كلمة شهر شعبان
- الحمد لله رب العالمين وأفضل الصَّلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين..
- بقطع النظر عن ليلة النصف من شعبان؛ فشهر شعبان شهرٌ متميز من أشهر العام.. وكان رسول الله r يحفل به بعد شهر رمضان كما لم يحفل بأي شهر من شهور العام...
فرصةٌ بين يدي شهر رمضان المبارك تتمثّل في هذا الشهر الذي يغفل عنه كثير من الناس كما قال رسول الله r.
هذا الشهر الذي تحولت فيه القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرّفة، وانشقّفيه القمر، وفرض فيه ركنا الصيام والزكاة، وتم فيه نزول قوله تعالى: )إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّون عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً((الأحزاب/56)
هذا الشهر الذي تُقَدَّر فيه الأرزاق وترتفع فيه الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى..ويرحم الله فيه المسترحمين.. ويغفر لعباده المستغفرين..
هذا الشهر شهر يعتق الله سبحانه وتعالى فيه أعداداً لا يحصيها إلا الله سبحانه وتعالى من النار..
- ولقد روى سيدنا أسامة بن زيد tعن النبي r أن سأله قائلاً: لم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: (ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين عز وجلّ، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم).. فكانr يصوم من شعبان ما لا يصوم من غيره من الشهور..
- وفي الصحيحين عن السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت رسول الله r استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان).
- وعنها وعن أم سلمة رضي الله عنهما فيما رواه الترمذي قالتا: (كان رسول الله r يصوم شعبان إلا قليلاً، بل كان يصومه كله).
- وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت رسول الله r يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان)..
- وقد رجّح طائفة من العلماء، منهم ابن المبارك وغيره أن النبي r لم يستكمل صيام شعبان، وإنما كان يصوم أكثره..
- ويشهد له ما في صحيح مسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (ما علمته - يعني النبي r - صام شهراً كله إلا رمضان).
* وفي وجه صيام النبي r لشعبان دون غيره من الشهور معان عدة:
- أحدها: أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، يشير r إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان؛ الشهر الحرام وشهر الصيام؛ اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولاً عنه، وكثير من الناس يظنّ أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام؛ وليس كذلك..
- وعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: ذكر لرسول الله r ناس يصومون رجباً، فقال: (فأين هم من شعبان)، وفي قولهr: (يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان)إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه؛ إما مطلقاً أو لخصوصيّة فيه لا يتفطّن لها أكثر الناس. فيشتغلون بالمشهور عنه، ويفوِّتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم. وفيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل،كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصّلاة ويقولون: هي ساعة غفلة.. وكذلك فضل القيام في وسط الليل؛ لشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر، وقد قال r:(إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن).
- وفي مجمع الزوائد للهيثمي: قد روي في صيام النبي r شعبان معنىً آخر، وهو أنه تنسخ فيه الآجال، فروي بإسناد فيه ضعيف عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: كان أكثر صيام النبي r في شعبان، فقلت: يا رسول الله أرى أكثر صيامك في شعبان، قال: (إن هذا الشهر يُكتب فيه لملك الموت من يقبض، فأنا لا أحب أن ينسخ إسمي إلا وأنا صائم) [وقد روي مُرسلاً..]
- وفي حديث آخر مرسل: (تُقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له، ولقد خرج اسمه في الموتى).
- وقد روي في ذلك معنى آخر: وهو أن النبي r كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، ورُبّما أخر ذلك حتى يصوم شعبان، وقد ورد ذلك عن السيدة عائشة رضي الله عنها.. وخرجه الطبراني - أي: قد يكون صومه في بعض الشهور لا يبلغ ثلاثة أيام ، فيكمل ما فاته من ذلك في شعبان- فمن دخل عليه شعبان، وقد بقي عليه من نوافل صيامه في العام استُحبَّ له قضاؤها فيه حتى يكمِّل نوافل صيامه بين الرمضانين.
- وقد قيل في صوم شعبان معنىً آخر: وهو أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرّن على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذّته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط.
* ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شُرِع فيه ما يشرع في رمضان من الصياموقراءة القرآن؛ ليحصل على التأهب لتلقي رمضان، وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن.. وروي بإسناد ضعيف عن سيدنا أنس t قال:(كان المسلمون إذا دخل شعبان أكبُّوا على المصاحف فقرؤوها، وأخرجوا زكاة أموالهم تقوية للضعيف والمسكين على صيام رمضان).
