خطوط عريضة في منهج الدعوة إلى الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله ونستعينه ونستهديه، ونستلهمه الصواب في الفكر والقول. وبعد:
لعل سائر مظاهر التخلف التي رانت على العالم الإسلامي، خلال النصف الأول من هذا القرن الذي نشهد اليوم اختفاءه في مغرب التاريخ، تتلاقى تحت سلطان عاملين اثنين:
أولهما: الانبهار الذي غشيت له أعين الأمة الإسلامية، من مظهر النهضة الأوربية التي تحققت في أعقاب تحرر أوروبا من سلطان الكنيسة، وانطلاقها في ميادين البحث والعلم، فقد أورث المسلمين هذا الانبهار شعوراً بالنقص، وريبة في حقيقة الدين، ورغبة في أن يعامل الإسلام هنا كما عوملت النصرانية هناك.
ثانيهما: بقايا الثورة الهائجة، على قيود الكنيسة وآصارها، في نفوس الغربيين عموماً، وهو الأمر الذي جعلهم يتبرمون بحقيقة الدين، ويلوذون منه بالنعيم المحسوس والحياة المادية، جاحدين كل ما قد يلوح للذهن أو الخيال وراءهما.
وقد أورث الغربيين ذلك التبرم بجوهر الدين، وهذا الإقبال على غَوْل المادة ونعيمها، نظرة ازدراء إلى الإسلام وأهله، ثم راحوا يقوِّمون سائر مبادئه وأحكامه من خلال هذه النظرة، فكم من مبادئ شوهوها، وكم من قيم وأحكام زيفوها، وكم من حقائق تاريخية نكسوها...
وكان طبيعياً أن تنعكس نظرتهم هذه إلى الإسلام، على نفوس المسلمين آنذاك، بالتأثر أولاً ثم القبول والرضا بتلك النظرة ثانياً، وغدرهم ذلك الانبهار الذي كانت تعانيه أبصارهم، ومشاعر النقص التي كانت تهيمن على نفوسهم، فازدادوا ريبة بالدين وأحكامه، وتطلعاً إلى حركة إصلاحية تسري إلى جملة أسسه وبنيانه.
ولقد كان من آثار هذا الانعكاس أن استشرى المد الاستعماري في أقطار كثيرة من العالم العربي والإسلامي، وأخذ كثير من المسلمين يتململون من التبعية الحقيقية للإسلام ونظامه، واتخذ هذا التململ أشكالاً وتعابير مختلفة، فاتخذ شكل المجابهة الصريحة للإسلام جملة وتفصيلاً عند كثير من الناس، كما اتخذ شكل القبول له ظاهراً واستبطان الكفر به حقيقة عند آخرين، أما عند فئة ثالثة فقد اتخذ مظهر الرغبة في إصلاحه والاهتمام بتطويره تأسياً بما فعله الغرب بنصرانيته في بلاده.
هذه الفئات الثلاث من المسلمين ظلت تسير على خطوط مستقلة متوازية ردحاً من الزمن، ولكن ما إن نتبين أن شعار الرغبة في الإصلاح والتطوير هو الذي بدأ يروج ويتغلب، حتى انضوى الجميع تحت لوائه، إلا أنهم لم يلتقوا تحت هذا الشعار، إلا في ظاهر الأمر، فلا جرم أن كلاً منهم أسرَّ من وراء ذلك الفكر الذي يتبناه، والهدف الذي يسعى إليه.
وتحت هذا الشعار أصاب الإسلام كثير من التشويه والتغيير، بدءاً من حقائقه الاعتقادية، إلى الكثير من أحكامه العملية، وآدابه السلوكية، إلى التشكيك بصلاحيته للحكم، واتساعه لمقومات الدولة.
