مميز
EN عربي
الكاتب: الباحثة نبيلة القوصي
التاريخ: 15/08/2014

جبل قاسيون يحكي لنا ... الجزء الثاني

معالم الشام

جبل قاسيون يحكي لنا...

الجزء الثاني

إخوتي القراء:

إن أي رحلة سياحية كي تكون ناجحة يجب أن تُحدَّد بأدبيات وأهداف راقية لتحصّل الفائدة مع المتعة........( قُل سيروا في الأرضِ فانظُروا كيفَ كانَ عاقبةُ الذين من قبلكم)

وعندما نسير في رحلتنا هذه بين أحياء دمشق متجهين نحو الشمال باتجاه جبل قاسيون، لن يأسرنا جماله فقط، وإنما ستطوف من حولنا نسمات رائعة تجعلنا في سكينة وراحة عجيبة تدفعنا دفعاً للتساؤل عن السبب.. فهل سألنا لماذا؟ وما السبب؟

إنها نسمات تحفيزية لشد الانتباه لأقوام كانوا فيما مضى فوق الأرض وعمروها، وهم اليوم تحت الأرض.. وتلك سنة الله في الكون، أقوام تحيا وتموت وتبعث يوم النشور ولا يبقى منهم إلا سير تُتلى لتحصّل العبرة والعظة.. فهيّا لإحياء القلوب في رحلة قاسيون.... وبعد الأحاديث الشريفة، لنستمع للجغرافيين وأصحاب الرحلات الإسلامية منهم ياقوت الحموي في معجم البلدان /626 ھ.

يقول: (قاسيون: بالفتح وسين مهملة والياء تحتها نقطتان مضمومة وآخره نون وهو: الجبل المشرف على مدينة دمشق، وفيه عدة مغاور وفيها آثار الأنبياء وكهوف، وفي سفحه مقبرة أهل الصلاح، وهو جبل مقدس يروى فيه آثار، وللصالحين فيه أخبار، وبه مغارة تعرف بمغارة الدم، وهناك شبيه بالدم يزعمون أنه دم هابيل باق إلى الآن وهو يابس...) .

فجبل قاسيون جغرافيا يمتاز بموقعه المميز والهام الحاضن والمشرف على مدينة دمشق ويعزز أهميته مروري نهري يزيد وثورا، ويتصل من جهة الغرب بسلسلة جبال لبنان، وقد عملت مياه بردى مع الفيجة على فصله عن جبل المزه المتصل بجبال الشيخ وحوران ، وعملت مياه منين على فصله من جهة الشرق عن سلسلة جبال القلمون ، ولجبهة قاسيون الشرقية سفحان يفصل بينهما نهر يزيد، فما كان على ضفته الشمالية فهو السفح الأعلى، وهو سفح كبير واسع خال من الماء، لا يوجد فيه من البتاء إلا محلة دير مران، وبعض الدور الدينية المتفرقة ، ومغارة الدم ، ومغارة الجوع ، وكهف جبريل.

أما السفح الأدنى ما كان على ضفة يزيد الجنوبية، وهو سفح مزدهر وافر المياه خصب الأرض وعامر بالسكان.

ففي سفحه سكن آدم عليه السلام، وفي أعلاه قتل قابيل أخاه ، وفي كهف جبريل جاءت الملائكة معزية سيدنا آدم في ابنه ......

أما الرحالة ابن جبير (539-614ھ) يصف مشاهدته حين دخل دمشق قائلا: ((ومولد إبراهيم هو بسفح جبل قاسيون عند قرية تعرف ببرزة، وهي من أجمل القرى، وهذا الجبل مشهور بالبركة من القديم لأنه مصعد الأنبياء، وهو في الجهة الشمالية من البلد وعلى مقدار فرسخ، وهذا المولد المبارك غار مستطيل ضيق، وقد بُني عليه مسجد كبير مرتفع مقسمٌ على مساجد كثيرة كالغرف المطلة وعليه صومعة عالية، ومن ذلك الغار رأى الكوكب ثم القمر ثم الشمس، وفي ظهر الغار مقامه الذي كان يخرج إليه، وفي الجهة الشمالية من الجامع المبارك على مقربة منه إلى جبل قاسيون مدفن سبعين ألف شهيد، والأنبياء المدفونين به سبع مئة نبي والله أعلم.

