مسجد خالد بن الوليد
المسجد المَنسيّ
مسجد خالد بن الوليد بدمشق
المعروف اليوم باسم مسجد الشيخ رسلان
((دمشق المدينة العامرة قبل أن تولد بغداد والقاهرة وباريس ولندن، وقبل أن تنشأ الأهرام وينحت من الصخر وجه أبي الهول، وبقيت مدينة عامرة بعدما مات أترابها واندثرت منهن الآثار، وفيها تراكم تراث الأعصار، وإلى أهلها اليوم انتقلت مزايا كل من سكنها في سالف الدهر، ففي نفوسهم من السجايا مثل ما في أرضها من آثار التمدن وبقايا الماضي طبقات بعضها فوق بعض، فالحضارة تجري في عروقهم مع الدماء، وهم ورثتها وحاملو رايتها، وهي فيهم طبع وسجية، ولقد تكون في غيرهم تطبعا وتكلفا، فأي مدينة جمع الله لها من جمال الفتوة، وجلال الشيخوخة، كالذي جمع لدمشق))
الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله.
إخوتي قراء (زاوية معالم وأعيان):
إن دمشق من أقدم مدن العالم، بها نشأت حضارات دول شتى، فلم يبق مما مضى سوى آثار متوزعة هنا وهناك، لتدل الأحفاد على مآثر الأجداد، أجداد هم من خيرة الخلق ولو استعرضنا ما فيها لجاز لنا أن نعد دمشق القديمة متحفاً إنسانيا حضاريا كاملاً في الهواء الطلق!
ولا يزال ابن عساكر ينتظر منا أن ننفض التراب عن كتابه العملاق: (تاريخ دمشق)، بمجلداته الكثيرة عن هذه المدينة المباركة، التي شرّفها النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء لها ولأهلها، فلمع صيتها كاللؤلؤة بين مدن العالم... حيث قال في باب: ذكر معرفة مساجد البلد وحصرها بذكر التعريف لها والعدد:
عن واثلة بن الأسقع قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون دمشق في آخر الزمان أكثر المدائن أهلا وأكثره أبدالا وأكثره مساجدا وأكثره زهادا وأكثره مالا ورجالا، وأقله كفارا وهي معقل لأهلها).
ثم يبدأ بتعداد المساجد المحصورة داخل السور القديم، اثنان وأربعون، أما خارج السور فالعدد أكثر... ويقول معدّداً: (ومسجد في مقبرة باب توما عند نهر المجدول وبقرب الصفوانية يعرف بخالد بن الوليد لأنه صلى فيه وقت الحصار، وهو أول مسجد صلي فيه بدمشق).
ويكمل القول: (وكثرتها تدل على اهتمام أهلها بالدين وكثرة المصلين فيها والمتعبدين).
والصفوانية يعرّفها الحموي/ في معجم البلدان قائلاً: (من نواحي دمشق خارج باب توما من إقليم خولان.
وخولان: قرية كانت بقرب دمشق خربت، بها قبر أبا مسلم الخولاني وبها آثار باقية).
فسيدنا خالد بن الوليد نزل هذه البقعة من أرض دمشق الزاوية الشمالية الشرقية من سورها القديم خارج السور، وفي هذا المكان بالذات اتخذ مسجداً يصلي فيه مع جنده فروضهم أثناء حصارهم للروم في دمشق... إذاً فهذه أول بقعة شهدت صلاة جماعة للصحابة الكرام بدمشق، أمثال القعقاع وأبوعبيدة الجراح وغيرهم، ولا شك أن المصلى بسيط جداً: مجرد قطعة أرض مستطيلة الشكل لا سقف لها مفروشة بالحصب، ولم يستحدث المسلمون فيه أي شيء جديد سوى باب وجدرانه الأربعة فقط، فلا وجود لمحراب أو مئذنة، ومع الأيام والسنين طوي مصلى خالد وأصبح منسيّاً.......
