الهمزيَّة .. تلك الرائعة التي انشغل الناس عنها بالبردة
الهمزيَّة .. تلك الرائعة التي انشغل الناس عنها بالبردة
الإمام الشهيد البوطي
الحمد لله على نعمه التي لا تحصى، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فإن أكذب ما قيل عن الشعر قولهم: (أعذب الشعر أكذبه)!.
لقد قرأت الكثير من القصائد لفحول الشعراء، جاهليين ومخضرمين، ومن بعدهم، فلم أجد أي انفكاك بين عذوبة الشعر جرساً في الأذان أو الذوق، وبين التأثير الذي يحدثه في النفس والقلب... ذلك لأن عذوبة الشعر لا تأتي إلا من تأثيره، ولن تجد له من عذوبة إن غاب عنه هذا التأثير... وإنما يحدث الشعر ما يحدثه من التأثير في النفس، بسبب الصدق إذ تسري نبضاته من قلب الشاعر إلى وزان شعره وكلماته وجرسه... وكلما ازداد الصدق وهجاً وحرارة في الشعر، ازدادت النفس تأثراً به، وكلما تناقصت حرارته وقل وهجه تراجع تأثيره عليها.
فإن غاب عنصر الصدق فيه، لم يبقى من معنى الشعر فيه إلا نظمه، وعاد مجرد تقطيع للكلام على وزن بحر من البحور.
وقد قالت العرب قديماً تأكيداً لهذه الحقيقة: (ليست النائحة كالثكلى) قالوا ذلك على الرغم مما هو معلوم، من أن في النائحات من كن يفرغن ألفاظ النواحة التي يخترعنها في قوالب من البيان العربي الأخاذ، والبلاغة التي لا تتأتى لكثير من الفصحاء العرب حوك مثلها. وما ذلك إلا لأن سماجة الكذب تكسف ألق البيان، وتفقد البلاغة قيمتها.
فإن أردت مزيداً من البرهان، فانظر إلى شعر الشعراء الفحول الذين كانوا يقتاتون في شعرهم على وسيلتي المدح والهجاء.. قارن بين قصيدتين يتقرب الشاعر في إحداهما إلى الخليفة أو أحد وزرائه بمديح يفيض مبالغة، ويزدهي بأفانين الكذب والأوهام، ويشفي غليله في الأخرى بهجائه والترويج لنقائصه وعيوبه، إذ لم ينل منه ما كان يطمح إليه من رتبة أو يمني نفسه به من غنيمة وعطاء... تجد الأولى منهما مثقلة بالتكلفات، والصور الكاذبة. والمبالغات التي يلفظها العقل وتمجها النفس. وإن عثرت على ما قد يعجبك فيها، فإنما هو فن الصورة، ونسج الخيال، وغرابة التشبيه. ولا بد أن يبدد قيمتها ويطفئ رونقها ما تدركه من أن الشاعر يعلم أنه كاذب فيما يقول، في حين أنك تجد القصيدة الثانية تنبض بحرارة الصدق، وتفاعل الوجدان. وتشعر بأن تأثيراً بيناً يسري من ذلك إلى نفسك.
وإنما سبب هذه المفارقة، أن الشاعر لا يهجو من يهجوه إلى استجابة لغيظ كامن في نفسه، فهو إذن صادق مع نفسه فيما يهجوه به، وإن لم يكن صادقاً، ربما، فيما ينسبه إليه، على صعيد الواقع المرئي أو المعروف بين الناس. ولكن ليس بالضرورة أن لا يمدحه إن مدحه إلا استجابة لحب أو تبجيل حقيقي كامن له في قلبه، فالأسباب الخارجية المصلحية التي قد تدعوه لمدحه أكثر من أن تحصى.
تأمل في القصائد التي يمدح بها المتنبي كافوراً، تجد أنها تفيض بالمبالغات المتكلفة، وتشعر بأنه، أي المتنبي، يضفي فيها على كافورا من المزايا ما لا تشك في أن المتنبي يعلم أنه كاذب في إضفائها عليه، وهو ما يغض من قيمة قصائده هذه، على الرغم من أن سمو شعره لا ينكره أحد.
