المرأة في ميزان الشريعة الإسلامية مروراً بواقعها في المجتمع الغربي
بسم الله الرحمن الرحيم
المرأة في ميزان الشريعة الإسلامية مروراً بواقعها في المجتمع الغربي
الإمام الشهيد البوطي
سأتحدث عن واجبات المرأة وحقوقها، في ميزان الشريعة الإسلامية، بقطع النظر عن واقع المجتمعات الإسلامية، التي تختلف في مدى التزامها بأحكام الشريعة الإسلامية.
أولاً: يخاطب الله كلاً من الرجل والمرأة في القرآن، على مستوى واحد من الخطاب التكريمي وعلى مستوى واحد من التنويه بالقيمة الإنسانية التي يشتركان فيها. فهو يقول مثلاً:
(من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فنحيينه حياة طيبة، بعضكم من بعض)[آل عمران: 195] ويقول: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) [الأحزاب:35]
ثانياً: يقرر القرآن ما يسمى في الشريعة الإسلامية بالولاية المتبادلة بن الرجل والمرأة، فيجعل من الرجل مسؤولاً عن رعاية المرأة، ويجعل من المرأة مسؤولة عن رعاية الرجل. إذ يقول: (والمؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) [التوبة:71]
ثالثاً: يقرر الإسلام طائفة من الواجبات يفرضها على كل من الرجل والمرأة، كما يقرر طائفة من الحقوق يمتّع بها كلاً منهما، فما هو مصدر الواجبات التي تلاحقهما. وما هو مصدر الحقوق التي تعطى لهما؟
مصدر الواجبات في كل من الرجل والمرأة عبوديتهما أي مملوكيتهما التامة لله عز وجل. وبما أن صفة العبودية في كل منهما واحدة لا تتفاوت، فقد كانت الواجبات التي خاطبهما الله تعالى بهما واحدة أيضاً. وإذا استعرضنا سلسلة التكاليف التي ألزم الله بها عباده، لاحظنا مصداق ما أقول. وإذا كانت هناك حالات استثنائية تتجلى فيها واجبات لا يتساوى فيها الرجل والمرأة، فلا مدخل لصفة الذكورة والأنوثة فيها، وإنما ذلك لعوارض أخرى، كالتي قد تحدث فيما بين الرجال أنفسهم فتؤدي إلى اختلاف الواجبات فيما بينهم.
أما مصدر الحقوق لكل من الرجل والمرأة، فهو معنى الإنسانية الماثل في كل منهما. وبما أن معنى الإنسانية هذه في كل منهما واحد لا يتفاوت، فلا يعلو في ذلك رجل على امرأة ولا العكس، فقد كانت الحقوق التي متع الله كلا منهما بها واحدة. وإذا كانت هناك حالات استثنائية، فليس ذلك عائداً لصفة الذكورة والأنوثة، وإنما مردّه إلى العوارض الطارئة التي استدعت هذا الاختلاف كما سنجد من الأمثلة التي سنذكرها.
ولا بدّ لدى المقارنة من أن نتساءل في المقابل عن مصدر واجبات المرأة وحقوقها في المجتمعات الغربية. والجواب الذي نتبينة على صعيد الواقع المرئي، هو أن مصدر الواجبات التي تلاحقها هو سلطان المصالح المادية، أما مصدر حقوقها فهو أنوثتها.
ولقد كان من آثار سلطان المصالح المادية الذي يمثل مصدر الواجبات، ظهور أنواع من التعسف والظلم، انحطّ معظمه على المرأة. إذ هي مكلفة بسلطان هذا الدافع المادي بإعالة نفسها سواء أكانت فتاة في بيت أبويها، أو زوجة في كنف زوجها، ما دامت قادرة على طرق باب أي عمل تكتسب منه!..
فما النتيجة التي جناها الغرب من وراء الاستسلام لهذا المصدر؟.
هما نتيجتان: أما أولاهما فهي أنه قضى بذلك على الأسرة إذ دمّر أهم مقوماتها. ذلك لأن الأسرة لا تنتعش إلا من خلال التضامن الذي يسري بين أفرادها، والذي يتمثل في مسؤولية الزوج عن الزوجة ومسؤولية الأبوين عن الأولاد. وهذا ما قضت عليه فلسفة الواقع عندما جعلت كل فرد فيها مسؤولاً عن نفسه.
وأما النتيجة الثانية، فهي أن الغرب عرّض أنوثة المرأة بذلك للدمار، لأنها أُخْرِجَتْ إلى العمل اضطراراً لا على وجه التوسع والاختيار، الأمر الذي حرمها من فرصة اختيار العمل المناسب لها والمتفق على أنوثتها. فإن وافاها الحظ بعمل مريح فذاك، وإلّا فلا بدّ لها من قبول أي عمل لا تجد أمامها خيراً منه .. وفي هذا الجوّ وتحت سلطان هذه الضرورة تغيب فوارق ما بين الأعمال النسائية وأعمال الرجال. فما من عمل قاس مجهد مما يمارسه الرجال، إلا وتجد نساء كثيرات قد سبقتهم إليها بحكم الضرورة التي لا مناص منها.