لكن يظل في دمشق من يُجلّ ويُقدّر هذه الأرض المباركة التي روى عنها سيد الكون الكثير من الأحاديث الشريفة، ففي منتصف القرن الخامس للهجرة في عهد الأتابكة بدأ يشيع أمر بناء المساجد بكثرة ولابد أن نفرق بين المسجد والجامع فالمسجد لا تقام فيه صلاة الجمعة فقط لصلاة الجماعة، وقد ذكر ابن عساكر في كتابه تاريخ دمشق وهو يذكر المساجد:
(مسجد في مقبرة باب توما، عند نهر المجدول يُعرف بمسجد خالد ين الوليد، لأنه صلى فيه وقت الحصار، وهو أول مسجد صُلّي فيه بدمشق).
وفي عهد نور الدين زنكي549هجري، ظهرت شخصية الشيخ أرسلان الدمشقي، حيث قام ببناء زاوية له لصيقةٍ بالمسجد، وتضم الزاوية مسجداً وتربة، فكان المسجد عامراً بالصلاة فيه....
وفي العهد الأيوبي 569هجري، تم ترميم المسجد، والكتابات المذكورة فوق بابه ترشدنا إلى أن أحد تلامذة الشيخ أرسلان، واسمه: أبو البركات بن أبي علي زمن صلاح الدين، رمّمه... ونقش الكتابة واضح ومقروء: بسم الله الرحمن الرحيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم إن الدين عند الله الإسلام، هذا مسجد خالد بن الوليد صاحب رسول الله صلى الله عليه ورضي الله عنه وعن جميع الصحابة.
وبقي مع الكتابة محراب حجري صغير مجوف داخل الجدار الجنوبي القبلي للمسجد، وهو من الطراز النوري الأيوبي.
والأمر الوحيد الذي ذُكر في الحوليات الأثرية أن هذا المسجد قد تحول في القرن الحادي عشر للهجرة إلى مدرسة لتدريس الفقه وسميت (بالمدرسة الخالدية) ....
واليوم هذا المكان هو مسجد يحمل اسم الشيخ رسلان، مكون من ثلاث طوابق، وبجواره ضريح الشيخ والشيخ صالح فرفور، والعارف بالله الشيخ أحمد حارون، وبينهما قبب أثرية... وإلى جنوب المسجد والأضرحة توجد مقبرة كبيرة سُمّيت باسم مقبرة الشيخ رسلان.
وتم تجديد التربة بجعل جدرانها في أعلاها بالمداميك الحجرية ذات اللونين المتناوبين.
هذه هي دمشق الحبيبة مساجدها شواهد على عظمة تاريخها، فهيا معا نتأمل أيضا ماذا قال ياقوت الحموي في معجم البلدان: (أن خالد بن الوليد نزل في دير يدعى (صليبا) على بعد ميل من الباب الشرقي مقابل باب الفراديس، وقد أعان أهل هذا الدير خالداً للنفاذ إلى المدينة عبر الباب الشرقي، وعُرف باسم (دير خالد) ....
وكان ينزل في دير آخر خارج باب توما، قبالة الزاوية الشمالية الشرقية من سور دمشق، والذي يُعرف بدير(سمعان)، وهو دير مهجور خَرِب اتخذه خالد بن الوليد مصلىً له أثناء حصاره لدمشق، حيث ضرب خيمة وجعلها مسجداً يصلي به مع جنوده...).
هنا تكمن أسرار جمال هذا الدين العظيم، الذي يرسّخ الأخلاق المحمدية والحرص على مرضاة وطاعة الله عز وجل، المتمثلين بصحابة النبي الكريم .... أناسٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فكان تطبيقهم للإسلام تاجاً يتزينون به.
اللهم اجعلنا لهم خير خلف...
المصادر:
تاريخ دمشق/ لابن عساكر
معجم البلدان/ للحموي
الحوليات الأثرية للجمهورية السورية