- قال الحسن بن سهيل:" قال شعبان: يا رب جعلتني بين شهرين عظيمين، فما لي؟ قال:جعلت فيك قراءة القرآن".
يا من فرّط في الأوقات الشريفة وضيّعها، وأودع الأعمال السيئة، وبئس ما استودعها
مضى رجب وما أحسنت فيه وهذا شهر شعبان المبارك
فيا من ضيّع الأوقات جهلاً بحرمتها أفق واحذر بوارَك
فسوف تفارق اللذات قهراً ويخلي الموت كرهاً منك دارَك
تدارك ما استطعت منَ الخطايا بتوبةِ مخلصٍ واجعل مدارَك
على طلب السلامة من جحيم فخير ذوي الجرائم من تدارَك
* وفي ذكر نصف شعبان: خرّج الإمام أحمد وأبو داوود والترمذي والنّسائي وابن ماجه وابن حبّان في صحيحه.. عن النبي r قال:(إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان) وصححه الترمذي.
- اختلف العلماء في صحة هذا الحديث، ثم في العمل به؛ فمنهم من قال: أنه حديث منكر
- ومنهم من قال: أنه منسوخ..
- وقد أخذ به آخرون منهم الشافعي وأصحابه، ونهوا عن ابتداء التطوع بالصيام بعد نصف شعبان، لمن ليس له عادة، ووافقهم بعض المتأخرين.
- فأما صيام يوم النصف منه: فغير منهي عنه؛ فإنه من جملة الأيام البيض الغر المندوب إلى صيامها من كل شهر، وقد ورد الأمر بصيامه من شعبان بخصوصه؛ ففي سنن ابن ماجه - بإسناد ضعيف- عن سيدنا عليt عن النبي r:(إذا كانت ليلة نصف شعبان فقوموا ليلها، وصوموا نهارها، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا، فيقول: ألا مستغفرٌ [لي] فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلى فأعافيه، ألا كذا ألا كذا، حتى يطلع الفجر)...
- وروى البيهقي بسند جيد فقال: عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قام رسول الله r ليلةً فصلى وسجد وأطال السجود حتى ظننت أنه قد قبض.. فلما رأيت ذلك قمت وحركت أنامله فتحرك، فرجعت، فسمعته يقول: (اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) فلما سلّم، قال لي:( يا عائشة أظننت أن رسول الله r قد خاس بك).. فقال: لا والله يا رسول الله، ولكني ظننت أنك قد قبضت [أي لطول سجوده وعدم تحركه]؛ فقال رسول الله r: أتعلمين أي ليلة هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال:(إنها ليلة النصف من شعبان، يطّلع الله عز وجل فيها على عباده فيقول: ألا هل من مستغفر فأغفر له؟.. ألا هل من سائل فأعطيه؟.. ألا هي من داع فأستجيب له؟.. ويؤخِّر أهل الأحقاد كما هم...)
- وخرّج الإمام أحمد من حديث سيدنا عبد الله بن عمرو tعن النبي r: (إن الله ليطّلع إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين: مشاحن، أو قاتل نفس).
* وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة؛ وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها.
- وقال الشافعي: بلغنا أن الدعاء يستجاب في خمس ليال: ليلة الجمعة، والعيدين، وأول رجب، ونصف شعبان..
- وروي عن كعب قال: إن الله يبعث ليلة النصف من شعبان جبريل عليه السلام إلى الجنة فيأمرها أن تتزين، ويقول:" إن الله تعالى قد أعتق في ليلتك هذه عدد نجوم السماء، وعدد أيّام الدنيا ولياليها، وعدد ورق الشجر، وزنة الجبال، وعدد الرِّمال".
- وعن عطاء بن يسار قال:" ما من ليلة بعد القدر أفضل من ليلة النصف من شعبان، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيغفر لعباده كلهم، إلا لمشرك أو مشاحن أو قاطع رحم"
فيا من أعتق فيها من النار هنيئاً لك هذه المنحة الجسيمة، ويا أيها المردود فيها، جبر الله مصيبتك، فإنها مصيبة عظيمة..