فإذا أصغيت بعد ذلك إلى قصيدته التي يهجوه بها، والتي يقول في أولها:
عيد بأي حال عدت يا عيد بما مضى أم بأمر فيك تجديد؟!
شعرت بنبضات الصدق تفيض من أبيات قصيدته. وإنما أعنى بالصدق، صدق المتنبي مع نفسه في كراهيته التي تبعثه على الهجاء، ولا أعني مطابقة الوصف الذي يرسمه لكافورا، للواقع. من أجل هذا كانت قصيدته هذه من عيون شعره باتفاق الأدباء والنقاد، على الرغم من أن وتيرة الهجاء فيها قد تصل إلى حد الإقذاع.
إن المبالغة في الهجاء، ليس من شأنها أن تخرج الشاعر من حدود الصدق مع نفسه في هجائه... ولكن المبالغة في المدح من شأنها أن تخرجه من حدود الصدق في مدحه. ذلك لأنه لا يتأتى النفاق في الذم والهجاء، في حين أن للنفاق مجالاً واسعاً في ساحة الثناء والمديح. وإذا تسنى لك أن تشم في الشعر الذي ينطوي على مدح شخص ما، رائحة النفاق والكذب، فذلك إيذانٌ بسقوطه عن أقل ما ينبغي أن يرقى إليه في ميزان الصدق مع الشعور.
من ذلك ذاك الذي ينسب إلى الأصمعي في مدح هارون الرشيد:
يا غياث البلاد في كل محلٍ ما يريد العباد إلا رضاكا
لا، ومن شرَّف الإمام، وأعلى ما أطاع الإله عبدٌ عصاكا
بوسعك أن تعلم أن قلب الشاعر لا يطاوع لسانه في أن العباد لا يريدون إلا رضا أمير المؤمنين، وأنه ما أطاع الله عبد تاه، فوقع في عصيانه. فإذا شف لك الشعر عن هذا فقد سقط منه، إذن كل ما ينبغي أن يتصف به من صدق الشعور الذي هو روح الشعر في كل الأحوال. ومن ذلك أيضاً هذا الذي يفتتح به حافظ ابراهيم قصيدته في رثاء الشيخ محمد عبده:
سلام على الإسلام بعد محمد سلام على أيّامه النَّضرات
فما أيسر أن تعلم بأن حافظا موقنٌ بأن الإسلام سيظل بخير بعد وفاة الشيخ محمد عبده. إذن هو غير صادق في هذا الذي يخاطب به الناس. ولا ريب أن غياب الصدق عن الشعر الذي يخاطبهم به، يمحو قدراً كبيراً من إشراقه، إن لم نقل: يقضي على إشراقه كله.. وعلى الرغم من أني من المعجبين بشعر حافظ ابراهيم، حتى إني لأفضل بعض قصائده على بعض قصائد شوقي، فإني لم أجد في هذا المطلع لقصيدته التي رثى بها الشيخ محمد عبده، ما يثير عاطفةً، أو يجلب شعوراً، أو يجذب إلى متابعة.
ولكن لا يحملنك هذا الذي أقول، على تصور أني أعد كل مبالغة في التعبير عن المعنى وتصويره، كذباً يسيء إلى جمال الشعر، ويطوي عن النفس رواءه، بل العكس هو الصحيح، عندما يستخدم الشاعر المبالغة أداة لإيصال أحاسيسه إلى نفس السامع، إذ رب إحساس يتملك الشاعر لا يتأتى له أن يجعل من التعابير اللغوية المألوفة ترجماناً دقيقاً له، فيجنح إلى فنون التخيل، أو استنطاق الجماد، أو الخروج من قوقعة الكلمات وضيق مدلولاتها، إلى الفضاء الرحب الذي ينبعث من جرسها، يتخذ منها بديلاً عن اللغة التي عجزت عن تصوير مشاعره ورسم أحاسيسه، فهو بهذا الذي يصنع، إنما يحاول أن يضعك من شعره أمام عمق أحاسيسه ودقائق خلجاته.
