مياه مدينة دمشق
مياه مدينة دمشق
جغرافياً، تاريخياً، دينياً
تقع بلاد الشام في الجزء الغربي من قارة آسيا متوسطةً قاراتٍ ثلاث: آسيا وأوروبا وإفريقيا، كما تحوي تضاريسَ متنوعة من جبال وأودية وسهول وأنهار وباحات ذات مناخ معتدل متوسطي ..
وإن ذكر الماء في القرآن الكريم بأشكاله: البحار، الأنهار، العيون .. يدل على أهمية الماء وقيمته بالنسبة للحياة البشرية، فبه تدوم الحياة وتعيش الكائنات وتطيب النفوس وتحيا الأرواح شاكرة ممتنّة للمولى عز وجل ..
يقول ابن عساكر مؤرخ ومحدّث دمشق 499/571 ھ في باب: "فضل مواضع بظاهر دمشق وأضاحيها وفضل جبال تضاف إليها ونواحيها"، يقول عن قوله تعالى: (وآويناهما إلى ربوة ذات قرار معين) : ذات قرار هي دمشق، والمعين هي غوطة دمشق، وقيل: أرض ذات أشجار وأنهار، هناك آوى السيد المسيح وأمه مريم عليهما السلام.
ويقول الشيخ الجغرافي ياقوت الحموي البغدادي المتوفى 626 ھ في كتابه الشهير "معجم البلدان": (من خصائص دمشق التي لم أرى بلداً مثلها، كثرة الأنهار بها، وجريان الماء في قنواتها، فقلَّ أن تمر بحائط إلا والماء يخرج منه في أنبوب إلى حوض يُشرب منه، يستقي منه الوارد والصادر ...) وبردى من أعظم أنهُر دمشق، مخرجه من قرية يقال لها (قنوا) من كورة الزبداني، حيث يظهر الماء من عيون هناك ثم يصب في قرية بين دمشق والزبداني تعرف بـ (الفيجة)، وتنضم إليه عين أخرى ثم يخرج الجميع إلى قرية تعرف بـ (جمرايا)، فيفترق أكثره في بردى، ويحمل الباقي نهرُ يزيد ...
و إذا صار ماء بردى إلى قرية يقال لها (دمر)، افترق على ثلاثة أقسام: تورا، بانياس، القنوات .. فتتزود دمشق بالمياه من هذه الفروع الثلاث، ويختص تورا بالأحياء الواقعة إلى الضفة اليسرى من بردى، وبانياس بالأحياء الواقعة إلى الضفة اليمنى حتى خط بين القلعة والأموي وجادة القيمرية، ويصل لباب توما... أما القنوات فيغذي الأحياء الواقعة جنوب نهر بردى، وقد كان اليونان يسمون نهر بردى بنهر الذهب). كما عرّف "الفيجة "قائلاَ: (بالكسر ثم السكون والجيم: قرية بين دمشق والزبداني، عندها مخرج نهر بردى وبحيرة ) .
إذا فنبعة الفيجة غرب دمشق تبعد 15 كم ومن بين سفوح الجبال ينبع ماء عذب صافٍ، أما نهر بردى الذي ينبع من جبال لبنان الشرقية، فيسير في وادٍ ضيق ويمشي في سهل الزبداني، وعندما يبلغ نبعَ الفيجة يصب مياهه العذبة الصافية فيه، ليكثر ماء الفيجة وتشتد غزارته، ويغدو قوياً عذباً ماضياً في أرض الغوطة الخضراء.
وقد أدرك سكان دمشق وضواحيها أهمية مياه نبع الفيجة منذ القدم، واتخذه بعضهم مكاناً للعبادة (بدليل وجود معبد روماني معروف باسم " حصن عزتا "، والذي لم يبق منه حالياً سوى بقايا جدرانه).. ثم تحول هذا المعبد إلى كنيسة في عهد السيد المسيح، لتصبح فيما بعد حصناً في عهد المسلمين.. وشكلت نبعة الفيجة مع سهل الزبداني وضفاف بردى مركزاً سياحياً هاماً لأهل دمشق والشام، يصطافون فيها، وجذبت إليها السياح الأجانب .
وابن بطوطة، أمير الرحالة، المتوفى 779 ھ قال عن دمشق عندما مر منها وأخذت بلبّه: ( إنها جنة المشرق وعروس المدن، تحدق بها البساتين إحداق الهالة بالقمر، وأهلها يقضون وقتهم يوم السبت بين المتنزهات وشطوط الأنهار ودوحات الأشجار والمياه الجارية في راحة وبهجة حتى يمسي الليل). وتكلم عن أهلها وحبهم لعمل الخير ودعا لهم قائلاً: (جزى الله خيراً من تسامت همته في الخير).
إن تتبع تطور شبكة الأقنية المائية في مدينة دمشق عبر العصور يلخص لنا نمو وتوسع وازدهار مدينة دمشق، فقد تخصص فرعا بانياس والقنوات بتزويد المدينة القديمة، وعندما توسعت أُنشئت تفرعات جديدة تنطلق من تلك الأصلية لبانياس والقنوات، بينما كان فروع تورا يسقي الحدائق والبساتين ومناطق الريف التي امتزجت وتماهت مع الأيام في جسم المدينة، أما أهل قاسيون فقد أوجدوا لأنفسهم شبكات تغذية من مياه نهر يزيد.
وفي الختام نلخص القول: بأن الأنظار اتجهت منذ العهود القديمة إلى أهمية جرّ مياه الفيجة إلى المدينة بواسطة قساطل حديدية عُرفت بأسماء مَن عملوا على إحياء الأرض والناس، واستُخدِمت القساطل إلى أن أقامت مؤسسة الفيجة فوق النبع بناءً حديثاً في عام 1931 م لحفظ المياه من العبث والتلوث...
و المتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار))، يجد معاني هذا الحديث جليّة في تاريخ تطور توزيع المياه بدمشق، فالتعاون والتكافل الذي كان قائماً لجرّ المياه إلى المناطق المتعددة وإقامة أفرعِ وتشعباتِ الأنهار (بردى والفيجة)، هما أكبر مثال وأسمى ترجمة لمعنى قول النبي الكريم " شركاء "، وفي ذلك إحياء للأرض والناس..
اللهم إنا نستودعك الشام وأهلها ومياهها في خزائن بسم الله، أقفالها ثقتنا بالله، مفاتيحها لا حول ولا قوة إلا بالله، فلا طاقة لمخلوق مع قدرة الخالق ...
المصادر :
تاريخ دمشق/لابن عساكر
معجم البلدان/ ياقوت الحموي
محاسن الشام / للبدري
رحلة ابن بطوطة /ابن بطوطة