نجاة والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والصلاة عليهما
نجاة والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والصلاة عليهما
هذه موعظة ونصيحة من ملا رمضان البوطي لمن يقولون بالصلاة على والدي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويتهمون المنكرين للصلاة عليهما بأنهم يحكمون بكفرها.
وحاشا أن يقول رجل مؤمن بكفرهما، بل إن العلماء ذكروا أدلة على إسلامهما أو نجاتهما. منها - وهو أقواها - أنهما من أهل الفترة، أي ممن عاشوا في المدة التي لم تدركها تعليمات النبي السابق، ولم يدركوا بعثة النبي اللاحق. والدليل على نجاة أهل الفترة عموماً قول الله عز وجل: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)[الإسراء:17/58] ومنها حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يحيي له أبويه، فأحياهما له، فآمنا به ثم أماتهما. إلا أنه حديث ضعيف لم يعول عليه علماء الحديث. ومنها ما رأيته في بعض كتب التفسير، في تفسير قوله تعالى (وتقلبك في الساجدين) [الشعراء:26/219] أي تقلبك من بطن إلى بطن ومن ظهر إلى آخر في الساجدين. فهو إشارة واضحة إلى أن آباء رسول الله كلهم مؤمنون أو في حكم المؤمنين. ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أشرف المخلوقات. وينبغي أن لا يحل الشريف إلا في الشريف، والحكم بكفرهما ينافي ذلك.
فثبت بهذه الأدلة أنهما ناجيان إن شاء الله، ولا ينافيهما حديث مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي.
فإن ظاهر هذا الحديث لا يدل على أنهما غير ناجيين، إذا قد يكون النهي عن الاستغفار لسبب آخر، الله أعلم به، والدليل إذا دخله الاحتمال سقط به الاستدلال، نظيره نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على الميت الذي عليه دين لم يوف عنه دينه. فهو أعم من أن يدل على كفره.
وكيف نحكم بكفر أبوي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كنت أقرأ (تبت يدا أبي لهب) [المسد:111/1] في بعض الأحيان، فقرأت في بعض الكتب رواية عن بعض الصالحين، أنه كان يكثر من قراءة هذه السورة، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤيا، وفي وجهه علائم التأثر والعتاب، وقال له: أليس هو عمي؟ يقصد أبا لهب. ومنذ ذلك الحين أمسكت عن قراءة هذه السورة إلا في الختم؛ إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما امتناعنا عن الصلاة على أبويه، فإنما أثبتناه هو الآخر عن طريق العلم والاتباع. ولنوضح لك هذه الأدلة:
أولهما: وجوب امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقد روى البخاري في صحيحه أن الصحابة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) كيف نصلي عليك يا رسول الله؟ فقال قولوا: اللهم صل على محمد وآله وذريته وأزواجه كما صليت على ابراهيم ... الحديث
ثانيهما: ضرورة اتباعه صلى الله عليه وآله وسلم في امتناعه عن الاستغفار لأمه، لما نهاه الله عز وجل عن ذلك. بل إنني ما وجدت في أدعية رسول الله كلها استغفاراً لأبويه أو لأحدهما، مع كثرة صيغ الاستغفار الواردة عنه. كقوله قبل النوم: رب اغفر لي ذنبي واخسأ شيطاني وفكَّ رهاني وثقل ميزاني، وكقوله: رب اغفر لي ذنبي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم.
ولا يستدل بهذا الامتناع منه عليه الصلاة والسلام، على كفرهما، إذ إن النهي الذي تلقاه عن ربه قد يكون لحكمة خفية عنا، كما ذكرنا آنفاً.
ثالثاً: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة من أجل العبادات. والعبادات لا تصح إلا باتباع الوارد فيها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. بحديث فعلي أو قولي صحيح. أو بإجماع الفقهاء. والثابت يقيناً، أنه لا رسول الله أمر الصحابة بالصلاة على أبويه، ولا أصحابه فعلوا ذلك، ولا التابعون ولا من بعدهم.
وقد قرر العلماء أن الامتثال خير من الأدب بمعناه الظاهر عند التعارض.