من هذا القبيل قول ليلى بنت طريف التغلبية، ترثي أخاها الوليد بن طريف:
أيا شجر الخابور مالك مورقاً كأنك لم تجزع على ابن طريف؟!
لا ريب في أنك في هذا الكلام أمام مبالغة تتمثل في محاورة أشجار الطبيعة واستنطاقها، وهي كما علمت، لا تعي ولا تنطق!...
ولكنها مبالغة استخدمتها الشاعرة لتصوير أحاسيسها التي ضاقت كلمات اللغة عن تصويرها، أو التعبير عنها، ذلك لأن الذي فقد حبيباً عزيزاً إلى نفسه، يزجه الأسى في حال من الكرب والحزن، وإنما يؤنسه في تلك الحال أن يرى أشياء الدنيا كلها ملونة بلون شعوره، مغبرة بمثل أحاسيسه، فإن رأى فيها مظهر أنس وبهجة يتجلى في طيورها الصادحة، وورودها المتفتحة، وأشجارها الزاهية بالخضرة، شعر من ذلك بالوحشة، وانطوى على حال من الغربة، وخيل إليه إحساسه أن الكون كله في شغل شاغل عن همه وكربه.
فكيف يصور لك الشاعر الذي وقع في مثل هذا الضيم، إحساسه هذا، بأقصى ما يملك من تسخير مرآة بيانه الشعري؟
سبيله إلى ذلك أن يظهر عجبه من أن أشياء الطبيعة التي حوله لم تلمسها يد الكرب الذي مني به، ولا تحس بواقع المصيبة التي أطبقت عليه، ثم أن يسوقه العجب من ذلك إلى أن يسائلها عن السبب في استمرار بهجتها، وكأن الجزع لم يستبد بها لهذا الحادث الذي ينبغي أن يزج الدنيا كلها في قتام.
إنها مبالغة بدون ريب، ولكنها استعملت هنا أداة أنفذت بها الشاعرة أحاسيسها العميقة هذه لا إلى وعي السامع فقط بل هيمنت بها على وجدانه أيضاً.
أطلت في عرض هذا المدخل، لأنتهي منه إلى أن الإمام شرف الدين البوصيري رحمه الله، ترك من ورائه ديواناً يفيض بكثير من موضوعات الشعر، وأكثرها المديح وما قد يتصل به. ولكن مما لا ريب فيه أن ديوانه هذا كان مآله إلى الاندثار، وأن اسمه الذي يتألق اليوم من أقصى العالم الإسلامي إلى أقصاه، كان سيبقى مطوياً عن الأذهان لولا قصيدتان طويلتان تألق بهما ديوانه، وهما اللتان اشتهرتا بالبردة والهمزيَّة، صاغهما في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتبعهما في الموضوع ذاته قصائد وجيزة أخرى.
والسبب هذا الذي ذكرته لك في المدخل إلى هذه المقدمة!...
لم تكن قصائد البوصيري في مدح الوزراء والمتنفذين في مضر التي أمضى جل حياته فيها (وهي أكثر ما يزخر بها ديوانه) صادرة عن قناعته النفسية بأهليتهم لما كان يقول عنهم ويصفهم به، ولا عن دافع حب لهم في قلبه. ولكنه كان مدفوعاً إلى ذلك بفقره وحاجته، فقد كانت الفاقة ملازمة له، وكانت الحاجة تلاحقه في معظم ظروفه المعيشية، فكان يرجوا أن ينال بمدحه لهم ما يناله الشعراء أمثاله من الخلفاء والأمراء من الصّلات المالية، لقاء ما يتقربون به إليهم من الإطراء والمديح.
ومن شأن هذا الدافع، إذ يحمل الشاعر على مدح من يرجو منهم النوال، أن ينسب إليهم من المزايا والفضائل النادرة ما لا يتصفون به، بل ربا هم بأمس الحاجة إليه، استجراراً لهم إلى تحقيق ما يتأملونه منهم. وهذا ما لا يغيب عن إحساس السامعين أو القارئين. فتغيب قيمة الشعر الذي يحمل في داخله هذه الآفة، مهما سمت قيمته في درجات الرصانة وعلو البيان.
