مميز
EN عربي
الكاتب: الباحثة نبيلة القوصي
التاريخ: 07/02/2015

أم الدرداء (الصغرى) في الأموي بدمشق

أعيان الشام

أم الدرداء (الصغرى) في الأموي بدمشق

"خطبتني إلى أبويّ في الدنيا فزوّجوك لي...وأنا أخطبك إلى نفسك في الآخرة..."

إخوتي الكرام قراءِ زاوية (معالم وأعيان): نحكي لكم اليوم سيرة امرأة آمنت بالله ورسوله ثم ترجمت هذا الإيمان الصادق حباً وانتماءً لنبي الرحمة بالقول النافع والعمل الصالح ، فكانت مشعلاً منيراً وعنواناً رائعاً لهذا الحب في زمن مضى على أرض دمشق الحبيبة...

إخوتي:

إذا تصفحنا التاريخ الإسلامي ببصيرة المحبين العاشقين لله ورسوله، نبصر وبقوة كيف شاركت النساءُ الرجالَ مجالاتٍ شتى في تأسيس مجتمعات إسلامية تميزت بحب العلم والتعلم للتقرب من سيد الكون الذي بدأت رسالته المحمدية بـــــ ( إقرأ )..

في مقدمتهن كانت أمهات المؤمنين ابتداء بالسيدة خديجة بنت خويلد رضوان الله عليها، ومن بعدها نساء عالمات عابدات تقيات، ينافسن الرجال بالعلم النافع والعمل الصالح، فنجدو على مر العصور كيف كنّ خير نماذج تستحق منا الوقوف على سيرهنّ لنتعلم ونتفقّه، فهلا قبلتم دعوتنا؟

قال عز وجل (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)..

وقال النبي الكريم: ( ..خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)...

فالتقوى والفقه، أي الفهم على الله ونبيه، لا يمكن الوصول إليهما إلا بالاجتهاد على النفس في خلوة مستمرة مع الله عز وجل بذل العبودية له ،و بجناحي الرجاء والخوف والأمل بالقبول والرضا....

ومن يقرأ في التاريخ الإسلامي يجد أسماء كثيرة لأناس اجتهدوا وجاهدوا على أنفسهم من دنيا فاتنةٍ فانية، لتكون سيرهم نبراساً يتلألأ بالمنهج المحمدي العظيم الذي فقهوه واتبعوه بتقوى رائعة تجذبنا للقراءة المتمعّنة ....

لم يكونوا رجالاً فقط، وإنما نساء أيضاً، أخذن ينافسن الرجال في بلوغ حقيقة الإيمان، فكنّ خير من اقتدين بأمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، ومن حقهنّ علينا أن نقرأ سيرهنّ بتمعّن وتأمل...

فها هو الرحالة المعروف بابن بطوطة، عندما دخل دمشق في القرن الثامن للهجرة، يقول: قصدت الأموي للزيارة ففوجئت بالمحدّثات لحديث رسول الله، قد ملأن المسجد..

وقال أيضاً: قرأت على عائشة بنت محمد بن المسلم الحرانية، التي كان لها مجلس علم، وكانت تكتسب بالخياطة...

ثم ها هي (أم الدرداء الصغرى) تنادي علينا لتقصّ لنا كيف كانت وكانوا محبين عاشقين للمصطفى العدنان... فمن منا سوف يصغي ويستمع إليها، عسى الله أن يلهب أرواحنا للعمل الذي يرضيه...؟

بداية لابد أن نذكر من هو أبو الدرداء؟ إنه صحابي جليل، سيد القراء، وصفه النبي الكريم بـــ(حكيم أمتي)، وهو أول من سنّ سنة الحلقات القرآنية في دمشق بعدما هاجر إليها، كان الناس يلتفون حوله ويستمعون لطيب قراءته بعد صلاة الفجر.. فكان بسيرته الوضاءة وحكمته عَلَماً ومَعلَماً للناس من حوله..

مختلف في اسمه: عويمر بن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي، أو عويمر بن عامر..

روى أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، تولى منصب القاضي بدمشق في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان له زوجتان الأولى اسمها: خيرة بنت أبي حدرد الأسلمي، توفيت قبل زوجها بعامين، وكانت من رواة الحديث، ولقبت ﺑ (أم الدرداء الكبرى)..

و(أم الدرداء الصغرى) هي الزوجة الثانية له،و اسمها: هجيمة بنت حي الأوصابية الحميرية الدمشقية، التي وُصفت بالعالمة الفقيهة والتي تعلمت من زوجها الكثير، وهي من سنقف اليوم عند سيرتها كي نشحن قلوباً نامت فيها العزيمة وغفت وتكاسلت عن طيب القول وصالح العمل...

