مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور امير مصطفى خرنوب
التاريخ: 15/03/2015

زفرة مكلوم

مقالات

زفرة مكلوم
الدكتور امير مصطفى خرنوب
الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، محمد حبيب الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فالذكرى أمّ المنافع، ومنها المؤلم ومنها المداوي، منها ما يترك ندباً لايمكن للنفس البشرية نسيانها، ومنها ما يبلسم جراح الروح ويزيلها، أشبه بترياق يزيل السم من اللديغ، وتحضر اليوم ذكرى استشهاد الإمام العلامة محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله، وهي تحمل هذين المعنيين، تؤلم النفس بفراق عالم رباني نادر الوجود، وتبلسم الروح بما تحمل من معاني العزاء والتأسية لمن هم أمثالي مازالوا يعانون من ثقل هذه المحنة العظيمة، فيستحضر المرء روح هذا الإنسان الطاهرة ويقول مناجياً نفسه: ماذا عانيتِ أمام ما عانى، وماذا قدمتِ أمام ما قدم، فيتضاءل كل جهد ويصغر كل حزن، وتذوي كل تضحية أمام من ضحى بروحه في سبيل كلمة الحق.. ضارباً عرض الحائط بشهرته وشعبيته وصيته الذي بلغ الآفاق غير عابئ بهذه الدنيا الدنية واضعاً رضا مولاه نصب عينيه ليس غير، وإنني أعلم يقيناً أن من اتخذ موقفاً مناوئاً للإمام الشهيد لن يغير هذا الموقف لمجرد قراءة ما أنافح به عنه، بل وربما سينالني ما ناله من ذمّ وقدح وتشهير وأذى, إنما لأبيّن موقفاً وأردّ غيبة رجل أحسبه من خيرة صالحي وعلماء بلاد الشام في عصرنا..
فهذا الرجل نشأ وترعرع تحت نظر والده العالم الرباني المعروف ولازلت أذكر كلامه عندما اصطحبه أول مرة لدراسة العلم الشرعي بما معناه أني لو كنت أعلم ياولدي أن نجاتك في جمع القمامة لأخذتك إليها ولكن نجاتك في طلب العلم وتعلّمه وتعليمه وهذا دأب الإمام الشهيد كل حياته, إما طالباً متميزاً حاذقاً لبيباً وإما معلّماً مؤدِّباً منورَّاً, هذه النشأة العلمية في بلاد الشام جعلت منه ابن بلاد الشام المقدسة الطاهرة بكل ماتعنيه هذه الكلمة من معنى أراده لها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخبر أن عمود الدين قد عمد به إلى الشام ومن هو الدين لولا علماء الدين؟
ولا شك عندي أن هذه الشخصية الكريمة من ضمن الفرقة التي أخبر عنها المعصوم صلى الله عليه وسلم "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لايضرهم من خالفهم" فرغم كثرة المعترضين على كلامه في هذه المحنة ورغم الحملة الإعلامية الهوجاء ضده – طبعاً بتوجيه غربي - فإنه لم يبارح موقفه بل زاده بياناً وحجة وبرهاناً وسطوعاً ونصوعاً,فالحق هدفه والحق سبيله، والحق حجته رحمه الله رحمة واسعة.
ترى في هذا الرجل الشافعي، وترى فيه الجويني، وترى فيه الغزالي، وترى فيه الباقلاني، وترى فيه الأنصاري، وترى فيه النووي، فهو لاشك بقية السلف وخلاصة علومهم وهذه النتيجة عصارة سنين طويلة قرأت فيها كتبه بمعظمها وحضرت دروسه ومحاضراته ورشفت من معين نبعه الصافي المتحدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم عبر مشايخه الأجّلة إلى قلبه الواسع الصافي المصفّى، ولقد ترك فيَّ أثراً وبركة وحالاً لاتبارحني وأرجو بهذا النجاة من هول القبر ويوم القيامة، يوم الفزع الأكبر مصداق الحديث القدسي "وجبت محبتي للمتحابين فيَّ"
