مميز
EN عربي
الكاتب: الأستاذ أحمد عز الدين ويس
التاريخ: 01/04/2014

الشيخ أحمد الزرقا

تراجم وأعلام

فقيه الشام الكبير العلامة الشيخ أحمد الزرقا


(1285 – 1357) هـ

بقلم الأستاذ أحمد عز الدين ويس ــــ حلب

عرفت مدينة حلب الشهباء في القرن الرابع عشر الهجري، نهضة علمية مباركة؛ إذ كانت دوحة يتفيأ ظلالها طلاب العلم، وشداة المعرفة، والثقافة الإسلامية فمساجدها عامرة بالدروس، وبقايا مدارسها لا تبخل على طالب يحمل في نفسه استعداداً لطلب العلم، وساهم في هذه النهضة الميمونة؛ تنظيم المدرسة الخسروية التي ضمت بين جنباتها كوكبة من خيرة علماء ذلك العصر.

ومن بين هؤلاء العلماء الفطاحل برز العلامة الفقيه الشيخ أحمد الزرقا، واحتل المكانة الأولى في الفقه وعلومه، ولا غرو فهو ابن فقيه الشهباء الشيخ محمد الزرقا رحمه الله، رضع الفقه من أبيه في صغره، وارتوى منه في شبابه؛ ففاض منه في كهولته وفي شيخوخته.

ومن توفيق الله تعالى له أن رزقه بمن ورث منه ما ورث هو من أبيه فكان من أنجاله الفقيه الشهير الشيخ مصطفى الزرقا الذي ودعناه صيف هذا العام 1420 ه. (رحمة الله عليهم أجمعين).

ومن التوفيق للشيخ مصطفى أيضاً أن يرزق بولد يحمل عنه هذا الإرث العلمي الكبير، ألا وهو الأستاذ الدكتور محمد أنس الزرقا حفظه الله تعالى رئيس مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي في جدة، وقد أصاب أديب الشام الشيخ علي الطنطاوي ( رحمه الله ) عندما وصف هذا التوارث العلمي الفقهي في هذا الأسرة فقال: "هذه سلسلة الذهب".

الشيخ محمد الزرقا

قبل الحديث عن علامتنا الشيخ أحمد، لا بد من الحديث عن والده الشيخ محمد بن عثمان بن عبد القادر الزرقا، لما له من الأثر الكبير في تنشئة ولده، وقد كان الشيخ محمد (رحمه الله) طالعَ السعد في هذه الأسرة إذ رفض الاستمرار في عمله في التجارة، وأقبل على العلم بصدق وهمة حتى غدا شيخ الشهباء في الفقه الحنفي وعلومه.

ومن تكن العلياء همة نفسه فكل الذي يلقاه فيها محبب

وقد وصف المؤرخ الشيخ محمد راغب الطباخ مكانة الشيخ محمد الزرقا العلمية، فقال في كتابه "إعلام النبلاء": "الشيخ محمد فقيه الديار الحلبية، وعالم البلاد السورية، كان في المذهب النعماني عَيْلمَه الزاخر، وبحره الرائق، وسراجه الوهاج، سابق الأقران في حلبة الفضل، فكان السابق والمجلِي، وكان غيره السابق والمصلي، مع فصاحة لسان تأخذ بمجاميع الألباب، وعذوبة بيان تُنسي المتيم الولهان حلاوة الرضاب". وأطنب في ترجمته (رحمه الله).

وما ذكره لا يعدو الإنصاف، فقد كان العلامة محمد الزرقا ممن بلغ درجة الإمامة في الفقه، ولذا طُلب إلى استانبول عاصمة الدولة العثمانية يومذاك للاستفادة من علمه وفقهه، فسافر إليها وبقي عدة شهور، غير أن نفسه كانت تتوق إلى بلده وأهله، فاعتذر عن وظائفه هناك،

ثم عاد إلى دروسه وطلابه، فسُّر برجوعه أهل العلم، وأقبلوا على مجالسه العلمية بنهمٍ شديد، ولم يكن يحضرها يوم ذاك إلا كبار طلاب العلم أو قل إن شئت لا يحضر هذه المجالس إلا العلماء.

قال العلامة المحقق المحدث الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى: " كان الشيخ محمد الزرقا فقيه النَّفس والبدن ممتَّعاً بمزايا علمية نادرة، وسجايا خلقية رفيعة، فاق بها أقرانه، فكان شيوخ العلم يقصدون مجلسه ويحضرون حلقاته ودروسه ليقتبسوا من علمه وحصافته وذكائه الفريد وفطانته، فكان مجلسه دائماً عامراً بالعلماء والمستفيدين من علماء المذهب بل ومن غيرهم ايضاً لما يجدون في دروسه من حلِّ المشكلات، وتذليل المعضلات، ونثر الفوائد التي قلَّ أن توجد في السطور المكتوبة، وكانت مجالسه لا يحضرها إلا الطبقة العليا الكبار من ذوي العلم".

