مميز
EN عربي
الكاتب: ابنة الشيخ
التاريخ: 02/08/2017

الشيخ شكري اللُّحفي

تراجم وأعلام

العارف بالله الشيخ


شكري اللُّحفي رحمه الله تعالى

بقلم ابنة الشيخ شكري اللُّحفي

- مولده ونشأته وعلاقته الأسرية

ولد فضيلة الشيخ شكري بن أحمد لحفي بدمشق، في الشهر السابع لسنة (1920م) من أسرة متوسطة الحال في حي شعبي في (باب السريجة).

تزامن مولده مع مرحلة فرضت طبيعتها ظروفاً قاسيةً ولدَّها المستعمر الفرنسي مما أثَّر في وضع المجتمع عامة وفي حياة الشيخ خاصة، إلا أن فضيلته كانت تلحظه العناية الإلهية منذ الصغر؛ حيث ولد من أبوين كريمين تفرَّسا في مولده النجابة والتوفيق، شدَّهم أمل حاضر بأن يكون لولدهم هذا أثر كبير في خدمة الإسلام، فحبَّب المولى جلَّت قدرته له حفظ القرآن الكريم وترتيله وهو صبي في سن التاسعة من العمر في مدينة حلب التي سافر إليها مع والديه الكريمين وترعرع فيها تحت كنفهم، وعنهما يروي:

لقد كانت أسرتي بعيدة عن أي نوع من التعقيد الذي تشهده كثير من الأسر في الوقت الحاضر، وكانت حالتنا المادية والاجتماعية متوسطة.

عما والدي رحمه الله منذ صغره في تصليح الأحذية ليكسب لقمة عيشه التي لطالما كان يطلبها في السفر.

كان رجلاً قوياً مهيباً بطلعته السنية وعزيمته العالية وبسمته المشرقة، نشيطاً صابراً على قسوة العيش، وكان يجمع إلى جانب التضحية في سبيل تقديم اللقمة الطيبة شرف العمل الاجتماعي والتعاون الإنساني ليكون درساً نافعاً مدى الأجيال.

وإلى جانب شدة تربيته وصرامته كان محباً لأولاده؛ علَّمنا الشجاعة، والأمانة، والأدب، والاعتماد على النفس، وقد امتاز بأسلوبه الشيق الصادق في توجيهنا إلى ما فيه خيرنا ورشدنا، وطرائفه مليئة بالحكم القيمة والمغزى الرائع بعيداً عن فضول الكلام ولغو الحديث.

وأتبع والدي بقوله: كنت محبباً لديه وأنا صغير أولاده، فأخذت عنه الكثير، وحثني على حفظ القرآن.

- وفي بر والدي لوالديه حفظه الله قال:

كان والدي في إحدى المرات في ضيق ويريد السفر وهو بحاجة لنقود، فأدخلت يدي في جيبي وأعطيته ما تيسر مما معي فقبلني ورضي عليَّ، وقال: (الله لا يعيزك لأحد ولا أحاجك لأحد)، وإلى الآن وبفضل الله تعالى أعطي المحتاجين، ومرة أعدَّت والدتي يوماً لي زبدية أرز بالحليب وخبَّأتها ثم نسيتها وعندما تذكرتها قالت لي: هاك الزبدية لتأكلها، فأكلتها وكان طعمها يقترب من الحموضة ولم أتكلم لكي لا تتأثر.

وإلى الآن حفظه الله يدعو لوالديه في كل صلاة، ويزور قبريهما كل يوم جمعة بعد صلاة الفجر.

- وأما عن دراسته وتحصيله العملي:

فيقول والدي العزيز حفظه الله: درست الابتدائية في مدرستي (التطبيقات والحبال) بمنطقة (القيمرية) إلى الصف الخامس حيث حصلت على الشهادة الابتدائية، لم يكن همي اللهو واللعب في الشوارع كما الكثير من تربي، وكنت أخصص أغلب أوقات فراغي في تلاوة القرآن الكريم وحفظه على يد بعض المشايخ، وأيضاً في المطالعة لبعض دروسي إلى أ، وجدتني منكباً على حفظ القرآن الكريم حتى أكرمني الله بحفظه في ربيعي التاسع، ثم تركت المدرسة لبعض الظروف وسافرت إلى حلب مع والدتي، وعندما عدنا توفي والدي، فرثيته بقولي:

سلامٌ على الخيرات بعدك والتقى سلامٌ على أهل النهى والتواضع

صنيعك في الدنيا مدى الدهر ذكره وفي الحشر وضاح كنوز اللوامع

بقلب سليم جئت ربك راجياً فأبشر بجنات وحور بدائع

عملت مع أخي في دكان لبيع الصوف لمدة وجيزة، ثم مِلتُ إلى تعلم أنواع الخط العربي لدى بعض الخطاطين؛ ومنهم ممدوح الشريف، وحلمي حباب، ومحمد بدوي الديراني، وبعد مدة أصبحت خطاطاً ماهراً وناجحاً، وأول خط كتبه هو:

ثم دخلت الكلية الشرعية وحصلت على الشهادة الإعدادية، وانتسبت إلى الكلية العلمية الوطنية لتعليم الدروس والخط والرسم، وعندما نجحت بمسابقة انتقاء عُينت معلماً في حلب ثم درعا بمدرسة الطائي، ثم انتقلت إلى المدارس الابتدائية بدمشق، وبعدها انتسبت إلى التدريب في المقاومة الشعبية.

عينت معلماً في منطقة الأشرفية، الواقعة في الغوطة الغربية بدمشق، إلى أن أصبحت مديراً فيها، وكثيراً ما كنت أذهب سيراً على الأقدام إلى الأشرفية.

كنت مديراً ناجحاً، خدوماً، نظامياً، ومتسامحاً، كُرِّمتُ من قبل وزارة التربية بكتاب شكر تقديراً لجهودي، ثم ندبت لمديرية التربية، ومن ثم إلى وزارة التربية، حيث أصبحت الموظف الفني الذي شهد بذلك جل الموظفين والموظفات بابتكاره أساليب وفرت عليهم الوقت والتعب.

أجريت دورات لتعليم الخط للمعلمين والمعلمات والمديرين والمديرات في دمشق والمحافظات بعدما أصبحت من أبرز الخطاطين في دمشق، وكلفت بكتابة لوحات بعض المساجد على الرخام، وهذا ما أفادني كثيراً في مركزي الاجتماعي، بالإضافة إلى تحسين وضعي المعيشي بعد التقاعد على مبداً (صنعة في اليد أمان من الفقر).

ووهبني الله موهبة الرسم فأبدعت به، فوالدي حفظه الله رسام بارع تظن إذا رأيت رسمه أنه حقيقة.

- تابع والدي الحبيب قوله:

فكرت بالزواج بعد أن مررت بظروف نفسية متعبة، وأنا أعلم أن الزواج ظاهرة اجتماعية؛ تظهر أشخاصاً وتخفي آخرين، وترفع أقواماً وتضع آخرين، وتحيي جيلاً وتميت أجيالاً.

وبعد فترة وفقني الله تعالى بالزوجة الصالحة التقية الطاهرة الورعة المنحدرة من أصل طيب _ تلك كانت أمكِ_ سليلة بيت علم وأدب وأخلاق من آل الحسيني، والدها كان مدرس فقه وحديث في الجامع الأموي.

عاشت معي ومع والدتي بمحبة واحترام متبادلين، وكانت رحمها الله ترعاها حتى انتقلت لرحمة ربها.

- صفاته الجسدية والنفسية:

شيخ منير ذكي نبيه، ملتزم معتدل، بهي الطلعة وسيم الخلقة طيب الرائحة، ذو عينين زرقاوين تشعان ببريق أخاذ وتبعثان في وجوه الناس الأمل والنشاط، عندما زارته إحدى صديقاتي قالت: أنا لا أرى إلا نوراً في وجهه.

إذا صمت: علاه الوقار والهيبة وهو حلو المنطق، وإذا نطق: بذَّ القائلين، وإذا قال: استمعوا لقوله، وإذا نصح: عمل بنصيحته.

دائم التبسم، صاحب دعابة، حسن المعاشرة مع الأهل الأصحاب وسائر الناس، يعطي جليسه حظاً كبيراً من الانبساط والملاطفة وحسن المقابلة ولو أنه في ضيق، حتى ليحسب الزائر أنه أحب الناس على قلبه.

قال عبد الله بن الحارث: (ما كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسماً).

يقابل أصحابه وتلاميذه ليدخل السرور عليهم وعلى أولادهم، ويمسح على رؤوس الأولاد، وخاصة اليتامى منهم.

ويحب إكرامهم أسوة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا) وأشار بالسباية والوسطى وفرج بينهما.

وهو دائم الحرص على تطبيق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الواردة في الحديث الشريف: روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عشر من الفطرة؛ قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم _عقد الأصابع في ظهر الكف_ ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء _الاستنجاء_).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (السواك: مطهرة للفم، مرضاة للرب، مغفرة للذنب).

