مميز
EN عربي
الكاتب: الشيخ محمد هاشم المجذوب
التاريخ: 16/07/2016

الشيخ محمد صالح العقاد

تراجم وأعلام

ترجمة العلّامة الشيخ

محمد صالح العقاد رحمه الله

بقلم العلامة الشيخ محمد هاشم المجذوب

اسمه وولادته ونشأته:

هو العلّامة الفقيه الأصولي الحافظ القارئ الشيخ محمد صالح بن أحمد بن عبد القادر العقاد، ولد رحمه الله في دمشق سنة 1310 هـ الموافق سنة 1892 م. فنشأ في جو من الصلاح والعبادة، عُرِفَت بها أسرته جميعاً، فكان جده التاجر الحاج عبد القادر برّاً تقيّاً، لم يدّخر في طرق الخير وسعاً إلا وقد طَرَقَهُ، ويُحكى عن أعماله الخيرية الشيء الكثير. وكانت جدته من أشد أهله ورعاً وتقى، تقوم الليل متضرعة، ثم شبّ ابنها والد الشيخ على هذا المسلك الطيب الكريم. في مثل هذا الجو الذي تعبق فيه رائحة الإيمان، ويتضوع منه عبير الفلاح والصلاح، نشأ شيخنا الشيخ محمد صالح العقاد، وفي هذه التربة المباركة تفتّح قلبه، ولقد تجمّعت فيه هذه العوامل الوراثية التي رأيناها في جدّه وجدّته وأبيه، فلا غرو إن رأيناه يشبُّ على هذا النهج الكريم، فينشأ على التديّن والإيمان، فسليل الكريم كريم.

دخل الشيخ رحمه الله المدرسة الجقمية المجاورة للجامع الأموي من الشمال، ودَرَسَ فيها حتى الصف الخامس وقد أصبح عمره عشر سنوات، وقد كان طالباً مُجدّاً ذكيّاً استطاع أن يحفظ كتاب الله، وألفية ابن مالك في النحو، ونهاية التدريب في نظم غاية التقريب في الفقه الشافعي للعمريطي. ويبدو أن الفقه لقي هوى في نفسه فتعلّق قلبه به حتى عزف عن المدرسة وانصرف إلى قراءة الفقه.

ولمّا علم والده ذلك منه شجّعه عليه، ومضى به إلى مربي الجيل الشيخ عيد السفرجلاني، فكانت على يديه بداية التلمذة، إذ أنزله الشيخ السفرجلاني من نفسه منزلة حسنة ورعاه رعاية الوالد الشفيق، ثم واظب بعد ذلك على حضور دروس المحدّث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله، فسمع منه الحديث، وقرأ عليه كشاف الزمخشري، ثم اتصل بالقاضي الأول وأمين الفتوى في دمشق الشيخ عبد المحسن الأسطواني فقرأ عليه كتاب القسطلاني شرح البخاري.

على أن تلمذته الحقيقية كانت على يدي العلّامة الكبير والشيخ الصالح الورع عبد الوهاب الشركة، فقد قرأ عليه الفقه بغزارة إذ وجد فيه مرامه ورغبته، وواظب على حضور دروسه، ودأب ينهل من معين علمه فتأثر بطريقة شيخه في البحث الدقيق والتثبت والتحرّي عن المسائل العلمية، حتى استوت له شخصية ناضجة واضحة المعالم، وأصبحت له في قلب شيخه مكانة خاصة، فهو موضع ثقته والأثير عنده، حتى إنه كان يوجّه له كثيراً من الفتاوى التي ترد إليه.

على أن شيخنا العقاد لم يكن منقطعاً للعلم وحده، ولم يكن يتخذ منه مصدراً للرزق، بل كان العمل الحر الشريف سبيله إلى ذلك، فمن قبلُ كان جدّه الحاج عبد القادر يمارس مهنة التجارة فلا عجب إن ورث الشيخ هذه المهنة عن جده فيما ورث عنه من خِلالٍ وصفات.

مناقبه وأخلاقه:

رأينا الشيخ رحمه الله عالماً عاملاً يكسب لقمته بكدِّ يمينه، وإنه لحريص ما استطاع أن تكون لقمة صافية ورزقاً حلالاً طيباً لا تشوبه شائبة من شين أو شك، على أن الشيخ الورع الحريص على نقاء ما يأتيه لم يلبث أن ترك هذه المهنة لِمَا بدأ يحوطها من معاملات ربا، وأساليب تبعث على الريب فاكتفى بما كان لديه. وأما ما كان يأتيه من راتب الأوقاف فإنه لم يكن ينفق منه شيئاً في حوائجه بل كان يدعه جانباً ليردّه من حيث أتى.

وزهد الشيخ في المناصب الدنيوية والوظائف الرسمية، فقد عُرِضَ عليه إفتاء الشافعية أكثر من مرّة ولكنه أبى ذلك وعزف عنه وآثر أن يبقى بعيداً عن هذه المظاهر الخادعة، على أن ذلك لم يمنع الشيخ من أن يقوم بدوره في هذا الميدان، فما أكثر الفتاوى التي كانت ترد إليه، فيجيب عليها بصدر رحب ويبين حكم الشريعة فيها، كما أن ذلك لم يقعد به عن أداء واجبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فله في ذلك الباع الطويل، وهو العالم الذي لا يتملّق لأحد.

وقد اتخذ شيخنا من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم القدوة والمثال، فسار على هديهِ واقتدى به سلوكاً وعملاً ومظهراً، فابتعد عن المظاهر الدنيوية وآثر الآخرة على العاجلة، فكان عفيف النفس حليماً عفوّاً كريماً، يصفح عمّن آذاه ويحاول أن يلتمس له عذراً.