تجسدت في شخصية شهيد المحراب الحرية بأرقى معانيها ,فهو رجل لا تأخذه في الله لومة لائم، لا يرتجي من مخلوق جزاء ولا شكورا، ومعلوم ماذا فعل بهدايا وجوائز منحت له من هيئات ومؤسسات وقادة دول, فتصرفه بها لا ينم عند العقلاء عن شخصية تريد الحياة الدنيا وزينتها، ولو كان يسعى لذلك مابقي في دمشق رغم ما عرض عليه من إغراءات مادية لا يمكن لإنسان عادي أن يصمد أمامها خارج سورية، وعلى كل فهو شخصية فذة على شكل مزيج فريد من العلم بأصول الفقه والفقه خاصة منها الشافعي، مع علم التوحيد والعقائد والسيرة النبوية وعلم الإحسان أو التصوف، يتحدر ذلك بلغة عربية قل مثالها في عصرنا تميزت بالسهولة والبعد عن الغريب والممجوج مع استرسال لا نظير له في معاني اللغة يشهد له بذلك الموافق والمخالف، ويجمع مع تلك الخصائص الفهم الثاقب والاستنباط الدقيق للأحكام مع خشية من الله تحجزه عن التعصب لرأيه إن ظهر الدليل المخالف والأمثلة كثيرة وعديدة
هذا مع شدة في الحق ووضوح في البيان والرؤية والحكم، مع لواذ بأهل الله خاصة بوالده العالم الجليل الرباني وذلك عند المعضلات والمشكلات، وها هو قد نال ليس فقط الشهادة بل أعلى درجات الشهادة لقوله كلمة الحق أمام صاحب قوة (سلطان) جائر وهو يعلم أن القتل من نصيبه في حال استمر على الصدع بكلمة الحق ولا ينبغي أن ينصرف الذهن فقط لكلمة سلطان إلى الإمام.
ومن ذموه وقدحوا فيه بأقذع العبارات كنت أسمعهم يكيلون له أبهى عبارات المديح والإشادة والتوقير، وهؤلاء -وإن نسبوا إلى العلم- فإن رؤيتهم كانت قاصرة وذلك لقصورهم بفهم أصول الفقه ومدارك الحق وكانوا غير مدركين لنتائج فتاواهم الكارثية على البلاد والعباد، وإني لأرجو منهم وقفة محاسبة مع النفس قبل أن يحاسبهم ربهم ولتكن وقفة صادقة، ترى لو سمعتم كلام العلامة الشهيد هل كانت الأمور ستؤول لما آلت إليه؟ وإن كنت أستبعد منهم التراجع.
أما أولئك الذين أتوا من أصقاع الأرض يحملون نتن الوهابية فلا كلام معهم مهما ناصبوا الإمام الشهيد العداء لأنه كان كالشوكة في حلوقهم من خلال كتبه ومحاضراته ودروسه فلا نستغرب الفرحة بزوال إمام من أئمة الضلال -حسب زعمهم– عند إذاعة نبأ وفاته.
وهؤلاء الحثالة مهمتهم المقدسة التي رصدوا أنفسهم لها هي خدمة أعداء الدين -للأسف- عرفوا أم لم يعرفوا، شاؤوا أم أبوا, وأكبر دليل أنهم يتركون العدو المجمع عليه ويديرون له الظهر ثم تنتفخ أوداجهم بمقاتلة أعداء الله والدين من أبناء جلدتهم ودينهم ؟؟؟؟ وكذلك الفوضى والفتن التي أشاعوها ويشيعونها في بلاد الشام وأرض الكنانة.
إنني كطالب من أصغر طلاب الشيخ أريد إهداء روحه الطاهرة شيئاً مما اختلج من معانٍ في صدري من إكبار وإجلال واقتباس واهتداء وتعزية وتأسية ولوعةِ فقدٍ وفرحة ِوصلٍ روحيٍّ أرجوه وإن لم أكن أهلاً له؛ وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعل سيري من سيره، وقولي من قوله، وعملي من عمله، وأن يحشرنا وإياه تحت لواء سيد المرسلين سيدنا محمد صلوات ربي وسلامه عليه، فإن المرء يحشر مع من أحب وأشهد الله على حبه وحب ابيه وموالاته وموالاة أبيه فإنهم والله نجوم الاهتداء وأفلاك العناية ووسائل الرقاية.
هذا والله أعلى واجل وأعلم.

تحميل