بكيت على نفسي وحُقَّ لي البكا وما أنا من تضييع عمري في شكِّ
لئن قلتُ إني في صنيعي محسنٌ فإني في قولي لذلك ذو إفك
ليالي شعبانٍ وليلة نصفِهِ بأيةِ حالٍ قد تنزّلَ لي صَكِّي
وحقي لعمري أن أديم تضرُّعي لعل إله الخلق يسمح بالفكِّ
- فينبغي للمؤمن أن يتفرّغ في تلك الليلة لذكر الله تعالى ودعائه بغفران الذنوب، وستر العيوب، وتفريج الكروب، وأن يكثر من الصلاة على النبي r لتكون له نوراً وإماماً يوم القيامة، وأن يقدِّم على ذلك كله التوبة؛ فإن الله تعالى يتوب فيها على من يتوب، وإن العارفين بالله لينصحون بقراءة سورة يس ثلاث مرات بين صلاة المغرب والعشاء، وكلما قرأ مرة دعا بدعاء ليلة النصف من شعبان وهو:"اللهم يا ذا المنّ ولا يمنُّ عليه، يا ذا الجلال والإكرام، ويا ذا الطّول والإنعام، لا إله إلا أنت؛ ظهر اللاجئين، وجار المستجيرين، وأمان الخائفين.. اللهم إن كنت كتبتني عندك شقياً أو محروماً أو مطروداً أو مقتّراً عليّ في الرزق، فامح اللهم بفضلك شقاوتي وحرماني وطردي وإقتار رزقي، واجعلني سعيداً مرزوقاً موفقاً للخيرات. إلهي بالتجلي الأعظم في ليلة النصف من شعبان المكرّم، التي يفرق فيها كل أمر حكيم ويبرم، أن تكشف عنا من البلاء والوباء ما نعلم وما لا نعلم، وما أنت به أعلم إنك أنت الأعز الأكرم، وصلى الله علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم...
فقم ليلة النصف الشريف مصلياً فأشرفُ هذا الشهر ليلةُ نصفِهِ
فكم من فتىً قد بات في النِّصف غافلاً وقد نسخت فيه صحيفةُ حتفِهِ
فبادر بفعل الخيرِ قبل انقضائه وحاذر هجوم الموت فيه بصرفِهِ
وصم يَومَها لله وأحسن رجاءهُ لتظفرَ عند الكربِ منه بلطفِهِ
- ويتعيّن على المسلم أن يجتنب الذنوب التي تمنع من المغفرة، وقبول الدعاء في تلك الليلة؛ كالشرك، وقتل النفس، والزنا والشحناء.
- وإن من أفضل الأعمال: سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلها، لعموم المسلمين، وإرادة الخير لهم ونصيحتهم، وأن يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه، وقد وصف الله تعالى المؤمنين عموماً بأنهم يقولون:)وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ](الحشر10 [
* أما ما ورد في صيام آخر شعبان: ففي الصحيحين عن سيدنا أبي هريرة t قال: قال رسول اللهr:(لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صوماً فليصمه)...
- فصيام آخر شعبان له ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يصومه بنية الرمضانية احتياطا لرمضان، فهذا منهيٌّ عنه..
والثاني: أن يُصام بنية النذر أو قضاء عن رمضان أو كفارة ونحو ذلك، فجوّزه الجمهور ونهى عنه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بفطر يوم مطلقاً..
- ومحكي كراهته أيضاً عن أبي حنيفة والشافعي ..[وفيه نظر]
والثالث: أن يُصام بنية التطوع المطلق، فكرهه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان؛ ومنهم الحسن.. ورخّص فيه مالك، وفرّق الشافعي والأوزاعي وأحمد وغيرهم بين أن يوافق عادةً أو لا .. فلا يكره إلا عند من كره الابتداء بالتطوع بالصّيام بعد نصف شعبان؛ فإنه ينهى عنه إلا أن يبتدئ الصيام قبل النّصف ثم يصل برمضان...
ولربّما ظنّ بعض الجهّال أنّ الفطر قبل رمضان يراد به اغتنام الأكل لتأخذ النفوس حظّها من الشهوات قبل أن تمنع من ذلك بالصيام فقال:
إذا العشرون من شعبان ولَّت فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغارٍ فإن الوقت ضاق على الصغار
وهذا كله خطأ وجهل ممّن ظنّه..
وربما لم يقتصر البعض منهم على اغتنام الشهوات المباحة، بل يتعدّى إلى المحرّمات، وهذا هو الخسران المبين.
- نحن كلنا بحاجة إلى أن ننتهز فرص تجليات الله على عباده بالرحمة؛ نحن كما تعلمون مثقلون بالأوزار، ولسنا نملك والحالة هذه سوى أن نغتنم هذه الأوقات التي أنبأ عنها رسول الله r... والتي يتجلّى الله عز وجل بها على عباده بالرحمة، ليس لنا من سبيل سوى أن ننتهز هذه الفرص فنتعرض لرحمة الله.. نتعرض لمغفرته.. نتعرض لإكرامه..