وكان رحمه الله فيّاض اليد مبسوط الكف جواداً يحب الخير ويتصدّق على الفقراء والمساكين بعد أن يُحسِن اختيارهم ويتأكّد من حاجتهم. وهو طيب النفس حَسَنَ الخُلُق لا يسمح لأحد أن يغتاب أحداً حتى ولو كان من ألدّ الأعداء، وهو إلى ذلك منبسط الوجه منطلق الأسارير ليس فيه جفاء بالطبع أو خشونة المعشر، مما جعله موضع ثقة الناس وحُبِّهِم وإكبارهم، فكانت له في قلوبهم مكانة خاصة حتى إنه كان المرجع المفضل يستشيرونه في شؤونهم وأحوالهم ويكلون إليه الكثير من مشاكلهم لثقتهم في فضله وعلمه، فلا يبخل عليهم ولا يدّخر وسعاً في قضاء حوائجهم وحلّ مشكلاتهم.

مكانته العلمية:

رأينا الشيخ رحمه الله ينصرف إلى العلوم الدينية منذ نعومة أظفاره، حتى إنه رغب عن المدرسة وتعلّق قلبه بالفقه والعلوم الشرعية، فاتصل بكبار علماء عصره وتتلمذ عليهم وأخذ عنهم. ولعلّ من أكثر العلماء الذين تأثر بهم الشيخ وتركوا أثراً واضحاً في تكوينه العلمي العلّامة الفقيه الشيخ عبد الوهاب الشركة، والفرضي الكبير الشيخ مصطفى القباني، والعلّامة الشيخ عبد المحسن الأسطواني، والمحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني.

وقد احتلّ الشيخ رحمه الله مكانة علمية مرموقة بين رجال عصره وعلمائهم، فتخصص في الفقه الشافعي وتفرّغ لمسائله حتى غدا المرجع الأول فيه، وأصبح يُعرَف بالشافعي الصغير وهو بذلك صنو الشيخ عبد الوهاب الحافظ (دبس وزيت) الذي كان وجه الفقه الحنفي، فكان للأول مدرسة سار على نهجها طلابه في الفقه الشافعي، كما أن للشيخ عبد الوهاب دبس وزيت مدرسته في الفقه الحنفي في هذا العصر.

على أن شيخنا العقاد رحمه الله لم يُعنَ بالتأليف لأنه رأى أن العلماء المتقدّمين قد كفونا مؤونة ذلك، وهم لم يتركوا للمتأخرين ما يقولون فاستنفذوا مسائل هذا العلم وعملوا فيه بحثاً ودراسةً، غير أنه جمع كتاباً في العبادات يتناسب مع مستوى مريديه من طلاب المدارس وغيرهم. أما تلامذته من المشايخ فقد كان يُقرئهم ويقرر لهم الكتب الواسعة التي لم نعهد أحداً من أهل العلم في زماننا اشتغل بها كشرح البهجة ومغني المحتاج وشرح المنهج وغير ذلك.

وليس هنالك من كتاب طالعه الشيخ أو أقرأه إلا علّق عليه بالعبارات التامة والتحقيقات القيّمة.

وكان يومه سلسلة متصلة من حركة لا تفتر، فهو كما رأيناه تاجر يمارس أعماله، حتى إذا انصرف عن ذلك أخذ يمارس دور العالم الفقيه، فتتصل دروسه العلمية ومجالسه الدينية، وينصرف إلى الفتاوى التي وردت إليه ليُجيب عليها ثم إلى مسجد الشيخ الأكبر ليَؤمَّ المسلمين في صلواتهم وليقرر دروسه المعتادة.

هذا قبل أن يعتزل التجارة، أما وقد عزف عنها وعن شوائبها فإن عمله أصبح للعلم والقرآن والفتاوى الشرعية، يحرص الحرص الشديد على المحافظة على أوقاته فيقضيها بالعبادة والعلم وقراءة القرآن.

وفاته رحمه الله:

في يوم الجمعة الثاني عشر من جمادى الآخرة 1390 ه ، مرض الشيخ مرضاً أقعده الفراش، وفي يوم الثلاثاء السادس عشر من الشهر نفسه توفي الشيخ عقب العصر في جو من الهدوء والهيبة والجلال. فقد أوصى رحمه الله ألا ترتفع الأصوات بالبكاء وغيره.

وفي يوم الأربعاء خرجت الجنازة بشكلها المتواضع العاري عن الزينة المسرفة والأبهة الفارغة يتبعها موكب مهيب من جمهور الناس وعلمائهم لتوصل الشيخ إلى مقره الأخير في مقبرة الشيخ خالد النقشبندي حسب وصيته بعد أن صُلِّيَ عليه صلاة الظهر في جامع الشيخ محي الدين بن عربي.

وهكذا ودّع الشيخ الدنيا عن عمرٍ يناهز الثمانين قضاها فيما يرضي الله ورسوله ما بين طلب العلم وتعليمه والسعي في مرضات الله وأعمال الخير والبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان بذلك العالم الفقيه الورع والشيخ المرشد الصادق رحمه الله وعوّض الأمة عنه خيراً.

نسأل الله أن يجعل في الأمة من يسير على النهج السوي كما سار عليه شيخنا، وأن يدخل شيخنا في جنّته وأن يرحمه رحمةً واسعة.

والجنة مثوى الصالحين

تحميل