ومن التطبيقات الاحتياطية لهذه القاعدة، ما هو ملاحظ من أن الإمام الشافعي في كتابه الأم، إذا ذكر اسم رسول الله لا يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بل يقول محمد صلى الله عليه وسلم.
كما ذكر في بعض حواشي التحفة لابن حجر أن بعض الناس اقترح زيادة (سيدنا) في الأذان والإقامة. فرد الفقهاء جميعاً بأن ذلك غير وارد، فلا رسول الله أمر به، ولا الصحابة أو التابعون فعلوا ذلك. مع العلم بأن التساهل هنا أقرب - لو كان جائزاً - من التساهل في الصلاة على أبوي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومع ذلك فقد رفضت هذه الزيادة بالإجماع.
وإذا لم تقتنع من هذه القاعدة التي ذكرها العلماء، وهي أن الامتثال خير من الأدب، فاذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتفق عليه: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ). وقال الله تعالى ((أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله...)) [الشورى:42/21].
وقديماً قال العلماء أيضاً:
كل خير في اتباع من سلف كل شر في ابتداع من خلف
والنتيجة أنه لا يجوز الإقدام على أي عمل تديناً إلا بعد معرفة حكم الله فيه، كما نص على ذلك الفقهاء جميعاً. فما هو مرجعنا النقلي في الإقدام على هذه البدعة.
والذي يدعي أنه بهذا الابتداع يثبت محبته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ليس له شاهد على ما يقول. فإن الله جل جلاله قال ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني))[آل عمران:3/31] وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((أحبوا الله لا يغذوكم من نعمه، وأحبوني لحب الله إياي)) فقد علق رسول الله محبتنا له كما ترى بمحبة الله لا بأي شيء آخر. وإنما أساس ذلك الاتباع.
بل إنني أرى أن إقحام كلمة (والديه) في الصلاة يبطلها.
بل لقد رأيت في بعض الكتب الفقهية أن المصلي لو قال: سمع الله لمن حمد، بدون هاء الضمير، بطلت صلاته، وقد علمت أن وجه البطلان هو أن سقوط الضمير يجعل الجملة كلاماً أجنبياً غير المأمور به وهو (حمده) بهاء الضمير، فكيف بزيادة كلمة فيها مخالفة صريحة لأمر رسول الله؟
ومن هذا القبيل ما يروى من أن رجل صالحاً رأى رسول الله في منامه، وقال له يا رسول الله هل قلت: الحيا من الإيمان؟ (أي بدون همزة) فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا وكررها مراراً. ثم قال له: إنما قلت: الحياء من الإيمان.
يتبين من هذه الشواهد ملها أن الواجب علينا اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا أن نخترع من عندنا ما نشاء بدعوى حبنا له. بل علينا - إن كنا صادقين في هذه الدعوى - أن نصغي إلى مثل قول رسول الله في الحديث الصحيح ((أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)) وعقد بين إصبعه الوسطى والسّبابة، ثم نسعى وراء تطبيق معناه بإتلاف المال وإتعاب البدن، فذلك هو الدليل فعلاً على حبنا له، لا أن نخترع البدع التي لم يأذن الله بها فندعوا إليها ونستثير الفتن والشقاق من جرائها. فإن هذا فساد في الأرض والله لا يحب المفسدين، وإنما يحب من عباده اتباع أوامره. واجتناب البدع التي تسوق إليها الأهواء وحظوظ النفس.
فإن أردت طريقاً أيسر إلى مرضاة الله والتقرب من رسوله، لا يكلفك إنفاق مال ولا جهد بدن، فتتبع الصيغ المأثورة في الصلاة على رسول الله، والتي نوه رسول الله بالأجر الكبير عليها باستمرار وداوم عليها.
من ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم، أن من قال دبر كل فرض: اللهم آت محمد الوسيلة واجعل في المصطفى محبته وفي العالمين درجته، وفي المقربين ذكره، حلت له شفاعتي.
وأخيراً فإن من أراد الاعتصام بدينه وتحقيق إيمانه والتقرب الحقيقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليتدبر هذا الكلام وليعمل به، فإني ما أردت به إلا وجه الله عز وجل.
اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا، وارزقنا نعمة الإخلاص لوجهك الكريم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصدر : كتاب (هذا والدي) لـ الإمام الشهيد السعيد البوطي.