تأمل في هذين البيتين اللذين يمدح بهما البوصيري زين الدين أحمد، وزير الصاحب بهاء الدين:
أهل التقى والعلم أهل السؤدد وأخو السيادة أحمد بن محمد
لا تشركن به امرءاً في وصفه فتكون قد خالفت كل موحد
وانظر إلى هذه المبالغة في الإطراء، إذ أدخل إشراك غير الممدوح في شيء من مزاياه، في معنى الشرك الديني الممقوت!؟...
وإنك لتعلم أن البوصيري نفسه لا يرى لممدوحه هذه المزية. ألا ترى أن هذه المفارقة الجلية بين المعنى الذي تحتضنه ألفاظ هذا البيت، والعقيدة المجانفة لها في يقين الشاعر، قد أسقطت كل ما يكون له من مزايا بلاغية وبيانية، من حالق؟!..
ولقد بقيت سائر قصائد البوصيري التي نحا فيها هذا المنهج - وهي أكثر شعره- مهملة غائبة عن أذهان أكثر الذين يعنون بتاريخ الأدب والشعر والشعراء، إلى هذا اليوم، لهذا السبب الذي أذكره لك.
ولكنه أخذ يختلف، من بعد، إلى الشيخ أبي العباس المرسي ويسافر من القاهرة إلى الاسكندرية، بين الحين والآخر لزيارته، والاستفادة منه، إلى أن اشتدت صلته به، وتوجه قلبه بالحب إليه، فسلك على يده، ونهج نهج المريدين في الأخذ بأسباب تزكية النفس وتصفية القلب من هوى وتعلق بالأغيار. ثم اتجه حاجاً إلى بيت الله الحرام، وزار مثوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن بين جوانحه لظى من التأثر والتحوب والندم على ما كان من شأنه من قبل، وأنشد أمام مثواه قصيدته التي يقول في أولها:
وافاك بالذنب العظيم المذنب خجلاً يعنف نفسه ويؤنب
عاد من بعدها البوصيري إلى مصر شخصاً آخر، زكاه السلوك على يد الشيخ أبي العباس المرسي، وسما به حجه إلى بيت الله الحرام إلى سدة العبودية لله، صافية عن الالتفات إلى الأغيار، وألهب فؤاده وقود حبٍ جديد للمصطفى صلى الله عليه وسلم، لا عهد له به من قبل.
وعندئذ أصبح شعره تعبيراً عما يخالجه من شعور، بعد أن كان خادماً لما يسعى إليه من مطالب.
أخرج قصيدته، بل ملحمته الطويلة، التي ما مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبلغ منها، ووصف فيها رحلته إلى الحج، وأداءه للمناسك، ثم زيارته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصفاً بليغاً مؤثراً يتقاصر عن تصويره البيان، وختمها بأطياف أخاذة من الاستغاثة بالمصطفى والتضرع إلى الله والتذلل على أعتابه، يندب خلالها عمره الذي يرى أنه تبدد في أودية التيه، وضاع بين ماضغي الأحلام والأطماع... تلك هي قصيدته التي اشتهرت بالهمزية، والتي أَشْرُفُ الآن بكتابة هذه المقدمة لها.
ثم أتبعها البوصيري بأشهر ما تداوله الناس من شعره، وهو قصيدته التي تسمى البردة، وبعضهم يسميها البرءة. وقد نقل المقريزي عن بعضهم أن البوصيري كان قد أصيب بفالج جزئي فلما أنشأ قصيدته هذه، رأى في الرؤيا أنه ينشدها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أعجب بها، وأنه مسح بيده الشريفة على محل الداء من جسده، فقام من فراشه معافى.
وقد ذكر هذه القصة ذاتها محمد بن شاكر الكتبي في كتابه (فوات الوفيات) رواية من فم الإمام البوصيري يحدثها عن نفسه، بدون سند، ولعله أقدم من روى هذا الخبر، وأقربهم إلى عصر البوصيري.[1]
ولعل هذه القصة التي ارتبطت بقصيدته هذه، هي السبب في ذيوعها وكثرة انتشارها في الأوساط وسائر البلدان، وفي إقبال الناس إليها ينشدونها ويتباركون بها في مجالسهم ومناسباتهم الدينية المختلفة، ولولا هذا السبب لكانت القصيدة الهمزية أوسع انتشاراً، لا سيما في الأوساط الأدبية عموماً، فهي من عيون الشعر الذي مُدِحَ به رسول الله صلى الله صليه وسلم.