وبجبل قاسيون لجهة الغرب على مقدار ميل أو أزيَد من المولد المبارك مغارةٌ تُعرف بمغارة الدم لأن فوقها في الجبل دم هابيل قتيل أخيه قابيل، وقد أبقى الله منه في الجبل آثاراً حمراً في الحجارة تُحَك فتستحيل، ويقال إنما هي من الموضع الذي جرَّ فيه القاتلُ أخاه حيث قتله حتى انتهى إلى المغارة، وهي من آيات الله تعالى.

وتلك المغارة صلى فيها إبراهيم وموسى وعيسى ولوط وأيوب، وعليها مسجد قد أُتقن بناءه، ويُصعد إليه على الأدراج وهو الغرفة المستديرة، وفي أعلى الجبل كهف منسوب لآدم وعليه بناء وتحته في حضيض الجبل مغارة تسمى مغارة الجوع ذُكر أن سبعين نبياً ماتوا فيها جوعاً.

وبآخر هذا الجبل المذكور في آخر البسيط البستاني الغربي من هذا البلد الربوة المباركة: مأوى المسيح وأمه، وهي من أبدع مناظر الدنيا حسناً وجمالاً، ويُصعد إليها على أدراج، والمأوى المبارك منها مغارة صغيرة في وسطها وهي كالبيت الصغير، وبإزائها بيت يقال أنَّه مصلى الخضر.

هذه الربوة المباركة رأس بساتين البلد ومقسم مائه، ينقسم الماء فيها على سبعة أنهار وأكبر هذه الأنهار نهر يُعرف بثورا.. ويُشرف من هذه الربوة على جميع البساتين الغربية في البلد، ولا إشرافٌ كإشرافها حسناً وجملاً واتساعاً ،مسرحٌ للأبصار فتُحار الأبصار في حسن اجتماعها وافتراقها.

وشرف موضوع هذه الربوة ومجموع حسنها أعظم من أن يحيط به وصفٌ، وشأنها في موضوعات الدنيا الشريفة خطيرٌ كبيرٌ.

ويتصل بها أسفل منها قريةٌ كبيرةٌ تُعرف بالنيرب، وفي الجهة الشرقية من البلد عن يمين الطريق إلى مولد إبراهيم قريةٌ تُعرف ببيت لاهية ،يريدون الآلهة،و كانت فيها كنيسة هي الآن مسجدٌ مبارك.

وكان آزر أبو إبراهيم ينحت فيها الآلهة فيجيء الخليل ويكسرها ،و هي الآن مسجد يجتمع فيه أهل القرية، وهي من المشاهد الكريمة)).

وقال السبط ابن الجوزي (654 ھ): (( قاسيون جبل شمالي دمشق ترتاح النفس إلى المقام به، ومن سكنه لا يطيب له سكنى غيره غالباً......))

تجد أيها القارئ من وصف هؤلاء العلماء الأجلاء نسمات روحانية من الامتنان لرب العباد بالشكر لتشريفهم بالوقوف على هذه الأطلال وبكثير من الاحترام لحرمة هذه الآثار بما حملت من معاني اجتهدوا فيها أكثر على نفوسهم للاستفادة من قصص وروايات لأناس مضوا وسبقونا إلى العزيز الجبار........

فاجتهد أيها القارئ واعتبر وواظب بالدعاء لنفسك دعاء عبد ذليل لرب الأكوان فلا يغرنك بنفسك أي غرور من قوة أو جاه أو لسان مبرور واتعظ بمن سبقوك بطيب الأعمال والأخلاق فنبينا الكريم جعل عنوانه الكبير:

(إنما بُعثتُ لأتمم مكارمَ الأخلاق )

عودة لجبلنا الرائع (قاسيون) والذي منه تعلمنا الكثير من المعاني، ففي رحلتنا هذه رياضة جسد وعقل وروح معا فلا تفوت هذه الفرصة أيها السائح المسلم .

أما عن سبب تسميته قاسيون فتعددت الآراء:

قيل: قسا على الكفار تكسير حجارته وصَعُب عليهم صناعة الأصنام في زمن سيدنا إبراهيم عليه السلام.

وقيل: لقسوة صخوره فقط.

وقيل: قاسيون آخرها (واو ونون)هي من أشهر اللواحق الكنعانية كالقلمون وميسلون، فيكون جبل قاسيون عبارة عن (قاسي+ون) وهو جبل قاسي ليس فيه نبع أو عين .