وصوته الجهوري محبب إلى الأسماع، ومؤثر على النفوس في القرآن والإنشاد والتكبير؛ فعندما يبدأ بالذكر في مجالس الصلاة على النبي صلة الله عليه وسلم ويقول: (الله، الله، الله) يبعث الخشوع في النفوس، وهذا ما لاحظته على النساء.

إذا صلى بأحد لم يطل، وإذا دعا الله أوجز بكلمات خفيفات طيبات مباركات، ولا ينظر للناس البعيدين عن الدين نظرة القاضي إلى المجرم، بل ينظر إليهم نظرة الطبيب إلى المريض يلتمس لهم العافية، ويدعو الله لهم بالهداية بظهر الغيب.

- مكانته وشهرته:

قلة من الدعاة في هذا العالم الإسلامي الذين يحظون بالتبجيل والاحترام من إخوانهم كما يحظى به والدي الحبيب؛ فمشهد دخوله وخروجه من المساجد وعندما يطل بقامته المديدة وهمته العالية وتواضعه الذي يسحرك بكل المقاييس ترى عشرات الشباب والأطفال يتسابقون للمس وتقبيل يده، ومع ذلك لم يكن من الذين يحبون أن يتمثل لهم الناس قياماً، ويقول مراراً: (أما نفسي فما أراها أهلاً لشيء من ذلك).

- وفي تواضعه وتسامحه:

فوالدي الحبيب ذو خلق كريم، ونفس سمحة، ويد سخية، متواضع أشد التواضع، لا كبر في نفسه ألبتة، فهو الأب المحبب للجميع، لا ينتقص قدر وقيمة كل عالم وطالب علم. أحبه طلاب العلم حباً جماً لمعاملته الطيبة، عندما يجلسون إليه فيحدثهم ويسأل عن أحوالهم وهو يذكرهم يجمعون على شعور واحد أنهم في روضة من رياض الجنة، وأن الملائكة تحفهم، ويشعرون بسعادتهم وأن قلوبهم تغمرها لذة لا يدركها أهل الدنيا وأرباب الدثور، فإنه يتستر على الناس، وإذا أراد أن يقول حادثة حَدَثَت له قال: (أحد ما، من بلد ما، ومن بيت كذا) ولا يحدد الاسم.

يحترم الزائر ويلبي حاجته رغم تعبه وألمه في بعض الأوقات مهما طالت زيارته، ويعاملهم بالمداراة والحكمة والموعظة الحسنة؛ لقوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) [سورة النحل الآية 125].

لم يكن أحد يصافحه أو يريد تقبيل يده حتى يبادر هو بهذا قبله، ولا يتركه حتى يترك يده هو.

ومن تواضعه: أنه يخدم نفسه بنفسه، ولا يحب تعب الآخرين حتى أولاده، وما أظن أن خلقه في التسامح والتواضع والمحبة إلا نتيجة التربية الصالحة والمجالس المشرفة التي كان يشهدها مع شيوخه.

ومن شدة حيائه: أنه لم يواجه أحداً بما يكرهه عنه، بل يعرض ذلك على بعض إخوانه أن يصارحوا ذلك الرجل المقصر ويأخذه بالحلم.

ولا يحب ترأس مجلس ما، ولا يطلب وظيفة ولا منصباً، بل كان يزهد بها حتى يرشح، فلقد عرض عليه منصب مدير معهد القراءات فأبى كرامة لشيخه، وعرض عليه أن يكون مشرف خط في (مراكش) فاعتذر، لكي لا يبعد عن أهله وأولاده.

أجمع عادة علماء أن يكون هو شيخ الطريقة الشاذلية فلم يوافق مباشرة، لأنه لا يحب المراءاة والتفاخر، ثم وافق غير هياب ولا وجل.

لم يكن يبرز شيئاً من علمه في الزيارات، وهو الفقيه الذي اشتهر بسعة اطلاعه ودقة معلوماته الفقهية، وكم من الأهل البعيدين طبعاً قالوا لي: إننا لا نعرف والدك بهذا المقام إلا بعد حفلة التكريم!

قال الشيخ الشامي رحمه الله قبل انتقاله لجوار ربه، والعلماء والأحباب مجتمعون عتده موعودون له: (من جالس الشيخ شكري ساعتان، وأكل معه لقمتان، ومشى معه خطوتان، وصلى معه ركعتان، كانت له جنتان). ودائماً يقول: (طلبت الآخرة ففادتني بإذن الله الدنيا والآخرة)

المصدر:

كتاب العارف بالله الشيخ شكري اللحفي ، جمع وإعداد الشيخ محمد ياسر القضماني.

تحميل