مميز
EN عربي
الكاتب: أ. د. حسان الطيان
التاريخ: 05/09/2010

الشيخ صالح فرفور

تراجم وأعلام

الشيخ صالح الفرفور

العالم العامل والأديب الشاعر

بقلم د. محمد حسان الطيان

رئيس مقررات اللغة العربية بالجامعة العربية المفتوحة

عضو مراسل بمجمع اللغة العربية بدمشق

مقدمة:

إذا أردت أن تنظر إلى العِلم يكسوه إهابٌ من عَمَل، وإلى القول يتحول إلى جدٍّ وفعل، وإلى الحرف يغدو قصيدة من شعر، وإلى البيان يحول سحراً على اللسان، فانظر إلى شيخنا العلامة محمد صالح الفرفور -رحمه الله وأعلى في الجنان مقامه-

وأراك تفعل ما تقول و بعضهم مَذِق الحديث يقولُ ما لا يفعلُ

ذاك الشيخ الجليل الذي بنى للعلم دولة، وأسس للخلق والتربية أمّة، وشيد للأدب والشعر مدرسة، ونفث في الأمة روح الدعوة، وربّى أجيالاً من طلاب العلم أصبحوا منارات يهتدي بها، و علامات يعّول عليها، وجَذَوات يقتبس منها.

فكان بحق مثلاً حياً لكل من عاهد فوفى، وعمل فعمل، وجاهد فصدق.

ولعله - والله حسيبه - من النخبة الخيّرة التي وصفها جل وعلا بقوله في محكم كتابه: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)[الأحزاب:٢٣]

عاش ما عاش للعلم، وطلب العلم، ونشر العلم, وبناء صروح العلم، حتى استبدَّ العلم بكل اهتماماته، وغلب على جميع أمره، فما تكاد تراه إلا في مجلس علم حتى لو كان في بيته وبين ذويه وأهليه.

تفجّر العلم من عليا شمائله كما يسُحُّ بوسط الروض سلسالُ

عنايته رحمه الله بأهل بيته وأولاده:

ما أعلم رجلاً من رجالات الأمة - فيما أدركت من زمن- أخذ أهله بالعلم أخذاً حازماً لا يلين كما أخذ الشيخ صالح أهله وبيته، بل حتى بناته، لم يغادر منهم أحداً إلا صنعَه على عينه عالماً متضلعاً من علوم الشرع والأدب والعربية، وخطيباً مصقعاً لا تخبو له كلمة، ولا تلين له قناة، ومربياً داعيةً لا تأخذه في الله لومة لائم, بدءاً بأكبرهم:

أستاذنا وشيخنا الشيخ الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور.

ثم شيخنا الشيخ الدكتور حسام الفرفور.

ومروراً بالشيخ الدكتور ولي الدين الفرفور.

والدكتور عبد الرحمن الفرفور.

والدكتور نصر الفرفور.

والدكتور عبد الله الفرفور.

وانتهاءً بأخينا الشيخ شهاب الدين الفرفور.

دع عنك البنات الداعيات: فاطمة، ولطفية.

لقد كان حقاً من خير الناس لأهله، مؤتسياً برسول الله rحيث يقول: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ".

الحديث أخرجه الدارمي (2265) قال: أخبرنا محمد بن يوسف. قال: حدثنا سُفيان. و"أبو داود" 4899 قال: حدثنا زهير بن حرب. قال: حدثنا وكيع.

و"التِّرمِذي" 3895 قال: حدثنا محمد بن يحيى. قال: حدثنا محمد بن يوسف. قال: حدثنا سُفيان.

كلاهما (وكيع ، وسفيان الثوري) عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة فذكره.

وإذا لم تكن الخيرية بالعلم الذي رفع المولى سبحانه أصحابه فبم تكون؟!

ومن أولى الناس بالانتفاع بالعالم، أليسوا أهله وذويه:

ومن ذا الذي ترجو الأباعد نفعَهُ إذا هو لم تصلُحْ عليه الأقاربُ

نشَّأهم جميعاً على حب العلم، وطلب العلم، ومصاحبة أهل العلم. فترى الواحد منهم لا هم له إلا العلم، فهو كلِِفٌ به، بل نهمٌ له، مغرمٌ فيه، لا يتغنى إلا به، ولا يتفاخر إلا بتحصيله.

وقد أخذوا عن والدهم خَلَّة لم تخطئ واحداً منهم، ألا وهي الثقة المطلقة بالله سبحانه ثم بما حصّلوا من علم، فهم لا يرون لأحد سبقاً عليهم في أي شأن من شؤون الحياة، لأن ما عندهم أغلى و أثمن، وأعلى وأبقى، وأعزُّ وأسمى.