ماذا بعد يا إخوتي ؟

المؤرخون والجغرافيون واللغويون تحدثوا عن أهمية جبل قاسيون تاريخيا ودينيا، والأهم من ذلك أن الحبيب المصطفى تكلم عنه.. فما هو شعوركم؟ ألم تتحرك فينا مشاعر الفضول للمعرفة عن سر جبل قاسيون وسر مدينة دمشق ؟

قدموا لنا شرف السكنى والإقامة فوق أرضها المباركة، فماذا قدّمنا ليوم لقاء النبي الكريم؟؟

ومن خلال سماعنا لحكاية جبل قاسيون الجميلة ورؤية صوره ومناظره الخلابة نلاحظ ما يلي :

دمشق مدينة الجمال والجلال والبساتين والريحان ومدينة الأنهار والمآذن والمساجد والمدارس والعلم والعلماء، قاسيون له سر ديني كباقي الجبال في التاريخ الديني، كجبل الجودي والرقيم والطور وجبل حراء، جبال شهدت ولادة دين لإله واحد يُعبد..... (قاسيون) شاهد يشهد كم هي الأيام والسنين التي سكنه أقوام يتعبدون إلهاً واحداً، ومنهجاً تربوياً نبوياً واحداً يتبعون، وما الأديرة والزوايا الكثيرة في سفحه إلا خير دليل على هذا الهدف،ومن حيث التسلسل التاريخي لسكنى ذلك السفح نجد التالي:

مغارة الدم التي كانت معبداً ثم كنيسة إلى أن جاء الإسلام فأصبح للمغارة مكانة تاريخية دينية عند المسلمين مرتبطة بقصة ابني آدم عليه السلام المذكورة في القران الكريم، فقابيل جر أخاه بعد قتله أياماً إلى أن دله الغراب كيف الدفن، فدفنه في منطقة الزبداني وهي تابع لسلسلة جبال القلمون.

وعندما سال دم هابيل، حرّم الله على الأرض أن تشرب دمه.. وقيل أن الجبل فتح فمه من هول الأمر... والصور تُظهر ذلك.

أما وجود المحاريب الأربعين فقد قيل أن أربعين نبياً لجئوا إلى مغارة الدم هرباً من جور أحد الملوك، وعندما داهمهم الخطر شق الله الجبل ويسّر لهم الهرب، فتركوا روائح المسك...

وقيل : في يوم كاد أن يسقط السقف عليهم فأمسك سيدنا جبريل السقف بيده فبقي أثر يده، إذاً فموقع مغارة الدم ضمن مسجد الأربعين .

وقيل أن سيدنا يحيى أقام هو وأمه في مغارة الدم أربعين سنة فسميت بمغارة الأربعين.

وقيل أن الحواريين الذين أتوا مع سيدنا عيسى كانوا أربعين .....

وفي شرق قاسيون مولد أبينا إبراهيم عليه السلام، وانبثاق فجر التوحيد ...

فقف أيها الدمشقي على سفحه وأكثر من قول ( لا إله إلا الله) بقلب مفعم بالامتنان لله ففي ذلك انبعاث جديد لفطرة قد شابتها شوائب وعوائد الدهر لقول المصطفى عليه السلام: (خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا اله إلا الله )

وقبل ذلك لنكثر من الاستغفار بوعي مع حذر من نفس قد تأمر بالسوء على غفلة منا....وما أكثر غفلاتنا للأسف فقصة ابني ادم ترشدنا إلى كثيرا من الحذر من مشاعر وأحاسيس اتجاه بعضنا البعض لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم:( لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه...) على الأقل لا ينظر احدنا لبعض من باب غيرة أو حسد ففي ذلك بداية الابتلاء ..... فكيف إذا كنا من سكان هذا الجبل....الذي سطر له التاريخ ما نتج عن الحسد والحقد والغيرة.....

ولذلك اعتبر واتعظ أيها الإنسان .....فإن من سكن الجبل من القدامى المتأخرين الصالحين قد عمّروا الجبل بالعلم والعمل الصالح وبكثير من خشية الله متبعين منهج النبي الكريم ....وهم بذلك تعلموا واهتدوا إلى أن العلم النافع والعمل الصالح بداية الاجتهاد على النفس كي لا تأمر بسوء فكان منهم العلماء والأولياء والعارفين بالله والدالين على الله بطيب أخبارهم فإلى من تطيب نفسه وروحه للاستمتاع بجبل قاسيون فقبل ذلك إقرأ ثم اعتبر واتّعظ بمن سبقنا من أهل التقى والعلم والدين، فلا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، ولا نتبع إلا هدي سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهذا الجبل يعلمنا كمال التوحيد وكمال الإيمان وذلك سر هيبته الدينية التاريخية فهل تفتحت فينا البصائر قبل العيون أم مازلنا ننظر من دون اعتبار لغد آت لا محال .....

