعضها الآخر لزم اعتبار أمر آخر يكون مناسباً لحكمته ظاهرا ومنضبطاً ينبني عليه الحكم ويربط وجوده بوجوده, وعدمه بعدمه بمعنى أنه فظنه لحكمته, ولأن بناء الحكم عليه بين حكمة من شأنه أن يحققها هو المراد بالعلة في اصطلاح الأصوليين. فالفرق بين حكمة الحكم وعلته هو:

أن حكمة الحكم: هي البعث على تشريعه والغاية المقصودة منه وهي المصلحة التي قصد الشارع بتشريع الحكم تحقيقها أو تكميلها أو المفسدة التي قصد الشارع بتشريع الحكم دفعها أو تقليلها.

وأما علة الحكم: فهي الأمر الظاهر المنضبط الذي بني عليه الحكم عليه, وربطه وجوداً وعدماً لأن الشأن في بنائه عليه وربطه به أن يحقق حكمة التشريع أي لحكمه وهو أمر تقديري غير منضبط لا يمكن بناء الحكم عليه وجوداً وعدماً فاعبر الشارع السفر مظلة تحقيق حكمته لأن الشأن في السفر أنه توجد فيه بعض المشقات, فحكمة قصر الصلاة الرباعية للمسافر دفع المشقة عنه وعلته السفر.

وعلى هذا فجميع الأحكام الشرعية تبنى على عللها لا على حكمها, فمن كان في رمضان على سفر يباح له الفطر لوجود على إباحته وهي السفر وإن كان في سفره لا يجد مشقة ومن كان في رمضان غير مسافر ولا مريض لا يباح له الفطر وإن كان عاملاً في محجر أو منجم ويجد من الصوم أقسى مشقة،

لكنه إذا تعذر عليه أن يتم صومه بسبب مشقة نالته (كعطش شديد) أفطر عندئذ([3]).

ثم ماذا يقول هذا الفريق من العلماء المعللين تحريم الربا بالاستغلال والجشع...!

أجل ماذا يقولون في (السلم) أو (السلف)...!؟ أليس أيضاً فيه استغلال من طرف قوي لطرف ضعيف, لأن السلم – كما هو معلوم – (هو عقد على بيع معدوم موصوف في الذمة) و(المسلم) بكسر اللام محتاج ومضطر ومستغل ,(والمُسْلم إليه) بفتح اللام هو صاحب رأس المال مستغل وجشع, هذا بناء على تعليلكم, فيكون عقد (السلم) حراماً في هذه الحال لأن الاستغلال فيه واضح والجشع ظاهر, في حين أن الشرع أباحه ورخص فيه..!

فاتقوا الله يا علماء الدين... يا ملح البلد... ولا تجعلوا من الدين مبرراً لأعمال الخارجين على أحكامه وقنطرة لكل مارق منه فإن الله تعالى سائلكم عما استرعاكم...! يقول الشيخ (عبد الحليم محمود) رحمه الله تعالى – شيخ الجامع الأزهر سابقاً: ما من شك في أن الإنسان منذ أن وجد على ظهر يحاول أن ينزع نزعة بشرية بحتة ويتصرف في الوحي نقصاً وزيادة. وتغييراً وتبديلاً, فيقول مثلاً: إن الحكمة في تحريم الخمر إنما هي المفاسد التي من الشيخ الشارب فإذا انتفت تلك المفسد فلا مانع من شرب الخمر... أو يقول: إن التكاليف الشرعية إنما جاءت لإصلاح الضمير فإذا كان الضمير صالحاً فلا لزوم للتكاليف الدينية...! أو يقول: إن أعمال العبادة إنما هدفها التقرب إلى الله فإذا حصل القرب فلا حاجة إليها... وهكذا يخرج الإنسان بأهوائه – لا بعقله – عن الدين،

لأن كل ذلك أهواء يصورها الشيطان كأنه منطق معقول([4])...!؟

البديل عن الربا: رغم انتشار الربا في العالم فإنه لا يعني الاستسلام أو عدم وضع العلاج المناسب, وقد يكون أفضل علاج لهذه المشكلة هو تأميم المصارف ووضعها في ملكية الدولة أي أن الدولة تقوم باستثمار المال على أساس غير ربوي ولا تأخذ فائدة على المال إنما تأخذ أجراً للعاملين في الحق الاقتصادي (رواتب) إن صح التعبير.

كما هو الشأن في جباة الزكاة (العاملين عليها) وتقرض القرض بلا فائدة للمحتاجين وتستثمر الأموال المودعة لديها في المشاريع التي لا يحرمها الشرع – وهي كثيرة – وبذلك يمكن الاتجاه نحو بناء اقتصادي إسلامي يعتمد على نظام يوائم بين فطرة الإنسان وهي (حب التملك وحب المال) الخاص به وبين مصلحة الجماعة أو المجتمع محرراً الإنسان من استغلال أخيه الإنسان ومن عبادته المال، فلم يجعله هدفاً لذاته وإنما وسيلة لتحقيق غايات ومصالح لا تتم إلا بها ويحقق بذلك العدل الاجتماعي من التكافل والتعاون والعلاقات الاقتصادية السليمة والروابط الرحيمة بين بني الإنسان في نظام عالمي بلا جشع ولا استغلال ولا كراهية.

وأخيراً فها هي بشرى التخلص من البنوك (الربوية) تزف إلى العالم إذ أن ما يلفت نظر المراقبين الاقتصاديين والمتخصصين في هذه البنوك اليوم أن شبكة من البنوك الإسلامية (اللاربوية) قد ظهرت على الساحة وبدأت بإعمالها ومنافستها لها وبقوة آخذة ً في طريقها إلى العالمين (العربي والإسلامي).وهي تقوى وتشد يوماً بعد يوم رغم العراقيل التي تواجهها, وفي مقدمتها (المؤامرات العالمية من يهودية وغربية ورأسمالية) وغيرها لتمنعها من الانطلاق لكنها ماضية في سبيلها وغير عابئة بها. وقد حققت نجاحاً كبيراً, وكسبت ثقة المتعاملين معها والمساهمين فيها, ولسوف يمتد نسيجها – إن شاء الله تعالى – حتى تعم العالم أجمع لتطهره من (الربا المحرم). وآفاته القاتلة وآثاره النجسة وتجنب المجتمعات البشرية حرب الله ورسوله. قال تعالى: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) ومن أصدق من الله قيلا....!؟

وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ملاحظة: لم أشأ أن أذكر الأحاديث النبوية الشريفة في هذا الموضوع – وهي كثيرة – لئلا يطول البحث ويتشعب الموضوع ولأن الآيات القرآنية الكريمة التي ذكرتها فيها الغناء كل الغناء...

والحمد لله رب العالمين.

تحميل