فلنقرأ فاتحة الكتاب لأرواحهم الطاهرة، داعين الله أن يرزقنا حسن الإتباع، ولنمضِ معاً يا إخوتي...

قرأت وحفظت أم الدرداء عن زوجها القرآن الكريم، وحدّثت عنه الأحاديث بكل الحب والامتنان لمعلّمها وزوجها، فكانت من حسن أدبها تقول: (حدثني سيدي أبو الدرداء، وأوصاني حبيبي أبو الدرداء..).

روت عنه علماً جمّاً، وروت عن السيدة عائشة وأبي هريرة وسلمان الفارسي وغيرهم رضوان الله عليهم..

وصفت المصادر الحب الراقي الذي جمع بين أبي الدرداء وأم الدرداء الصغرى بعبارات ومعانٍ تترجم ذلك الحب المقرون بالاحترام والامتنان.. وقد كانا يقومان الليل معاً تعبداً لله وتعظيماً له..

كساها الله عز وجل روحانية وعذوبة في التعبير، فقصدها الناس ليتعلموا منها كيف تكون رقة القلب والخشوع في الجوارح عند ذكر الله وقراءة القرآن .

من أدعيتها: اللهم إن أبا الدرداء خطبني فتزوجني في الدنيا، اللهم فأنا أخطبه إليك فأسألك أن تزوجينه في الجنة، فقال لها أبو الدرداء: فإن أردت ذلك فكنت أنا الأول فلا تتزوجي، وعندما مات أبو الدرداء خطبها معاوية، فقالت: لا والله لا أتزوج زوجاً في الدنيا حتى أتزوج أبا الدرداء في الجنة إن شاء الله .

كانت محدّثة فقيهة زاهدة حكيمة عابدة، وواحدة من عابدات الشام التي كان لها السبق في الخير والصلاح والإصلاح، وكانت تقول: طلبتُ العبادة في كل شيء، فما أصبت لنفسي شيئاً أشفى من مجالسة العلماء ومذاكرتهم.. تعلموا الحكمة صغاراً، تعملوا بها كباراً، إن لكل زارع حاصد ما زرع من خير أو شر.

من أقوالها: إن أحدهم يقول اللهم ارزقني، وقد علم أن الله لا يمطر عليه ذهباً ولا درهماً، وإنما يرزق بعضهم من بعض، فمن أُعطي شيئاً فليقل، فإن كان غنياً فليضعه في ذي الحاجة، وإن كان فقيراً فليستعن به .

كان الرجال يقرؤون عليها في الحائط الشمالي بجامع دمشق، وكان عبد الملك بن مروان يجلس في حلقتها يستمع لدرسها، وقد شوهد مرة يسألها فتجيبه، وعندما نودي للصلاة دخلا معاً متكئةً على يده يوصلها مكانها ثم يتجه إلى المحراب للصلاة...

سألها رجل: إني لأجد في قلبي داء لا أجد له دواء، وأجد قسوة شديدة وأملاً بعيداً...

فقالت أم الدرداء : اطّلع في القبور، واشهد الموتى...

وقال ابن حبان في (الثقات): كانت تقيم ستة أشهر ببيت المقدس وستة أشهر بدمشق، وماتت سنة إحدى وثمانين للهجرة .

إخوتي، بل أخواتي خاصة..

ماذا أعددنا لصفحتنا الأخيرة من حياتنا، ونحن الذين سنكون غداً من الأموات..؟

لقد كانت نساء الماضي أفضل منا في جعل مجالسهنّ روضةً من رياض الجنة، لسانهنّ يتنزه عن الغيبةو النميمة، وفاحش القول... وقلوبهنّ عامرة بالحب والدعاء للغير من الخلق: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))، يتفكّهن برواية الحديث الشريف، أو بتفسير القرآن العظيم، أو بنظم أبيات من الشعر المفيد ..

فكانت لهنّ إسهامات فريدة في التاريخ الإسلامي، وذُكرن في كتب العلماء الكبار كالعسقلاني والذهبي وابن كثير وغيرهم....

فلتنظر نساء اليوم كيف هي مجالسهنّ، وماذا أعددن للمستقبل القادم ... ؟

ويذكّرنا الإمام الشافعي( رحمه الله ) بخطورة اللسان قائلاً :

احفظ لـسانـك أيها الإنــســان لا يـلدغنّـك إنـه ثعــبــان

كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الأقران

المصادر :

سير أعلام النبلاء / للذهبي.

تحميل