تلك بارقة سريعة من صورة الواقع الإسلامي الذي نما واشتد في ظل أحداث وظروف عالمية، لا مجال للخوض في تفاصيلها في هذا المقام. ولكن فما الذي طرأ على ذلك الواقع من بعد؟
لقد طرأ أمران رئيسيان أعقبتهما اتجاهات إيجابية جديدة لم تكن في الحسبان. أما الأمران الرئيسيان فهما:
- زوال الانبهار الذي كان قد غشى على أبصار الأمة الإسلامية في أعقاب النهضة الغربية، فقد عادت مقاييس الضياء متسقة مع طاقة الأبصار، وأخذ الشراب يتميز عن السراب، وتجلت فوارق ما بين الحق والباطل والأصيل والدخيل.
- 2- سكنت بقايا تلك الثورة المعتلجة في صدور الغربيين على الكنيسة والدين، فتهيأت من ذلك الفرصة لفحص ثمرات الحياة المادية، عندما تكون إليها القيادة، وبيدها وحدها الزمام، وأمكن رصد الحناظل المشقية بل المميتة من بين تلك الثمار ... فقد عاد أكثر منجزات المدنية والعلوم، بسببها، إلى مصائب وأمراض تجاوزت هيكل الجسم إلى طوايا النفس والروح ... الروح التي طالما نسيها، بل أنكرها، المتمتعون بها، أيام كانت سكرة النعيم هي السائدة، وسلطان المادة هو الحاكم الغلاب.
.. إننا لنستطيع أن نتبين بعد ما بين الصورتين، من موقفين متناقضين، وقفتها الكنيسة الانكليكانية في الإسلام، خلال هذا القرن الهجري الذي تصرم.
أمام الموقف الأول، فمليء بما شئت من دلائل السخرية والازدراء بالإسلام ونظمه، وكان عقب الحرب العالمية الأولى، وبعد أن استولت بريطانيا على استانبول عام 1918م، فقد وجهت هذه الكنيسة ستة أسئلة إلى المشيخة الإسلامية، تتضمن في جملتها إثارات لمشاعر المسلمين وانتقاصاً للإسلام، وطلبت الكنيسة، في صلف وكبرياء، أن يأتيها الجواب فيما لا يزيد على ستمائة كلمة ... وقد كان طبيعياً أن تفعل الإثارة فعلها المتوقع في صدور أولئك الذي وجهت إليهم هذه الأسئلة، فكان الجواب عليها هو: (أن هذه الأسئلة لا يجاب عنها بستمائة كلمة، ولا بست كلمات، ولا بكلمة واحدة، بل ببصقة واحدة على أفواه السائلين).
أما الموقف الثاني، فيفيض بما شئت من معاني التنويه بأهمية الإسلام، وسعة سلطانه، فقد وقف المطران الانكليكاني في العام الماضي يقول مشيداً بالإسلام، وما يلقى من قبول لدى الأوروبيين عموماً، والبريطانيين خصوصاً: (الإسلام اليوم دين يعتنقه مليون شخص من مواطنينا البريطانيين).
إن بعد ما بين هذين الموقفين، ناتج ولا ريب من فرق بين الواقعين ... وهي مساحة اعتبارية هامة تجاوزها العالم كله خلال قرن من الزمن.
على أن هذا التحول لم يكن محصوراً في نطاق العالم الغربي الذي آمن بالمادة إيماناً نفسياً أعزل، أي قفزاً من فوق قرارات العلم والعقل وأسوارهما. بل تعداه أيضاً إلى الأقطار الشيوعية. حيث لا يزال يكره كل من العقل والعلم على جحود الدين ونكران الخالق، وعلى اليقين بأن المادة هي محور الأشياء كلها، وحيث يحمل كل منهما حملاً على الإقرار بذلك، عن طريق صياغة فلسفية وعلمية راسخة.
فقد عادت هذه الأقطار ذاتها تخفى _مضطرة_ قدراً كبيراً من عدائها للأديان عامة. وللإسلام خاصة، وتتخذ لمواجهتها سياسة جديدة، بعيدة عن أسلوب السحق والمحق الذي قامت الثورات الاشتراكية على أساسه.
