مميز
EN عربي
الكاتب: العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
التاريخ: 15/02/2016

خطر مرض الإيدز ... والاستنجاد بالوازع الديني

مقالات

خطر مرض الإيدز ... والاستنجاد بالوازع الديني
للإمام الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
ما الوازع الديني أيها الإخوة؟
إنه باعث نفسي يتنامى لدى الإنسان من جرّاء إيمانه ويقينه بالله عز وجل، ثم من جرّاء تعظيمه له، وخوفه منه، وحبه له، وثقته به، فيدفعه إلى اتباع أوامره واجتناب نواهيه، والثقة بالمصلحة الكامنة في شرائعه وأحكامه.
ومن شأن هذا الباعث إذا هيمن على كيان الإنسان أن يخفف من غلواء الشهوات والأهواء في نفسه، وأن يصغر الدنيا بكل ما فيها من زخرف في غيبه، وأن يوجه آماله وأمانيه إلى الخير الذي وعده الله به، مما هو مقبل عليه بعد الموت.
وعندئذٍ يتكون له من هذا الوازع حصن يقيه من آفات الحضارة (ولكل حضارة آفات) فيجني الناضج والطيب من ثمارها، وبتعد عن المرّ والمهلك من حناظلها.
غير أن فكرة الوازع الديني، تستنبت اليوم، في ربوع الغرب، ولدى المسلمين التقليديين الذين يشكلون كثرة غالبة في البلاد العربية والإسلامية، فيما يشبه أنابيب الإخصاب أو الحقول الاصطناعية التي يتم فيها زرع أنواع من النباتات والأعشاب.
بيد أن العلم مهما أبرز قدرة في نجاح الحقول الاصطناعية وأنابيب الإخصاب، فلن تكون له قدرة ما على غرس الوازع الديني في حقول الحاجات أو الضرورات الخارجية، أياً كان نوعها.
أي أن الاعتماد على الباعث الذرائعي في حمل الناس على التدين والالتزام بضوابط الدين، دون أخذ الإنسان منذ طفولته الأولى بحوافز الإيمان بالله والخضوع لسلطانه بطريقة علمية مقنعة، لن يأتي بأي نتيجة إيجابية، وأغلب الظن أنه لن يقوى على تحقيق أي نجاح.
لقد كان المربي والفيلسوف الفرنسي (جان جاك روسو) من أوائل من روج للدين الذرائعي، أي لتوظيف الدين، بقطع النظر عن صحته أو عدم صحته، لخدمة النظام المتبع والرغائب المتفق عليها، ولقد كتب العالم البريطاني (نبتام) في ذلك موسوعته التي سماها (أصول الشرائع) وأصدر الفيلسوف الأمريكي كتابه (البراجماتزم) و(إرادة الاعتقاد) و(العقل والدين) وكل ذلك يدور حول محور السعي إلى إيجاد الوازع الديني من خلال الشعور بالحاجة الاجتماعية إلى ذلك. فأين هي آثار ما كتبوه أو اصطنعوه أو دعوا إليه في أي من مجتمعاتهم الغربية.
ها هي ذي مشكلاتهم المتنوعة تتوالد وتتفاقم، وها هي الحقول الاصطناعية لم تنبت في نفوس الناس شيئاً مما يسمى بالوازع الديني.
لست هنا بصدد نقد النهج الذرائعي عند الغربيين، فيما يسعون إليه من معالجة مشكلاتهم التي يعدّ مرض الإيدز واحدة من أبرزها. فإن لدينا من عدوى هذا النهج ما يملك علينا الوقت كله للنظر في معالجة أنفسنا.
إن واقع مجتمعاتنا العربية هي لب المجتمعات الإسلامية، لا يكاد يدع فرصة للوازع الديني أن يسلك طريقه الصحيح إلى القلوب.. إنه يفور يغلي بكل ما من شأنه أن يستثير في النفوس الغرائز والأهواء وأن يزجها في سبيل الغواية والانحراف. ثم إنه يفيض إلى جانب ذلك بالأفكار التي تحترف محاربة الحق والترويج للباطل.
ولا ريب أن من شأن ذلك كله أن يعكر صفاء الفطرة الإيمانية في النفوس، وأن يمد غاشية من الأوهام والضلالات على الألباب والعقول، فتتجه القلوب من جراء ذلك إلى التعلق بالشهوات والأهواء وتشتغل بالسعي وراء زخارف الدنيا ولذائذها. ومن ثم فلا يبقى فيها متسع لشيء من مشاعر الحب لله أو الخوف منه أو التعظم لحرماته. وهل الوازع الديني إلا هيمنة هذا الشعور الثلاثي على الفؤاد؟
كل هذا، وأكثر الممسكين بأزمّة الأمور يرون البريق المبهج الخادع، ولا يبصرون العواقب القريبة المدمرة. فيمعنون في ترويجهم لذلك البريق، وتجند لذلك أجهزة الإعلام على اختلافها، حتى إذا فوجىء القوم بنكبة تسربت ولا علاج لها إلا الدين، تلفت الكل عن الوازع الديني!! وجيء بالأئمة والمرشدين .. وعقدت لذلك ندوات، وحشدت الكلمات.
