إذا أردت أن تعرف نعمة الله عليك فاغمض عينيك
إذا أردت أن تعرف نعمة الله عليك فاغمض عينيك
م. وسيم النحلاوي
مقولة ترددت على مسامعي منذ الصغر، ورغم يقيني بصحتها وعظمة تلك النعمة، إلا أنني لم أتعايش معها بحق حتى عشت تجربةً تغني عن ألف كلمة، فرب تجربة حسية أغنت عن عشرات المؤلفات، ومن ذاق عرف، ونسأل الله له الهداية.
ذهبت إلى معرض لـ "غير المرئيات" حيث يعيش الشخص تجربة كفيف البصر بكل حيثياتها: ظلام دامس، اعتماد على بقية الحواس في التعرف على كل تفاصيل الحياة، من التعرف على أثاث البيت، الى عبور الشارع إلى التسوق في المراكز التجارية .. كل احتياجات الانسان اليومية كان عليّ أداؤها من دون الاعتماد على حاسة البصر المعطلة نهائياً خلال هذه التجربة التي استمرت لمدة ساعة كاملة.
ستون دقيقة، ضاق فيها الصدر، وكم تعثرت خلالها بما صادفني من أثاث وعقبات، تحولت ببساطة من إنسان توهّم أن له بعضاً من الحول أو القوة إلى عاجز لا يكاد يستطيع المشي. لقد راعني أولاً اعتمادنا الكلي على حاسة البصر لتوفرها حتى أصبحت بقية الحواس مجرد أدوات ثانوية لا ندرك أيضاً مدى فاعليتها. فطوال تلك الجولة: رافقنا مرشد من المبتلين بكف البصر، والعجيب أنه كان مبصراً بكل معنى الكلمة: إذ حباه المولى سبحانه بملكة الاعتماد على حواسه الأخرى لتعويضه عن فقدان حاسة البصر، فهو يشم ويلمس ويسمع ويمارس حياته كإنسان اعتيادي ويمارس أنشطته اليومية من تسوق وتعلم دون أن يعيقه افتقاد هذه النعمة والأهم من هذا كله... حباه الله بنور في بصيرته وقلبه، فرغم الظلام الدامس الذي كنت فيه: إلا أني شعرت بصوته وهو يشرح لنا حياته اليومية أن في قلب هذا الإنسان من الرضا والطمأنينة ما يفتقده الكثير من المبصرين بصراً وليس بصيرة ومن أوتي الرضى فقد أوتي حظاً وافراً من السعادة كان هذا الشاب يمسك بأيدينا لنتجاوز عقبات الطريق المظلم، وقد أصبحنا نحن المبصرين- في عالمه عميانا وهو المبصر الوحيد بيننا - لقد أبصر بنور الرضا والحب.
وأسأل الله له الهداية
الرحلة الحقيقة بدأت بعد خروجي من المركز، إذ أنني بداية شعرت بعبء وجودي في ظلمة حالكة لساعة كاملة. ولمّا كنت قد فهمت بعد مغزى تلك الرحلة في عالم الظلام. حتى ابتعدت عن المركز وكان المكان قريباً من تلة كساها الثلج من يومين، وبدأ بالذوبان اعتماداً على أشعة الشمس التي انسكبت أشعتها على حواف التلة. أكاد أقول أنها من أجمل مناظر حياتي التي شاهدتها رغم أنها بالتأكيد ليست الأجمل. فالجمال أمر نسبي، وما رأيته حينئذ كان تذكيراً لي بالنعمة العظيمة التي مكنتني بالتنعم بهذا المنظر البديع.
البصر .. يالله يالها من نعمة، فهي ليست فقط لقضاء الحوائج، بل وجدت فيها وسيلة وضعها الله عز وجل في عباده ليمتعهم بعظيم ما خلق. ما زلت أذكر في ذلك اليوم أني صرت أمشي وألتفت طول الطريق محاولاً التقاط ما استطعت من محاسن ما خلق المولى كالجائع المحروم الذي عرض عليه أصناف الطعام بعد طول جوع رغم أنني كل يوم أمر على شيء مشابه لكت التعود على النعم أفقدني لذة الشعور بعظمتها ... وأدركت أيضاً أن النور الذي قذفه المولى سبحانه في قلوب أغلب كفيفي البصر قد يحصل عليه المبصرون أيضاً إذا أدركوا قيمة وعظمة النعمة التي هم فيها والتي تعجز السطور والكلمات على وصف عظمتها.. فبالبصر نرى، ونشم، ونتعلم، ونلمس، ونفهم حقائق هذا الكون، وكم نعمة مبدؤها العين. صدق القائل في كتابه (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).
اللهم لاتكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
إن من أبرز الحكم التي من أجلها خلق الله سبحانه الابتلاء هو الشعور بوجود النعمة عند فقدها، فالفقد المؤقت لنعمة ما عند الابتلاء، ما هو إلا رسالة خفية من رب العالمين إلى الإنسان أن يا عبدي، تذكر أني قد أفضت عليك بالنعم الكثيرة حتى اعتدت على وجودها وكأنها متأصلة في وجودك ولست أنا الذي أمدك بها لحظة فلحظة. فبالمرض تستفيق من غفلة دوام الصحة وتتذكر نعمة العافية وبالخوف تستشعر نعمة الأمن التي كنت تنعم فيها دون شكر، وهكذا .. ولعل من أجلّ النعم التي منّ الله بها على عباده هي نعمة البصر.
فاللهم عرّفنا نعمك بدوامها وارزقنا شكرها على النحو الذي أمرت يا رب العالمين.