وإنما سبب ذلك ما تلاقت عليه التقارير الخفية المختلفة، ومن أن الإسلام لم يعد كما كان يظن: طاقة بائدة، بل إنه اليوم عنفوان مقبل، وطاقة مستشرية، وظاهرة كهذه لا جدوى من مواجهتها بعنف، مهما كان الموقف الحقيقي تجاهها، بل لا بد من مصانعتها والالتفاف حولها.
ومعلوم أن الزعيم الشيوعي الإيطالي (تولياتي) الذي توفي في أوائل الستينيات، ضمّن وصيته الأخيرة كشفاً عن هذه الحقيقة، وتحذيراً لسائر الرفاق من الاستمرار في سياسة المواجهة والعنف، بل حتى من الاستمرار في السياسة السلبية تجاه الأديان عامة، والإسلام خاصة، وأهاب باستغلال الطاقات الدينية والإسلامية، بدلاً من أن يعادوها، فيخسروها، فتتألب عليهم.
ولقد لقيت هذه الوصية أصداء إيجابية لدى سائر زعماء المادية الماركسية، سرعان ما تغلبت على تلك المعارضات الضعيفة.
... ترى، هل لهذه التحولات التي تبدت واضحة خلال هذا القرن الذي نعيش الآن أيام توديعه، من أثر على تقويم حقيقة الدعوة الإسلامية، سواء من حيث أهميتها الذاتية، أو من حيث ما قد يجب أن تتقيد به من منهج وأسلوب؟
وأقول في الإجابة عن ذلك:
أمام الأهمية الذاتية للدعوة الإسلامية، فلا ريب أنها قد تضاعفت، وأن واجب النهوض بها في أعناق المسلمين أصبح أشد أهمية وأكثر اتساعاً. فلقد كان القيام بهذه المهمة من الفروض الكفائية في أكثر الأحقاب التي خلت، أما اليوم فلا نبعد عن الحق إن قلنا: إن القيام بهذا الأمر غدا اليوم من الفرائض العينية التي يتوجه الخطاب التكليفي بها إلى كل مسلم وعى الحقائق الإيمانية، والواجبات السلوكية للإسلام، على نحو سليم، ولم يعد خاصاً بفئة أو جماعة من المسلمين، وذلك للسببين التاليين:
السبب الأول: أن واقع الصحوتين اللتين أدركتا العالم الإسلامي وأمم الغرب والشرق معاً، مما سبق الحديث عنه، لم يبدل من حال الأعداء التقليديين للإسلام شيئاً (وإنما نقصد بأعدائه التقليدين، أولئك الذين يتبوأون مراكز القيادة والحكم في ربوع الغرب على اختلافها، ولا يزالون يحلمون بآمال سيادة الرجل الأبيض على بقاع المعمورة، إن لم يكن بأساليب الاستعمار القديم فبوسائل جديدة أشد ذكاء، وأعتى خطورة، وأوغل خفاء)
السبب الثاني: أن العهد الذي يقبل فيه الناس إلى الإسلام، تمسكاً به أو تفهماً له، أحوج إلى المرشدين والدعاة، من العهد الذي يدبر فيه معظم الناس عن الإسلام، ذلك لأن أثر الدعوة إلى الإسلام في صفوف المقبلين إليه، أسرع ظهوراً وأقرب جدوى وأهم فائدة منه في صفوف المتأبِّين عليه والمحجوبين عنه.
... إن أهم الدعائم الكلية الهامة، لنجاح المسلمين في القيام بأعباء الدعوة الإسلامية، على ضوء الوقائع والتطورات التي أوضحنا تحليلاً موجزاً لها، يتمثل في اتباع الشروط التالية:
الشرط الأول: أن يكون الداعي على بينة، قبل كل شيء، من حقيقة الإسلام الذي كلفه الله أن يصطبغ به، وأن يعرّف الناس به، ويدعوهم إليه.