ولقد كان من آثار سلطان الأنوثة الذي يمثل على الصعيد العملي المصدر الأول لحقوق المرأة، أنه إذا ولّت هذه الأنوثة وغاض ألق الشباب، ولّت معها مظاهر الإعزاز والإكرام التي كانت تتمتع بها، وربما حلّ محلها كثير من ضروب الإيذاء والامتهان.
وإذا كانت نصوص القوانين المكتوبة على الورق تنطق بغير هذا الذي أقول، فإن الوقائع المؤلمة التي تدور رحاها عل المرأة الغربية التي تجاوزت مرحلة الشباب والكهولة، لا تُبقي أثراً لسلطان النصوص القانونية وسحرها الخلاب.
تنتشر في أمريكا اليوم ملاجئ كثيرة من نوع خاص، لاستقبال النساء اللاتي أتيح لهن الفرار من وابل الضرب والتحطيم، من قبل الأزواج أو الأصدقاء. وتحيط بهذه الملاجئ ديكورات مزخرفة للتمويه، ابتغاء قطع السبيل إلى معرفة هذه الأماكن التي يأوي إليها هذا القطيع الكبير من النساء المنكوبات، كي لا يلاحقهن الأزواج أو الأصدقاء بالضرب والأذى إلى المأمن الذي التجأن إليه!..
وقد كتب Richard.f.Jones الأستاذ في معهد القبالة وأمراض النساء في أمريكا مقالاً عن هذه الظاهرة الوبائية المخيفة بعنوان: Domestic violence Let our افتتح مقاله بقوله: هناك وباء يجتاح بلادنا. إنه لشنيع، وإنه غير قابل Voices be heard للتجاوز عنه. ثم قال الكاتب: إنه في كل 12 ثانية امرأة تضرب إلى درجة القتل أو التحطيم، من قبل صديق أو زوج. وفي كل يوم نرى نتائج هذا الضرب وآثاره في مكاتبنا في غرف الطوارئ لدينا، وفي عياداتنا!..
أقول: وأغلب الظن أنه لا يستثنى من التعرض لهذا الوباء إلا اللائي أسعفهن حسن الحظ بمراكز وظيفية مرموقة أو مكانة اجتماعية متميزة.
أما المرأة في مجتمعاتنا الإسلامية (ولا يزال يحكم أكثرها كل من النظام والتربية الإسلامية) فتزداد مكانتها في نفوس الرجال وأعينهم سمواً، كلما تقدم بها السن وازدادت دنواً من مرحلة الشيخوخة. فالمرأة المسنة في الدار هي السيدة الأولى فيها بغير منازع. لها الكلمة النافذة، والكل يعاملها بالتبجيل والتقديس.
وأساس ذلك أن مصدر حقوق المرأة في الإسلام إنسانيتها كما قلنا. والتربية الإسلامية لا تزال – بفضل الله – سارية التأثير في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، مهما قلنا عن تقصير المسلمين في الالتزام بإسلامهم وفي الانضباط بأنظمته وأخلاقيته.
ولقد كان من آثار اعتماد الشريعة الإسلامية لهذا المصدر (وهو إنسانية المرأة) أنها - أي الشريعة الإسلامية - متعت المرأة بحق العمل الذي يكون مشرعاً بحد ذاته، على أن تتحقق كفايتها المعيشية عن طريق مسؤولية الأب أو الزوج، لكي يكون سعيها إلى العمل ابتغاء رفاهية وتحسين معيشة لا بدافع الضرورة. وبذلك تستطيع أن تقي نفسها من الأعمال المرهقة التي لا تتناسب مع أنوثتها، وأجر العمل – فيما تقرره الشريعة الإسلامية – مرتبط بمدى اتقان العمل لا بهوية العامل. فالرجل والمرأة في أجر العمل سواء، ما دامت درجة الإتقان فيه واحدة، على أن يلاحظ في ذلك سلم الأولويات عند تزاحم الأعمال.
وكان من آثار هذا المصدر أيضاً مساوة الرجل ولمرأة في حق الشورى، سواء في اختيار أعضائه، أو في اشتراكها مع الرجال في هذه العضوية، أو في اختيار الحاكم ومبايعته.
غير أن في الناس من يثير انتقادات توحي بخلاف ما قد أوضحت:
منها وقوفهم عند قول الله تعالى: (الرجال قوامون على النساء..) بالنقد. إذ يلحقون بكلمة (قوامون) المعنى الباطل الذي يتماشى مع نقدهم، وهو تسامي الرجل على المرأة في الحياة الزوجية بالقهر والاضطهاد!. غير أن المعنى المعروف لغة والمعتمد شرعاً لها، هو الرعاية والإدارة اللتان تُشعران المرأة بأنها تعيش في كنف الرجل، لا القهر والاضطهاد اللذان تحذر منهما شريعة الإسلام.
ومن المقرر علمياً وعملياً ان المرأة إنما يسعدها في الحياة الزوجية أن تشعر بأنها تعيش في كنف الرجل وحماه، كما تقرر ذلك الطبيبة الألمانية (إسترفيلار)[1] ولو ابتلتها الأقدار بحياة زوجية معاكسة بحيث تكون هي الراعية والحامية، ويكون الزوج هو المنضوي تحت كنفها، لوقعت من جراء ذلك في شقاء وبيل.