ونبسط أكفَّ الضراعة والافتقار إليه داعين متضرعين أن يخفف الله عز وجل عنا من أعباء ذنوبنا، وأن يكرمنا بالعفو والعافية التامة، وأن يرحم أمة سيدنا محمد r مما قد أصابها..
- أتأمل وأنظر في رحمة الله عز وجل: المفروض أن يكون العبد المسرف على نفسه، المثقل بالأوزار، هو السبّاق إلى باب الله عز وجل يطرقُه ويستجدي منه المغفرة والصفح.. ولكن الأمر يجري على العكس من ذلك؛ الله عز وجل هو الذي يلاحق عباده.. هو الذي يلاحق التائهين المعرضين الغافلين الغارقين في غيِّهم.. يدعوهم إلى أن يعودوا فيصطلحوا معه.. يدعوهم إلى أن يعودوا فيجدِّدوا البيعة له، يدعوهم إلى أن يعودوا إلى رحابه ليرحمهم ويغفر لهم وليحطّ عنهم من أوزارهم وآصارهم...
وإنها لظاهرةٌ تجعل الإنسان يذوب خجلاً من الله، بل محبة لله عز وجل أن يلاحق الله عز وجل عباده الشاردين التائهين العاصين العاكفين على أوزارهم في مثل هذا الشهر المبارك ليقول لهم: أما آن لكم أن تعودوا، أما آن لكم أن ترفعوا رؤوسكم عن الغيّ قبل أن تنتهي الفرصة ويحين المعاد.. ) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ( ]الحديد16[
تلك صورةٌ من أجلِّ صور رحمة الله عز وجل بعباده، ولكني إذ أقول هذا أيتها الأخوات لا أعني ما قد يفهمه بعض الناس من أنّ المسلم يغنيه أن يلتفت إلى الله عز وجل في مثل هذه الفرص فيتزود لنفسه بالكثير أو القليل من رحمات الله عز وجل ومغفرته، حتى إذا زالت هذه الفرصةوانطوت عاد مرة أخرى إلى شروده وانحرافه.. إيّاكنّ أن تفهمن هذا.. إن فرص الله عز وجل متوالية ومتسلسلة ومترابطة، وتلك صورة أخرى من صور رحمة الله عز وجل بعباده، ينبغي للإنسان أن يعاهد الله عز وجل أن يقبل إليه إقبالاً دائماً ولا يدبر: )وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ] (الحجر99[[أي الموت].. ينبغي للعبد الذي آمن بالله أن يعقد صفقة مبايعة مع الله عز وجل تتضمّن معنى قوله تعالى: ) قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ]الأنعام162[
لن ألتفت عنك .. لن أعرض عنك.. لن أطرق غير بابك.. لن تعود يديّ عن التوجه إلى رحابك.. هكذا ينبغي أن يبايع كلٌ مسلم ومسلمة منا ربّه سبحانه وتعالى.. وما يجوز وما ينبغي للإنسان أن يلتقط فرصاً تلوح أمامه في حياته ليقبل فيها على الله، وليغسل كيانه من الأدران والآثام..،ثم يعود مرة أخرى ليثقل ظهره بأمثالها في انتظار فرصة آتية قادمة، لعل الفرصة لا تأتي.. لعل الموت يكون سباقاً إلينا..
- ينبغي أن نعلم أن عبوديتنا لله عز وجل لا تظهر وتختفي، وعبوديتنا لله عز وجل هوية دائمة لا تتحول قط.. ومن ثمَّ فينبغي أن تكون عبادتنا لله عز وجل دائمة مستمرة.. والعبادة تتنوع.. ولكن أول أنواع العبادة وأقدسها: (الدعاء الضارع).. التوجه إلى الله عز وجل بالدعاء الضارع.. الدعاء الضارع دائماً، لا الدعاء الضارع عندما تطوف بالإنسان مصائب ورزايا ونوائب.. لا.. الإنسان ما دام عبداً لله فهو في كل لحظة بحاجة إلى عناية الله تعالى، ومن ثمَّ فهو بحاجة في كل لحظة إلى أن يَمدّ يد الافتقار والمسألة إلى الله..)فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ( ]غافر14[ هذا كلام الله سبحانه وتعالى، وما ينبغي للإنسان أن يكون كما قال الله عز وجل:) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ] (الحج11[
- ما ينبغي أن تكون في حالة تذكر الله.. وفي حالة أخرى تتيه عن الله عز وجل.. نحن في كل الأحوال عبيد لله عز وجل.. ومصيرنا في كل الأحوال معلَّق على كرم الله سبحانه وتعالى ولطفه وإحسانه..