توفي رحمه الله تعالى سنة 1343ه عن خمس وثمانين سنة إذ هو من مواليد عام 1258ه،وقد أسف الشيخ الطباخ لأن الشيخ محمد الزرقا لم يترك مؤلفاً لتعرف الأجيال اللاحقة فضله وعلمه وفقهه كما عرفها معاصروه.

وهذا أمر عرف عن العلماء المتأخرين، فكثير منهم لم يترك شيئاً من المؤلفات، وكانوا يكتفون بتخريج العلماء، فهذا محدث الشام الأكبر العلامة الشيخ محمد بدر الدين الحسني لم يترك إلا بعض الرسائل، وهذا عالم حلب الكبير المحدث المفسر الشيخ نجيب سراج الدين لم يترك شيئاً من المصنفات، ومن قبلهما العلامة المتفنن، ذو المعارف الواسعة الشيخ أحمد الترمانيني الشافعي رحمةُ الله عليهم أجمعين لم يشتهر له تأليف يذكر، وإن كان فضلهم وعلو كعبهم في العلوم والآداب أمراً لا يجادل به، ولا يمارى، ولكل عصرٍ خصائصه ومزاياه.

الشيخ أحمد الزرقا

ولد الشيخ أحمد الزرقا في مدينة حلب الشهباء ــــــمن بلاد الشام ــــــ موطن أسرته، وكانت هذه الولادة نحو سنة 1285ه، وما إن شبَّ عن الطوق حتى دفع إلى الأساتذة والمربين فتعلم منهم ما يسر الله له تعلمه، وأضحى قادراً على الاستفادة من والده، فصحبه ولازمه ملازمة شديدة، وصبَّ والده من علمه الغزير في صدره الفسيح، وأتعب الشيخ أحمد نفسه في الطلب، وبذل جهده في التحصيل، فقد أدرك أن العلم لا يُستطاع براحة الجسد، فكان لا ينام من الليل إلا قليلاً بحثاً ومطالعةً ومراجعةً وتحقياً ، وكان يطالع نحواً من عشرين كتاباً علمياً فقهياً على الكتاب الذي كان يتلقاه عن والده، امتدت صحبته لوالده قُرابة ثلث قَرن، وقرأ عليه أمهات كتب الفقه الحنفي.

بعض الكتب التي قرأها على والده

1 - (ردُّ المحتار على الدرُّ المختار) المشهور بحاشية ابن عابدين قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: "وهذا الكتاب هو أجمع كتاب في الفقه الحنفي من كتب الفتوى والترجيح في خمسة مجلدات ضخام كبار جداً (دون التكملة) ويعد لدى علماء المذهب: )منخل المذهب) فيما عليه الفتوى، ولا يكاد يعول على فتوى في الفقه الحنفي دون الرجوع إلى هذا الكتاب، فقرأه على والده كاملاً من أوله إلى آخره، ودرسه دراسة تحقيق، وتدقيق، ومناقشة، وترجيحٍ أكثر من مرتين خلال عشرين عاماً مع قراءته عليه في التفسير والحديث، والأصول أيضاً ".

ولم يكن الشيخ أحمد الزرقا يكتفي بقراءة الكتاب وفهمه، وحفظ مسائله، وإنما كان يرجع إلى الكتب التي نقل عنها المحقق الشيخ ابن عابدين في حاشيته الشهيرة، وكان يجده واهماً في بعض النقول كما أخبر طلابه بهذا عن نفسه فيما ذكره الشيخ محمد الحامد رحمه الله تعالى.

2 – ومما قرأه على والده أيضاً في الفقه الحنفي الكتاب الاستدلالي النافع العظيم: (تبيين الحقائق على كنز الدقائق) للإمام الفقيه الضليع البارع فخر الدين علي بن عثمان الزيلعي.

3 – ومما قرأه على والده أيضاً: الكتاب الذي تطابق اسمه ومسمّاه: (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع) لإمام عصره، وفقيه دهره العلامة الكاساني ثم الحلبي، وهو الكتاب الذي تميز عن سائر كتب فقه المذهب الحنفي بحسن التنظيم والترتيب مع الاستدلال والتعليل، وسلاسة العبارة، وأدب النقاش، واستيفاء الدليل من المنقول والمعقول. وغير ذلك من الكتب النافعة التي كونت شخصيته العلمية والأدبية.

نهوضه بالتعليم

لما جاوز الشيخ محمد الزرقا الخامسة والسبعين من العمر، وأدركه تعب الشيخوخة، أسند وظائفه إلى ابنه الشيخ أحمد ـــــ وقد رأى فيه الأهلية لذلك ـــــ فحلَّ مكان أبيه في الجامع الكبير (الأموي) وفي المدرسة الشعبانية، وفي جامع آل الأميري (جامع الخير).

وفي مطلع العشرينيات من هذا القرن الميلادي، أنشأت مديرية الأوقاف الإسلامية بحلب، أول مدرسة شرعية نظامية في بناء مدرسة وقفية كبرى هي المدرسة الخسروية، التي خرجت أجيالاً تلوَ أجيال من طلبة العلم الذين غدوا بعد ذلك من كبار علماء البلاد السورية فعين الشيخ فيها أستاذاً لتدريس الفقه الحنفي في صفوفها العالية.