إخواني الأعزاء :

هذه أبياتٌ كتبها ابن عساكر رحمه الله على لسان أحد الصالحين قائلاً: أنشد بعض الصالحين لبعض المتأخرين في مدح جبل قاسيون :

يا صاحِ كم في قاسيون وسـفحه من مشهدٍ يـستوجـبُ التعظيمـا

فــــــــالربوةُ العليــــــــاءُ يـفـضِّـلـها الــذي أضـحى بتفسير الكـتابِ علـيما

والـنيـــــــربُ المشهورُ يعرف فضلــــه مــــــــــن زاره أو ذاقَ فـيـه تنـعـيـمــــــــــا

ومغـــــــــــارةُ الــدمِ فـضـلها مـــــــــــــــتواترٌ مـــــــازِلتُ أسمعه هُديـتَ عـظـيـمــــــا

ولكهفِ جـبـريـــــــلَ الأمينِ فـــــــضيـلةٌ مـذكـورةٌ وقـعـــــت إلـي قــديــمــــــــــــا

ومـغـارةُ الـجــــــــــــوعِ الشريفةُ تحتـــــــــــــــه كــــــم عـابـدٍ فــيـها ابن مــقــيــمـــــــــــا

ومـقـامُ برزةَ لـــــــــــيـس ينـكرُ فضلــــــــــه أعـنـــــــــــي مـقـامَ أبـيـك إبـراهـيـمــــــــــــا

وبه قبورُ الأنبيــــــــــاءِ فيمن مــضـى لـيزورهم فقـــــــــــد ابتـغى التـكريـمـــــــا

فأدِم زيــــــارتــه وواظب قــصـــــــــــــــــــــــــده لتنال أجراً في الجنــــانِ جـسـيـمــــــــا

وتحضرني قصة الشيخ العارف بالله الذي جاء لزيارة دمشقَ وصعد السفح مقتدياً بشيوخ الشام وغيرهم من الذين قد تواتر عنهم زيارة قاسيون ،ثمَّ جلسَ في مكانٍ ليستريح ،فخجل أن يمد ساقيه لينام فأينما توجه في الجبل وجد مزاراتٍ للأنبياء أو قبور علماءٍ ، ففي شرقه مولد أبينا إبراهيم عليه السلام وفي غربه عند مقبرة الفراديس مدفن السيدة مريم عليها السلام ،و في وسطه الشيخ عبد الغني النابلسي ،وشماله الشيخ خالد النقشبندي وجنوبه الشيخ محي الدين بن عربي رحمهم الله جميعاً، فخجل أن يمد رجليه تأدباً ونام جالساً،فأتاه الشيخ محي الدين بن عربي في المنام وأمسك برجليه يمدها قائلاً: أمدد رجليك فالبساط بيننا أحمدي.

ونحن نختم الحكاية بقول الإمام الشافعي:

نــــعيـبُ زمانَـنا والعـيـبُ فـيـنـا وما لزمانِـنـا عـيـبٌ ســــوانــــــــــــا

ونهجو ذا الزمانِ بغـيـرِ ذنـبٍ ولو نـطـقَ الـزمانُ لـنا هجانــا

فالأيام تنطوي وكل يومٍ هو شهيدٌ على أعمالنا ......فأين هي إنجازاتنا ؟؟

ما رأيك أيها الدمشقي بما سمعت ؟

هذا المكان يشرفنا يوم البعث والحساب ،والزمان ماضٍ فقم وقرر وابدأ بنفسك للتغيير وقل آن الأوان لتحمل المسؤولية ولنعمر أرض دمشق بما يحب الله ورسوله فنكون فخراً ومباهاةً لنبينا الحبيب ،ويبقى الأمل موجوداً يسطع ويتلئلئ فلا تلقي باللوم على أحد وابدأ بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وأكثر من الصلاة عليه.........رجاء أن يحفنا الله بلطفه ورعايته.

اللهم علمنا وانفعنا بما علمتنا واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.......

لا تنسونا من الدعاء...نبيلة القوصي.

المصادر:

· تاريخ دمشق / لابن عساكر

· معجم البلدان / لياقوت الحموي

· رحلة ابن جبير / لابن جبير