قارِن بين همزيته هذه وبين وسائر قصائده الأخرى التي كان يطرق بها أسباب الرزق على أبواب الأمراء والوزراء، تجد نفسك هنا أمام وقود لشعور يلتهب، وتحس بضرام فيحه يسري داخل مشاعرك وتجد نفسك هناك أمام صنعة كلامية، ليس وراءها إلا حاجات النفس ومتطلبات العيش.
تأمل معي في هذه الأبيات التي يتشوق فيها إلى رسول الله، رصانة في المبنى، وحرارة في الشعور، ورشاقةً في التعبير:
ليته خصني برؤية وجهٍ زال عن كل من رآه الشقاء
أو بتقبي راحة كان لله وبالله أخذها والعطاء
تتقي بأسها الملوك وتحظى بالغنى من نوالها الفقراء
أو بلثم التراب من قدم لا نت حياء من مشيها الصفواء
موطئ الأخمص الذي منه للقـلـ ـب إذا مضجعي أقض وطاء
وانظر إلى هذا المعنى الذي أزعم أن البوصيري لم يُسْبَقْ إلى التعبير عنه، وتأمل كيف صيغ ببارات شعرية جمعت بين الرقة والعذوبة والرصانة، مع سلامة ما استودع فيها من حرارة الوجدان وصدقه:
ويح قوم جفوا نبياً بأرض ألفته ضبابها والظباء
وجفوه، وحن جذع إليه وقلوه، ووده الغرباء
أخرجوه منها وآواه غار وحمته الحمامة الورقاء
واختفى منه على قرب مرآ ه، ومن شدة الظهور الخفاء
ثم إن هذه الحرارة الوجدانية تتسامى في ملحمته الشعرية هذه إلى درجة اللوعة، في وثوب بليغ يشف عن التأثر الذي يجتاحه، عندما ينتقل من المدح والثناء، إلى الاستغاثة والرجاء. تأمل في هذه الأبيات وما تنطوي عليه من لوعة وأسى وانكسار، مع ما يتجلى فيه من نبضات الصدق، دون أي تكلف في التصوير والبيان:
الأمان الأمان؛ إن فؤادي من ذنوب أتيتهن هواء
قد تمسكت من ودادك بالحبـ ـل الذي استمسكت به الشفعاء
وأبى الله أن يمسني السو ء بحال ولي إليك النجاء
إلى أن يقول:
يا رحيماً بالمؤمنين إذا ما ذهلت عن أبنائها الرحماء
يا شفيعاً في المذنبين إذا أشـ فق من خوف ذنبه البراء
جد لعاصٍ، وما سواي هو العا صي، ولكن تنكري استحياء
آه مما جنيت، لو كان يغني ألف عن عظيم ذنب وهاء
كنت في نومة الشباب فما استيقظ ـت إلا ولمتي شمطاء
ثم إنه يتجاوز، لا يشعره فقط، بل بشعوره المتقد، لوعة الحزن التي انتابه من ثقل الأوزار التي لا تفارقه حرقة الألم منها، إلى ساحة الأمل برحمة الله وفضله، فيمني نفسه بالصفح الجميل يكرمه الله به، لا لأنه يستأهل المرحمة والصفح لعمل صالح قدمه، ولكن لأنه ضعيف مسكين، وأحق الناس بالرحمة المساكين والضعفاء: يقول:
وتذكرت رحمة الله فالبشـ ـر لوجهي أنى انتحى تلقاء
صاح لا تأس إن ضعفت عن الطا عة واستأثرت بها الأقوياء
إن لله رحمة، وأحق النا س منه بالرحمة الضعفاء
فابق في العرج عند منقلب الذو د ففي العود تسبق العرجاء
وتأمل في معنى العجيب الذي يعبر عنه، بل يرسمه، هذا البيت الأخير، في صياغة يعجز عن حوك مثلها فحول الشعراء، دون أيّ تصنع تغيب معه حرارة الشعور. ولو أنك حاولت أن تعبر عنه ببيان منثور سليم، يتضمن ضعف كلمات هذا البيت، لأعجزك ذلك.