صفته وسجاياه

وأعود للحديث عن الشيخ الفقيه أحمد الزرقا رحمه الله تعالى، كان الشيخ وسيماً جميلاً، طويل القامة، لبَّاساً بحيث ما يدانيه في هذا الجانب أحد، ذكر عارفوه أنهم لم يروا أحسن مظهراً منه رحمه الله، وكان ذا هيبة عظيمة، وشيخوخة نيّرة كما قال الشيخ محمد الحامد وأضاف "ولكنك إذا خالطته، لمست فيه نفساً طيبة" .

أما فضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى فقد أطال في وصفه وذكر سجاياه ومما قاله: "كان ... جميل الطلعة، منّورَ الشيبة، وقوراً في مشيته، ومجلسه، وحديثه، لا تشبع العين منه رؤية ونظراً يتحلَّى بإباءٍ وشَمَمٍ ورجولة كاملة، وحَصَافةٍ وافرة إذا دعت الحاجة إلى الوقوف في وجه باطل أو مبطل، كان موقفه أثبت من الجبل الراسي في نصرة الحق، ودفع مُعاديه". وأضاف الأستاذ الشيخ محمد زين العابدين الجذبة رحمه الله فقال: " كان رحمه الله تعالى يجيب الملهوف ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، حتى عُرف بهذا وقصد من أجله".

مكانته العلمية

يقول العلامة الورع الشيخ محمد الحامد رحمه الله تعالى: "الأستاذ الشيخ أحمد الزرقا الفقيه الجليل الذي لم أجلس إلى أفقه منه، حتى المشايخ الذين تلقيت عنهم في مصر من بعد, بلل الله ثراه، وأغدق عليه شآبيب رحمته، كان يتفجر علماً، ويتفتح تحقيقاً، ويجري معرفة كالوادي إذا سال، ولكأن الفقه كان أمامه يأخذ منه ما يشاء، ويترك ما يشاء".

وعن مقامه العلمي قال أستاذنا الفاضل الشيخ محمد زين العابدين رحمه الله تعالى: " كان الشيخ أحمد فقيهاً متضلعاً من الفقه على مذهب السادة الحنفية، قلَّ نظيره بين العلماء اطلاعاً ومعرفة، ولم يكن ناقلاً فحسب بل كان ذا رأي وبصيرة عن أهلية لا عن دعوى، وكان يضم إلى الفقه علوماً شتى، وخاصة الأدب شعراً ونثراً، يحفظ من القصائد، والمقطوعات الشعرية، والنثرية ما لم نجده عند غيره".

وعن الجانب الأدبي في شخصيته يقول العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمة الله عليه: " كان الشيخ ولعاً بالأدب القديم، متعمقاً في اللغة العربية، وآدابها، كثير المطالعة في كتبها من المصادر الأولى ذوَّاقة للشعر الأصيل ، راوية له، حفّاظاً للأخبار، ولم يكن يقرضُ الشعر، ولا عرف عنه أنه مارس نظمه ".

مع الشيخ في مجالسه ودروسه

ذكر تلاميذ الشيخ أنَّ علامتنا رحمه الله كان مع شكيمته القوية وهيبته البارزة "لين الجانب لطلبة العلم بخاصة، والناس بعامة بعيداً عن التكلف، محباً للبساطة، سخياً سمحاً، حافظاً للصداقات وحقوقها، وكانت مجالسه: تعلم الفقه أولاً، والأدب ثانياً: أدب الخطاب، وأدب النقاش، وأدب المجالس الخاصة والعامة، وكانت تدور فيها الفوائد العلمية من كل جانب، والنكت المفيدة اللطيفة يمزج تقريراته العلمية بمزح لطيف، ومداعبات حلوة، يريح بها طلابه من صعوبة الفقه، فتنشط النفوس، وتشحذ الأذهان ثم يعود إلى الفقه الذي كان روحه وريحانه. وكان الشيخ في دروسه قلّما يجنح إلى جانب الوعظ والتخويف، فإنه كان يرى الفقه في الدين مقدَّماً على ما سواه من الوعظ والتذكير، وهذه مسألة قابلة للنظر وتحتاج إلى إيضاح وتفصيل، ولها موضعها المناسب من البيان في غير هذه المقالة.

وكان الشيخ محباً لطلابه، يحدب عليهم، ويرعاهم، ويكرمهم ومن لطائفه مع طلابه ما حدثني به أستاذنا الشيخ محمد زين العابدين الجذبة رحمه الله قال: دعانا الشيخ ـــــ معشر طلابه ــــ ذات يوم إلى بستان للنزهة فوصل الطلاب قبل الشيخ، الذي جاء في عربة حنطور، تحمل أطعمة شهية، وكان في هذا الطعام خروف محشي مع جميع لواحقه، ففرح بذلك الطلاب، وأدخل الشيخ عليهم من السرور في هذه النزهة ما لايوصف.

لقراءة الترجمة كاملة يرجى تحميل الملف أدناه

تحميل