وفي الناس من إذا مرُّوا بواحة من العافية والنعم نسوا الله.. وإن لم ينسوه تصوروا بأنهم ليسوا بحاجة إلى أن يمدوا يد المسألة إلى الله لأنهم لا يعانون من مصيبة ولا من مشكلة؛ فإذا ادلهمََّّ الخطب، وإذا غابت النعم،، تذكروا عندئذ أنهم بحاجة إلى الله.. هذا مظهر من مظاهر اللؤم أيتها الأخوات..
أنا ما دمت عبداً فأنا في كل الأحوال محتاج إلى أن أمدَّ يد المسألة إلى الله؛ إن كنت في نعمة وعافية ورغد عيش، فأنا بحاجة إلى أن أقول: يا رب أبق عليَّ نعمك، لا تفقدني هذا الإكرام الذي تمتعني به.
- وإن رأيت أنَّ هذه النعمة تزول، فأنا أيضاً بحاجة إلى أن أسأل الله عز وجل وأقول له: يا رب عرفني نعمك بدوامها، ولا تعرفني إياها بفقدها..
- وإن رأيت أنّ الله عز وجل قد أحاطني بعنايته وبإكرامه فعليَّ أن أنظر إلى أولئك الذين ابتلاهم الله عز وجل، وأعلم أن الله عز وجل جعل عباده بعضهم فتنة لبعض.. وصدق الله القائل:)وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً( ]الفرقان20[.. إذن في كل لحظة نحن بحاجة إلى أن نسأل الله عز وجل؛ إن لم نسأله لأنفسنا فلنسأله لإخواننا.. فلندع الله لإخواننا وأخواتنا الذين ننظر أو نسمع أنباء المصائب التي تتهاوى عليهم، ولله عز وجل في كل شيء حكمة..
ترى هل يطبّق المسلمون معنى كلام رسول الله r:)والمسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى..(، وهل يشتكي العالم كله ويئن كما يئن المسلمون في فلسطين وغيرها من سائر بقاع المسلمين، أم إننا نسرح ونمرح ونأكل ونلهو وننام ملء أعيننا، ولا يهمنا هذا الأمر بشكل من الأشكال، أو يهمنا بقدر الحديث تعزية وتسلية وإرجاءً للوقت..
- هذه الأمور ينبغي أن نكون على بيّنة منها - لا سيما في هذا الشهر المبارك - ونحن على يقين أنّ أقوى سلاحٍ ماضٍ يستعمله عباد الله المؤمنون لاستنزال النصر والفرج من الله عز وجل هو سلاح الالتجاء إلى الله عز وجل.. وسلاح الدعاء الدائم والدائب على أبواب الله سبحانه وتعالى بعد التوبة والإنابة والإخلاص لله.. كما قال سبحانه وتعالى:) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ( ]غافر14[الله عز وجل وَعَدَ، ولا شك أن وعده مُنَفَّذ.. وصدق الله القائل:)سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ( ]آلعمران151[
هذا وعدٌ قاطع من الله عز وجل.. وعده نافذ، ولكن الله عز وجل يريد أن يسمع من عباده الضراعة، يريد أن يسمع من عباده حديث الشكوى، يريد أن يسمع من عباده ما يدل على ذلِّ عبوديتهم لله عز وجل، ويريد من عباده قبل ذلك أن يتوبوا، وأن يؤوبوا وأن يصلحوا ما بينهم وبين مولاهم عز وجل.
أسأل الله عز وجل أن يرزقنا صدق التوبة والإنابة، وأن يعيدنا إلى رحابه، وأن يجعلنا ممن يلتصق بأعتاب كرمه وجوده داعين متضرعين ملتجئين بانكسار. والحمد لله رب العالمين..
المراجع:
- لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف.
- بعض خطب الجمعة للأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.
- بعض كتب صحاح الحديث (مجمع الزوائد- كنز العمال- الصحاح وغيرهم).
- سير أعلام النبلاء للذهبي.
- بعض الدروس (التي كتبتُها من فم بعض الآنسات الفاضلات لهذه المناسبة).