إنه العلم الذي قال في حقه الحسن البصريt :((لا إله إلا الله، كادت العلماء أن تكون أرباباً، كل عز لم يؤكد بعلم فإلى ذل يؤول)) ]العقد الفريد لابن عبد ربه 1/291[

وكأني بهم المثل الحي لقول الحبيب المصطفى r:" من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي خيراً منه فقد حقّر ما عظمه الله" ]رواه النووي في كتابه: آداب حملة القرآن[

عنايته رحمه الله بتلامذته:

أما ما صنعه الشيخ بتلامذته وبمن حوله فأمر عجب، حول فيه الرمم إلى قمم، والجبناء إلى شجعان، والجهال إلى علماء، فتخرج به أفذاذ العلماء والخطباء والدعاة والمربين، وصاروا من بعده ملء العين والبصر والسمع والأذن، وعلى رأسهم:

شيخنا ريحانة الشام العلامة المقرئ عبد الرزاق الحلبي -أمتع الله به-.

والشيخ رمزي البزم -رحمه الله-.

والشيخ العلامة النظّار أديب الكلاس -حفظه الله-.

والشيخ إبراهيم اليعقوبي -رحمه الله-.

ومحدث الشام الشيخ عبد القادر الأرنؤوط- رحمه الله-.

والشيخ العلامة المحدث المحقق شعيب الأرناؤوط -حفظه الله-.

والشيخ موفق نشوقاتي -رحمه الله-.

والشيخ أحمد رمضان -حفظه الله-.

والشيخ عبد الفتاح البزم -حفظه الله-.

ناهيك عن أولاده الذين سبق ذكرهم.

على أن همة الشيخ لم تتوقف عند طلابه المقربين وأحبابه المنتخبين الذين كان يخصهم بأكثر من عشرة دروس في اليوم الواحد، ولا ينقطع درسه لا في عطلة ولا في عيد، بل إن من طريف ما أثر عنه أنه لم يتغيب عن درسه حتى في فجر عرسه!

من مزايا الشيخ رحمه الله:

وقد حدثني شيخنا الشيخ شعيب - وكان من خُلّص أصحابه لزمه نحواً من خمسة عشر عاماً وأخذ عنه من العلوم والآداب والفنون مالا يحصيه إلا المتخصصون فيها - أن الشيخ صالحاً كان إلى كل خصاله الحميدة وعلومه المستفيضة يمتاز بمزيتين رفيعتين هما:

1- الكرم.

2- الشجاعة.

فقد كان سخياً على تلامذته وطلابه يتعهدهم بعطاياه مع ما يتخولهم به من موعظة وما يقرئهم من علوم، وكان شجاعاً جريئاً لا تأخذه في الله لومة لائم.

من مآثر الشيخ رحمه الله:

ولم يقتصر نفعه وفضله على هؤلاء المقربين، وإنما امتدَّ ليشمل طلبة العلم من كل أصقاع الدنيا، وذلك حين أسس معهد الفتح الإسلامي الذي أصبح مهوى الأفئدة وملاذ طلاب العلم يجدون فيه كل ما يحتاجون إليه من علم وسكن وطعام وتربية، وقد عم نفعه وشاع أمره حتى جاوز عدد جنسيات الدارسين فيه المائة، يدرسون فيه جميع العلوم الشرعية من قرآن وتجويد وتفسير وحديث ومصطلح وأصول وتوحيد وفرائض وغيرها، كما يدرسون فيه العلوم العربية بأنواعها كالنحو والصرف والبلاغة والأدب والعروض والخطابة، بل إن ما يدرسونه من بعض علوم العربية يفوق ما يدرسه المتخصصون في أقسام اللغة العربية، وقد بلوت ذلك بنفسي؛ إذ درَّست بعض علوم العربية في جامعة دمشق وفي معهد الفتح وقسم التخصص فيه، فوجدت البون شاسعاً في المادة العلمية المقررة، وفي تلقّي الطلبة لها، ومقدرتهم على فهمها، وحسن استجابتهم لكثير مما يُطرح عليهم فيها. ويكفي أن أذكر أن ثمة كتابين جليلين في علوم العربية يدَّرسان في معهد الفتح، لا يعرفهما كثير من خريجي أقسام اللغة العربية في جامعاتنا، بَـلْـهَ أن يدرسوهما، وهما:دلائل الإعجاز للجرجاني

الاقتراح في أصول النحو للسيوطي.

من علوم الشيخ رحمه الله:

وشيخنا الشيخ صالح- برَّد الله مضجعه- حجة في علوم شتّى وبِدعٌ في فنون مختلفة:

أتقن فقه الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان حتى صار مرجعاً فيه.