ومنها قولهم: إن القرآن جعل شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل، وهو دليل واضح على أنها لا تنال إلّا نصف ما يناله الرجل من الحقوق.
وأقول: إن الذين درسوا الشريعة الإسلامية يعلمون أن موقفها من قيمة شهادة المرأة كموقف القوانين والمجتمعات الغربية سواء بسواء. فالقوانين الغربية، كغيرها، تهتم بعنصر الشهادة في مرحلة التحقيق وجمع المعلومات، لا عند إصدار الأحكام. ومن المعلوم أن هذه القوانين لا تفرق في ذلك بين شهادة الرجال والنساء. ومن الثابت أن الشريعة الإسلامية تتفق في هذا مع القوانين الوضعية كل الاتفاق. فعلى المحقق أن يستأنس في مرحلة التحقيق بالشهادات المتوفرة الصحيحة، والرجل والمرأة في ذلك سواء.
أما الاعتماد على الشهادة في قول الله تعالى (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان..) فذلك لدى إصدار الحكم أي سنداً لإصداره. وإذا كانت الشريعة الإسلامية تشترط للاعتماد على الشهادة، والحالة هذه في مكان الرجل الواحد امرأتين، فإن القوانين الوضعية لا تعتدّ بشهادتها في ذلك مطلقاً، كما لا تعتدّ بشهادة الرجل أيضاً.
على أن السبب في اشتراط القرآن شهادة امرأتين في مكان شهادة الرجل في قضايا المال، ليس عائداً إلى أنوثة المرأة كما قد يتوهم البعض. وإنما هو عائد إلى شرط أساسي في الشهادة، وهو أن تكون للشاهد صلة وثيقة بالموضوع الذي يشهد فيه، رجلاً كان الشاهد أو امرأة. فإذا كان موضوع الخصومة مما تكون صلته بالمرأة أشدّ ودرايتها به أعمق فالأولوية لشهادة المرأة، كمسائل الحضانة والنسب والرضاع. وإذا كان مما صلة بالرجال أوثق، فالأولوية في ذلك لشهادتهم، كمسائل الجريمة والسطو والقتل.
ومنها ما يتوهمونه من أن نصيب المرأة في الميراث نصف نصيب الرجل دائماً، مستندين إلى قول الله تعالى: (..للذكر مثل حظ الأنثيين)!.. وهذا الوهم يستند في الحقيقة إلى جهالة كبرى لا تغتفر.
فالقرآن إنما قضى بهذا الأمر في حالة واحدة فقط. وهي أن يموت المورّث ويترك أولاداً ذكوراً وإناثاً أو إخوة وأخوات. من المعلوم أن الابن والأخ يعصب كل منهما أخته، أي يجعلها شريكة معه في تملك ما يبقى من الميراث بعد أن ينال أصحاب الحصص المحددة حصصهم. فعندئذ يكون للأخ المعصِّب ضعف ما تناله أخته المعصِّبة. أما ما عدا ذلك، فالمرأة والرجل في الحصص الإرثية المحددة متساويان، بل ربما زادت حصة المرأة على حصة الرجل في كثير من الأحيان.
ومنها استنكارهم حجب الشريعة الإسلامية وظيفة رئاسة الدولة عن المرأة في ظل المجتمع الإسلامي. وأقول باختصار لهؤلاء المستنكرين: إن قسماً كبيراً من المهام التي يقوم بها وليّ أمر المسلمين في المجتمع الإسلامي، دينيه محضه كصلاة الجمعة وخطبتها والأعياد، وصلاة الاستسقاء والكسوف.. إلخ، ومن المعلوم أن المرأة لا يتأتى لها النهوض بهذه الشعائر العبادية بشكل شخصي في كل الأوقات، فضلاً عن أن تنهض بها على مستوى القيادة للآخرين.
وبقطع النظر عن هذه المعذرة الخاصة، فإن الواقع التاريخي منذ أقدم العصور كان ولا يزال متفقاً مع هذا الذي قررته شريعة الإسلام. تأمل في أسماء من نصبوا ملوكاً أو رؤساء لدولهم منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا، ستجد أن النساء اللائي تبوأن هذا المركز لا يزيد على عدد أصابع اليدين .. وها هي ذي الولايات المتحدة التي تهيب بنساء العالم أن يطالبن بحقوقهن، لم نسمع عن امرأة واحدة تولت الرئاسة فيها، منذ فجر ولادتها إلى اليوم، بل لم نسمع عن امرأة رشحت نفسها للرئاسة فيها.
أعتقد أن هذا أكثر ما يقال في الغرب عن المرأة في ظل الإسلام. أما ما نقوله نحن عن المجتمع المأساوي للمرأة في الغرب فكثير، وقد أشرت في هذا الموجز إلى بعضه.
والحمد لله رب العالمين.
[1] انظر صفحة 24 من كتاب: حق الرجل في التزوج من امرأة ثانية للطبيبة : أ. فيلاد ترجمة الهادي سليمان