ترى أهو مذهب فكري أو سلوكي يقارع غيره من المذاهب المماثلة؟ أم هو نظام ينافس الأنظمة الأخرى؟ أم هو جملة تشريعات وقوانين تنسخ بها بقية التشريعات، أم هو يمين في مواجهة يسار، أم هو يسار في مواجهة يمين؟
إن على الداعي أن يكون على بينة تامة، قبل كل شيء، بأن الإسلام ليس شيئاً من هذا ولا ذاك، ولكنه كما يدل عليه اسمه: استسلام مطلق لألوهية الله وحده ثم انصياع لأمره ونهيه وقضائه، ولا يرتكز هذا الاستسلام إلا على يقين كامل في القلب، ولا يعمر الإيمان الحقيقي القلب إلا بعد خلوه من الأغيار، وتزكيته عن الأوضار، وانقطاعه عن علائق المحرمات من الشهوات والأهواء ...
الشرط الثاني: أن تشيع الدعوة أولاً في صفوف المسلمين أنفسهم، حتى إذا استقام أمرهم على النهج السليم، وتجسدت في حياتهم حقائق الإسلام وفطرته وأخلاقه، انبثق لهم من ذلك لسان مبين يدعو الأمم الأخرى إلى اتباع دين الله عز وجل، وتجلى من سلوكهم أمام تلك الأمم خط مضيء يشق سبيله وسط أمواج الظلام، وعكر المذاهب والأفكار المنحرفة، فكان من ذلك أهم عامل يحمل تلك الأمم على مزيد من الاهتمام بفهم الإسلام أولاً، ثم الاعتناق له والانصباغ به ثانياً.
وإن من أكبر الأخطاء التي يقع فيها بعض المسلمين، انصرافهم – في غمرة فرحهم بإقبال كثير من الغربيين إلى دراسة الإسلام- عن النظر في إصلاح أنفسهم ومن حولهم من عامة المسلمين، مستعيضين عن ذلك بالاتجاه إلى الأمم الأخرى، يدعونهم فيما يزعمون إلى الله، ويرشدونهم إلى الإسلام والتمسك به ...
الشرط الثالث: أن تتلاقى متناسقة على طريق الدعوة الإسلامية جهود الأفراد والشعوب مع الطاقات التنفيذية التي يملكها القادة والحكام.
فلا قيمة لما قد تنفرد به فئات أو أفراد من المسلمين، في نطاق العمل الإسلامي، إذا لم يكن للدولة الحاكمة في ذلك دور أساسي فعال، ولئن ظهر بعض الفوائد والآثار، فهي لا تعدو أن تكون آثاراً جزئية، ويغلب أن تكون مع ذلك سطحية وموقوتة.
ويتجلى دور الدولة الحاكمة على صعيد العمل الإسلامي، في النهوض بجانبين اثنين، إن هي تهاونت فيها، لم يصلح أن ينوب عنها في النهوض بها أحد.
أحدهما جانب داخلي يتعلق بحال المسلمين أنفسهم، ثانيهما جانب خارجي يتناول علاقة المسلمين مع غيرهم ...
وبعد، فتلك خطوط عريضة ثلاثة في طريق الدعوة إلى الله عز وجل، بسطت الحديث عنها بالقدر الممكن، وتحت كل واحد من هذه الخطوط ملاحظة وآداب تفصيلية. لا ضرر في طي الحديث عنها، لو ضمنا سلامة العمل بخطوطها الرئيسية العريضة.
فإذا تذكرنا أن واجبنا الذي شرفنا الله تعالى به، قادة وشعوباً، إنما هو إقامة دينه وتنفيذ شرعه، وارتداء جلباب العبودية له، وأن له المرجع والمآب، علمنا مدى ضرورة النهوض بهذا الذي ذكرناه.
والله المستعان في الهداية والتوفيق.
الملتقى الرابع عشر للفكر الإسلامي الجزائر 1980