وحَذِق أصول الفقه حتى لكأنه شاطبي عصره.

وولج باب التفسير بعد أن استتبَّت له علوم القرآن المختلفة فكان مدرسة تخَّرج بها الكثيرون ونهل منها العلماء والمتذوقون.

حدثني غير واحد من تلامذته وأنجاله أنه كان يضع النص القرآني على السبورة ثم يلتفت إلى طلاب الحلقة يناقشهم فيه، فلا يدع فناً من فنون العربية واللغة والنحو والبلاغة والبيان والإعجاز والفقه والأصول إلا خاض فيه، حتى يدع النص وقد أوسعه دراسة وفهماً وتحليلاً وعلماً.

اهتمامه رحمه الله بالعلوم الكونية:

بل إنه تجاوز علوم الشرع واللغة إلى علوم الفلسفة والمنطق والفلك والحساب وغيرها .. وله في الفلك وعمل الاصطرلاب جولات وجولات. بل إن له في علم التعمية – الشفرة - مشاركة لا يعلمها كثير من الناس, وعندما كنا نهيئ لإخراج الجزء الأول من كتابنا (علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب- الشفرة وكسرها) راعني أن شيخنا يعلم الكثير عن هذا العلم - أعني التعمية- وتضم مكتبته العامرة رسائل مهمة فيه وعدني بالاطلاع على بعضها, وحالت حوائل المرض والبعد دون ذلك.

بلاغة الشيخ رحمه الله وفصاحته:

والشيخ إلى هذا وذاك أديب قد امتلك ناصية البيان، وخطيب مصقع ذرب اللسان، دانت له المنابر والمحافل في كل زمان ومكان، وشاعر مفلِق مطبوع يرقى شعره إلى مصاف الشعراء الفحول، ولا غرو فحبّ العربية عنده من الدين، وتعلمها وتعليمها لا يقل في نظره أهمية عن تعليم أي فن من فنون الشرع الحنيف إن لم تكن هي الأهم والأولى، لأنه كان يؤمن أنها الوسيلة التي لابد منها لتعلم علوم الشرع المختلفة، ومن فقدها فلا خير فيه ولا علم عنده ولا نفع يرتجى منه.

من أجل هذا أعطاها الشيخ رحمه الله وقته وكد في طلبها، ومنحها ذوب نفسه، فكان حفياً بها، محباً لها، كلفاً بدروسها، مفتنّاً في تعليمها على اختلاف فنونها. وله في ذلك مؤلفات بلغت الغاية في البلاغة والبيان، وغدت نصوصاً تدرس في مقررات الأدب سماها:.سلسلة الخلود ( من نفحات الخلود، من نسمات الخلود، من رشحات الخلود).

دع عنك ما ألفه في شتى العلوم والفنون وأضفى عليه من أسلوبه وديباجته مسحة أدبية عالية.

كما أن له ديوان شعر ما زلنا نتطلع إلى نشره، يشتمل على قصائد من عيون الشعر تشهد بعلو كعبه وسماحة طبعه وقوة عارضته، ولا تتسع هذه العجالة لإطلاع القارئ عليها.

بيد أنني سأقتصر على إيراد أبيات له من قصيدة عصماء ما سمعها أحد إلا خلبته وافتتن بها افتتان ذواق الجمال بالغادة الحسناء ترفل بأبهى حلة وتميس بأرق دل:

أحيــانا حبّـك يا مختـار ُ أحيانـا

وأصبح الحفل من ذكراك نشوانا

مهمـا كتمتُ لـظى شـوقٍ يؤرقني

قد يفضح القلبَ دمعُ العين أحيانا

يا قلبُ أنت جنيت الحب من صِغَر

وشبَّ فيك فذُق يا قلب أشجانا

يـهـزني طَربـا ذكراكُــمُ أبــدا

كما يـهـزُّ نسيمُ الصبح ِ أفنـانـا

في الفرس قد سجدوا للنار مُسعَرة

والروم قد عبدوا صُلبا و أوثانا

والعربُ قد وأدوا عار البنات وقد

جاروا عليهن تضليلا و بُهتانا

حـرَّمتَ وأدَ التي لا ذنبَ تعرفـهُ

ولا أتت دهرَها بغيا و عدوانا

رفعتَ من شأنها و الكــلُّ يمقتها

حتى جعلتَ لها من ذلّها شانا

حررت بالدين أعناقــا قد انسجنت

تحت الخُنُوع وتحت الذُّل أزمانا

إن النفوس وإن باتت على مَضَض

من جَور ظالمها تُصليك نيرانا

فاعدل بما بينها و ارعَ كرامتها

و لا يَغُرَّنْكَ ثوبُ الضعفِ أحيانا

تحميل