نفاجأ في مجتمعاتنا هذه بما تفعله المخدرات، وبالويلات الصاعقة التي باتت تهددنا بها، فتتذكر عندئذٍ ضرورة استدعاء الوازع الديني .. ويردعنا الفساد المستشري التي غدت السبيل الشرعي الأول للكسب والارتزاق عند كثير من الناس، فنهرع بحثاً عن الوازع الديني .. وتطل أخطار هذا الوباء المرعب على العالم كله، من حيث لم يكن متوقعاً لدى أي من ذوي التنبؤات العلمية والتأملات المستقبلية، ويستيئس الباحثون والمعالجون من فائدة الاستنجاد بأي مصل أو دواء، فيضطرنا الحال مرة أخرى للاستنجاج بالوازع الديني!...
ألا تلاحظون، أيها السادة، أن الوازع الديني يُنظر إليه وإلى سبيل الاستفاة منه، والحالة هذه، كما لو كان من العقاقير العلاجية أو المبيدات الزراعية، يترك بعيداً في الخزائن أو الرفوف، حتى إذا هجمت الضرورات الداعية إلى استعماله، تذكروه من نسيان، وأقبلوا إليه فاستخرجوه من خزائنه أو رفوفه، ليسعفوا به أنفسهم من أخطار قيل لهم إنه لا علاج لها إلا الوازع الديني!..
فمن قال إن الوازع الديني أداة تستخدم عند الطلب، أو أنها تجنّد لتحقيق الرغائب وقضاء الأوطار؟
وليكن واضحاً أيها السادة أنني لا أعني بهذا، أن المصائب التي تفاجئ الإنسان، لا يمكن أن توقظه من ضلاله، ولا يمكن أن تغرس في فؤاده شعوراً غامراً من الوازع الديني. بل ما أكثر ما تكون المصائب سياط تربية أو أجراس إيقاظ، فيتحول صاحبها من أقصى درجات التيه والضياع، إلى أتم درجات الرشد والانصياع.
ولكن الذي استنكره هو أن يظل المجتمع عاكفاً على نهجه المخالف لأوامر الله بعيداً عن الاصطباغ الحقيقي بذل العبودية لله، ثم إنه يستنجد مع ذلك في أوقات الشدة بما يسميه الوازع الديني.
والذي أطالب به وألح عليه، هو أن على قادة الأنظمة في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، عندما تداهمها أخطار كهذا الخطر الذي نتحدث عنه، وقد استيقنت أنه لا ملاذ منها إلا إلى الله، بالاصطلاح معه والتوبة إليه، أقول: إن على قادة هذه المجتمعات أن يفعلوا ما يفعله أولئك الأفراد الذين أيقظتهم سياط هذه المصائب وأعادتهم إلى الله، فيضبطوا مجتمعاتهم بأنظمة الشرع وأحكامه، ويأخذوا الناشئة ذكوراً وأناثاً بأصول التربية الإسلامية وضوابطها في المدارس والأسواق، والأندية، ومن خلال وسائل التثقيف والإعلام.
وهذا أول أثر من آثار الوازع الديني، عندما يسري سلطانه في أفئدة الأفراد وكيان المجتمعات. وسيتحقق لهذه المجتمعات من ذلك الحصن الواقي من هذا الخطر وأمثاله، وما الحصن في الحقيقة إلا الانصياع لشرع الله في تنظيم صلة مابين الرجل والمرأة عن طريق الضوابط والأحكام التي شرعها الله عز وجل للجميع.
وصفوة القول أن قيمة الوازع الديني إنما تتجلى في دفعه الإنسان إلى الانصياع لأمر الله رغباً ورهباً بحكمته ورحمته. فإذا تحقق الانصياع لأمر الله على مستوى الفرد والمجتمع، تطهر المسلم من هذا الوباء وأسبابه. وأما الاستنجاد بكلمة (الوازع الديني) ومحاولة اعتصار مصل واق أو مفيد منها، فسعي لا طائل منه، وإنه لأشبه ما يكون بمن يحاول التطبب باسم الدواء أو بمظهره وشكله، دون أن يستعمله على الوجه الملطوب مشفوعاً بالحمية المطلوبة معه.
وإذا لم يظهر أثر الوازع الديني في حمية يأخذ المجتمع نفسه بها، وفي صبر على الدواء الذي وصفه وأمر به مصدر هذا الوازع، وهو الله عز وجل، ففيم الحديث عن وهم لا وجود له؟ وفيم الاستنجاد باسم لا مسمى له؟
وعلى كل حال، فالله المستعان أن ينقلنا من التعامل بالألفاظ والشعارات، إلى المثول في محراب العبودية لله خاضعين لحكمه مطبقين لشرعه، والحمد لله رب العالمين.

تحميل