روحانيات المجالس وتجلياتها
روحاينات المجالس وتجلياتها
لـ الإمام الشهيد البوطي
إن هذه الأحوال التي هي في أصلها من آثار الأنوار الربانية إلى القلب، تتحول إلى حجاب يحجب صاحبها عن الله إذا تصبح _لشدة اهتمامه وفرحه بها_ هي الغاية لديه وهي الهدف الذي يسعى إليه، فيقف من سلوكه إلى الله عند هذه الأحوال يجعل منها حظوته، وربما جعل منها حديثه أمام الناس.
يقول أحدهم لصاحبه: ضمنا مجلس البارحة عند فلان من الشيوخ فما هو إلا أن ساد التجلي مجلسنا ذلك، وحضرت روحانية رسول الله. وربما قال: حضر رسول الله معنا عياناً!... فيحدثه صاحبه عن مجلس مماثل هيمن فيه التجلي وساد فيه الأنس واستحضر الشيخ فيه أرواح طائفة من أولياء الله المقربين .. ويتجاذب الصاحبان أطراف الحديث عن المجالس التي يسودها التجلي، ويخبر كل منهما صاحبه بالحظوة التي نالها من ذلك، ويتسابقان في وصف تلك التجليات وما انجرف فيها الحاضرون من مشاعر الرقة والأنس والخشية .. ولا يرتاب أي منهما في أن روحانية المصطفى صلى الله عليه وسلم هيمنت على المجلس الذي يتحدث عنه.
ما الذي تلاحظه من هذا الذي يسود اليوم كثيراً من مجتمعاتنا الدينية الملتزمة؟
يلاحظ أن الهدف من وراء السعي إلى هذه المجالس، غداً، عند كثير من الناس، ترقباً لهذه التجليات وبحثاً عنها ثم وقوفاً عندها. وهذا هو السبب في أن كثيراً من هؤلاء الناس يستزيدون من واقع هذه التجيليات عن طريق التخيل والأوهام، فيتحدثون عن أرواح حضرت، وروائح طيبة انتشرت، بل لا يشك بعضهم في أن رسول الله دخل المجلس واتخذ مكانه مع الحاضرين عندما هاج هائج بعض منهم، فأخذه الحال وخرج عن طوره.
ومكمن الخطأ في هذا الواقع الذي يتنامى بسرعة في بعض البلدان، ولدى كثير من منتحلي الطريق، أنه يغدو الهدف من المجالس التي تقرب إلى الله. في حين أن يكون ذلك واسطة إلى علم يزيد الحاضرين معرفة بالله وهديه وشرائعه، أو إلى ذكر يجلو القلب ويزكي النفس، أما ما قد يعرض لحال الجالسين أو بعضهم من رقة أو خشية في القلب، أو وجد يهيمن على النفس، أو نحو ذلك، فإنما هو أحوال عارضة تأتي وتمّر، وعلى السالك الذي انتابه شيء منها، ألا يعبأ بها، كي لا تشغله عما هو بصدده من ذكره أو مراقبته أو تفكيره، إن عليه أن يستفيد منها دون أن يقف عندها.
وبعبارة أخرى: إن من يقف بين يدي الله في صلاة، أو يقبل إليه بذكر أو دعاء، فتعروه حالة من الخشية والرقة المبكية، ينبغي ألا يشغل فكره بهذا الذي اعتراه، فإنه إن أسلم فكره لذلك، شغل عن الله بالتأمل في حاله تلك، فأصبحت حجاباً له عن الله بعد أن كانت جاذبة له إلى الله
وما أسرع ما يتخذ الشيطان من غفلة السالك عن هذه الآفة سبيلاً له إلى نفسه فقلبه.
فهذا ما يعينه ابن عطاء الله بهذه الحكمة الموجزة.
المصدر:
كتاب الحكم العطائية شرح وتحليل للإمام الشهيد البوطي