أعود فأقول: كم من فرق بين علو هاتين القصيدتين: الهزية والبردة، اللتين تنافسان ببقائهما وجدتهما عمر الدهر، وهبوط القصائد الأخرى التي حدثتك عنها، والتي طواها عن الأنظار والأذهان كرُّ الليالي والأيام.
وإنما مرد هذا الفرق إلى سريان وهج الصدق ولوعة الوجدان في الأوليين، وإلى غياب كل منهما في القصائد الأخرى، أرأيت إذن كم في قولهم: (أعذب الشعر أكذبه) من كذب ومجانفة للواق والصواب؟
ولقد كنت ولا أزال أتخذ من قصيدة الهمزية هذه، واحة أنس، ألجأ إليها في ساعات الشدائد، أجلس فأقرؤها ممزوجة بصيغة صلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أرددها بين كل بيت وآخر. وهي:
صل يا ربنا وسلم على من هو للكون رحمة وشفاء
لا أتجاوز منها إلا الأبيات التي يجادل فيها الشاعر أهل الكتاب، ويسفه فيها أوهامهم الاعتقادية، إذ أرى أنها استطرادات طويلة لا علاقة لها بموضوع الثناء على رسول الله ومدحه، ثم التوسل به شفيعاً إلى الله، وذلك هو موضوع القصيدة، ولعله السبب الذي صاغها من أجله. فأتجاوزها في قراءتها والتبرك بها إلى الموضوع الذي هو المقصود.
وما أذكر أني جلست مرة فقرأتها ممزوجة بالصلاة على رسول الله بهذا الشكل، إلا انتعشت بذلك نفسيي، وشرح الله صدري وسرى من بركتها تأثير كبير إلى قلبي.
وإني لأوصي سائر الإخوة والأخوات، أن يتخذوا من هذا الذي فعلته فوجدت بركته، وِرداً دائماً لهم ينفذونه في كل أسبوع أو في كل أسبوعين أو شهرٍ مرةٍ، ولا حرج في أن يجاوزوا الأبيات الكثيرة التي يرد فيها على أهل الكتاب ويسترسل من خلالها في مجادلتهم، ابتداءً من قوله:
قوم عيسى عاملتم قوم موسى بالذي عاملتكم الحنفاء
إلى أول قوله، وهو يتحدث عن فتح مكة:
وأثارت بأرض مكة نقعاً ظن أن الغدو منها عشاء
وبذلك يجمعون بين الثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصلاة عليه، وأعظم بها قربة، يزدلف العبد المؤمن بها إلى ربه عز وجل.
فمن أجل ذلك كله، اقترحت على مكتبة الفارابي إخراج هذه القصيدة مع التعليقات التفسيرية على عباراتها وكلماتها الغامضة، التي كان قد وضعها الشيخ يوسف النبهاني رحمه الله:
اقترحت إخراجهما مدققة مشكولة، دون القصيدة المشهورة الأخرى ((البردة)) لسببين:
أولهما: أن الهمزية ترقى في مجال الفن الشعري، رصانة وبلاغة ورقة، إلى أعلى مما سمت إليه قصيدة البردة.
ثانيهما: أن قصيدة البردة معروفة ومنتشرة وموفورة في سائر الأوساط والبلاد، للسبب الذي ذكرته لك، في حين أن قصيدة الهمزية مجهولة بين كثير من الناس، غائبة من أكثر الأوساط وهي بالإضافة إلى ما فيها من رونق المديح النبوي الذي لم يُسبق البوصيري إلى مثله، قطعة رائعة متميزة من الشعر، ما ينبغي أن تطوى عن الأنظار، ولا أن تغيب عن اهتمام الأدباء والنقاد.
جمعنا الله على ما يرضيه. ومتن توحيدنا له بحبنا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأدخلنا يوم القيامة في شفاعته. والحمد لله رب العالمين.